ماذا لو عاش المرء عزلة فكرية داخل قشرة جوز؟

قشرة الجوزة
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

إبراهيم فرغلي

كم يبلغ عمر هاملت اليوم؟ أربعة قرون تقريبا؟ فكيف نراه اليوم؟ أما زلنا نرى فيه ما رآه قومه قبل أربعة قرون؟ وماذا لو أنه ولد اليوم؟ صحيح أن الظروف اختلفت كثيرا، لكن هل اختلف سلوك البشر؟ أليس ثمة خيانة؟ قصص حب بين امرأة ورجل غير زوجها؟ الانتقام والثأر، لا يزالا من سلوكيات العصر الراهن؟

في الحقيقة أن أحد أسرار هاملت واستمراره حيا إلى اليوم، قراءة وعروضا مسرحية، وتجسيدا على شاشة السينما بنسخ مختلفة، يتمثل في أن الأسئلة التي طرحها قبل عدة قرون لا تزال حية، ابنة عصرها وابنة عصرنا. وها هو لا يزال يلهم كتابا وسينمائيين ومبدعين حتى اليوم.

لعل هذا ما سوف يرد لذهن من يقرأ رواية إيان مكّيوان الصادرة بعنوان “قشرة الجوزة”، من ترجمة المترجمة إيمان أسعد، والصادرة عن دار كلمات.

صحيح إنها رواية من عصر مختلف تماما عن زمن شكسبير وهاملت، وابنة بيئة ثقافية شهدت تغيرات كبيرة، بالنظر إلى النهضة ثم الحداثة اللتين مرت بهما بريطانيا وأوروبا، ونيوزيلاندا التي تأتي مكانا لوقائع النص العصري، لكنها من جهة أخرى ترينا كيف أن الأخلاق البشرية لم تواكب هذه النهضة على ما يبدو، فبعد أربعة قرون من تناول قضية أخلاقية مثل تلك التي تناولها شكسبير في نصه الخصب المتجدد، يبدو الأمر قابلا للتكرار، مرة ومائة وألف مرّة.

مهما تنوعت نماذج الثلاثي الشائع: العشيق والزوجة والضحية، أكان ملكا نبيلا كما كان هاملت الأب في زمن شكسبير، أو شاعرا مغمورا مثل جون، كما يقدمه مكيوان في قشرة الجوزة.

شكسبير قبل نصف قرن اخترع شخصية هاملت (وشبح أبيه الذي يحمل نفس الاسم)، التي خلدتها أفكاره وخواطره الناجمة من الصدمة. صدمة أخلاقية قوامها الذهول. أن ملكا مثل والده يتعرض للخيانة ومن من؟ من أقرب الناس إليه :زوجته وشقيقه.

فمن هو هاملت هنا؟ هاملت المعاصر؟

ثمة جملة مفتاحية يمهد فيها المؤلف لمعنى محاولته، وهي مستلهمة من جملة لهاملت يقول فيها “رباه! بوسعي أن أُحصر في قشرة جوزة، وأعدّ نفسي ملك الرحاب التي لا تحد، لولا أنني أرى أحلاما مزعجة”.

فماذا لو تحققت مناجاة هاملت تلك، محصورا في قشرة جوزة (في ترجمة جبرا إبراهيم جبرا، أو في داخل بندقة بترجمة د. عبد القادر القط)؟ النتيجة هي رواية قشرة الجوزة.

لكنه هنا كيان مختلف، يماثل الشبح، موجود وغير موجود. يعرف من حوله بوجوده ولكن لا يراه أحد. يراقب ما يحدث حوله بواسطة الإنصات، يسمع ويفسر ويشعر ويراقب، ولا يسمعه سوانا نحن القراء الذي تصلنا مشاهداته وأفكاره عبر صوته السردي. فهو جنين في بطن الأم. شاهد صامت على كل شيء، ولكننا نسمع صوته من مكانه الخفي لكي نرى الحقيقة. ونرى أحلامه التي تتشكل بينما هو قابع في قشرة جوز مجسدة في رحم الأم!

وليس مضمون النص، فقط، هو ما يحيلنا إلى هاملت، فثمة إشارات تأتي على لسان الجنين الناطق منسوبة لهاملت، وأخرى من نثر شكسبير في سونيتاته أو غنائياته، أو من نصوص أخرى مثل ماكبث.

