زهير وسلاس
أبلغ اليوم الستين من عمري، وربما جسدي قد