لكننا في النهاية لا نقرأ هاملت، بل نقرأ نصا حداثيا لجنين شاهد على واقعة خيانة الأم (ترودي)؛ (وهذا أحد أوجه الاختلاف، فهاملت المعاصر شاهد لا يأتيه الشك عن الخطيئة، يسمعها ويعرف بها ولا ينتظر طيف أبيه المقتول ليخبره بها)، منصتا لهواجس أمه وخواطرها، وحواراتها مع العشيق (كلود)، ومع الأب، الزوج، الشاعر المغمور جون كيرنكروس، المحرر، وصاحب دار النشر المختصة بنشر الشعر، والذي عاش مع الأم قصة حب طويلة شاعرية، لسنوات، انتهت بزهد الأم في العلاقة بعد نجاح محاولات الحمل بجنين جاء في الوقت الضائع.

ينصت الجنين/ الراوي لكل ما يحدث من حوله، ويحاول أن يتخيله، ويستمع لما يجري في العالم من خلال ما تنصت له الأم من بودكاستات في أي وكل موضوع يتاح لها: من الوثائقيات إلى طرق الطهي، ومن تأثير هجرات العالم الثالث إلى أوربا إلى ما يجري من الإسلاميين من محاولات الانتقام في أرجاء العالم، وما يعنيه ذلك لبريطانيين شهدوا تفجيرات أو عمليات قتل لمواطنيهم على يد المهاجرين.  

يتماثل الجنين/ الراوي مع هاملت في النشاط الذهني الكبير، التفكير في كل شيء، وتحليل كل ما يدور من حوله، وكذلك في تشابه طبيعة العلاقة المضطربة بالأم ما بين الحب والمقت، وكراهية العم، وكذلك في التردد، مع اختلاف المبررات، فقد كان تردد هاملت في الثأر لأبيه يعود لمبررات دارت حول تحين الوقت الأمثل، وهل يأخذ ثأره من عمه وهو يصلي ندما على ما اقترفه، أم ينتظر أن يكون في حالة إثم يغدو عندها قتله داعيا أن يحمله إلى جهنم بآثامه من دون فرصة للتطهر والتوبة.

 أما الجنين فيتردد بسبب وضعه، سجينا في قشرة الجوز، بالأحرى في رحم أمه، مقلوبا على رأسه، منتظرا لطعامه ونبيذه. ‏ لكنه سيصارع السؤال الوجودي نفسه ووفق ظروفه المختلفة: أكون أم لا أكون؟ ‏

ومع ذلك، فحين يقرر أن ينتقم بطريقته ويقرر أن يلف الحبل السري على رقبته لكي يقتل نفسه، يجد لاحقا أن موته لن يؤدي لتعذيب المجرم الرئيس، فيقرر أن يستمر، “أن يكون”، أن يوجد حتى يحيا ويرى العالم، ويشهد المئوية الجديدة، ليرى بنفسه إجابات الأسئلة حول العالم، ومستقبله. أين ستصل به مؤسسات العولمة الحديثة؟ وكيف سيؤول مصير الجماعات الإسلامية في العالم، تلك الممثلة لمجتمعات لا تزال تثأر لنفسها بالقتل. وقضايا ترتبط بكافة المتغيرات التي تشهدها أوربا والعالم.

لعل هذا ما يلفت الانتباه إلى اختلاف آخر بين هاملت وهذا الجنين، فقد كان هاملت مشغولا بذاته هو، بقضيته، بالكيفية التي سيأخذ بها ثأره لأبيه. بخيانة أمه، بهذا العار الذي يضطر أن يعيش به وبه يملأ نفسه بالحقد اللازم للانتقام. كما ينشغل بقضايا أخلاقية ووجودية تخص أي إنسان يمتلك ضميرا، لكنها تظل ذاتية، بينما الجنين يبدو مهتما بالآخر، بالأب، والأم والعم، بالعالم في الخارج، بمؤسسات الجامعة، بالمستقبل حتى عام 2099، وبجماليات الشعر، وبرواية عوليس، التي كانت بين المواد التي تنصت لها الأم، والتي يقتطف منها في حديثه، وبالطابع الذاتي الأناني للقصيدة الحديثة.

يقول مثلا: “معظم القصائد المعاصرة تجمّد أوصالي، تثير فيّ القشعريرة. معظمها تنصب على الأنا، كامدة باردة تجاه الآخر، ومظالم وشكاوي كثيرة محشورة في أبيات قصيرة”.

ويمكن للقارئ أن يتأمل الكثير من أوجه التلاقي والاختلاف بين هاملت الأصلي وهاملت قشرة الجوزة، فالنص كثيف ويحتمل التأويلات.

وهذا في تقديري السمت الذي اختاره المؤلف إيان مكّيوان ليكتب رواية عصرية مستلهمة من شكسبير، فقد أنطق الجنين/ هاملت العصر الحديث، بالعديد من الملاحظات والتأملات الفكرية والوجودية والسيكولوجية، وعبّر عن تناقضات العصر؛ الطريقة التي تقتل بها المجتمعات الرأسمالية الحديثة الشاعر بالنبذ والتهميش والفقر والديون، والتخلص منه قتلا إن اقتضى الأمر من أجل أن تحقق الرأسمالية الجشعة أطماعها. وعن المبررات التي يجدها القتلة لأنفسهم: الحب، الغيرة، الحقد، الطمع.

لأجل ذلك اختار لغة مكثفة، بها تركيبات شعرية، مستلهمة من شعراء كبار من حقب مختلفة: ويليام بلايك مثلا، أو ويلفريد أوين، مايكل درايتون وسواهم، وبدا حريصا على منح النص فخامة لغوية مستلهمة من لغة شكسبير، بدلالاتها المتنوعة، وقد تجلى لذلك حرص المترجمة في الاستعانة بنسخة ترجمة جبرا إبراهيم جبرا لهاملت. وهو اختيار موفق لأن ترجمة جبرا رغم عدم سلاسة مواضع عديدة فيها لكنها الأحرص على إحياء لغة شكسبير بغموضها وتكثيفها وتركيبها.

وليس أدل على خصوبة لغة شكسبير، وهو في لغته الإنجليزية يشرح بهوامش عديدة، وفق ما أبلغتني به المترجمة إيمان أسعد، من أن نص هاملت قد تُرجم على يد ثمانية مترجمين، قمت بإحصائهم وقد يكون هناك أكثر (قرأت منها إضافة لترجمة جبرا ترجمتين هما ترجمة عبد القادر القط وهي الأكثر سلاسة ووضوحا، وترجمة خليل مطران وهي مترجمة عن النسخة الفرنسية)، لكن هناك أيضا ترجمة لكل من: د.محمد عناني، جمال عبد المقصود، د.محمد عوض، صلاح نيازي، محمد مصطفى بدوي). أي أن شكسبير في الحقيقة قد يكون فخا لغويا كبيرا يحتاج جهودا كبرى لفهم دلالات لغته، وهذا هو الأثر الذي يبدو جليا في نص قشرة الجوزة، واجتهدت المترجمة في دعمه في العربية بمفردات خاصة. من بينها مثلا : وقر أي (الحمل الثقيل)، أو “وشيع” أي (السياج المكون من شجيرات متلاصقة)، الصخن (الضباب الذي خالطه الدخان ولوثه)، وغيرها من كلمات أو مرادفات وضعت لها المترجمة هوامش.

يتأمل الراوي الجنين فكرة الانتقام باعتبارها لذة للخيال البشري، لكنها إن انتقلت من الخيال إلى الواقع فإنها تغدو خطيئة، ويرى أن هذا هو موضع إخفاق الحداثة التي لم تنجح حتى اليوم في ردع الخيال البشري لكيلا يحول الشر الذهني إلى خطيئة في الواقع.

لا أود إفساد الرواية على القارئ بالحديث عن الخيار الذي اتخذه الجنين، وتفاصيل الجانب البوليسي أو المتعلق بأدب الجريمة في النص، ولا أفكار الجنين حول وسيلة تنال بها الأم عقوبتها على جرمها من دون أن يتعارض ذلك مع مشاعر حبه الشديد لها. فهو متيم بها، يتحدث عنها دائما بصيغة تجمعهما في كيان واحد: ذهبنا أو وقفنا أو صعدنا. الخ.

وهو نص يحتمل ويستحق أكثر من قراءة، وأكثر من تأويل.

 “إيان مكّيوان” كاتب روائي بريطاني، وكاتب مسرحي، ومنتج أفلام، وكاتب سيناريو، وعضو الأكاديمية الأميركية للفنون والعلوم، والجمعية الملكية للأدب.

حصل على جوائز منها: “جائزة القدس 2011، جائزة بوكر الأدبية 1998، قائد وسام الإمبراطورية البريطانية”.

…………………..

*قشرة الجوز لإيان مكّيوان، ترجمة إيمان أسعد، صدرت عن دار “كلمات”، 2020

 

مقالات من نفس القسم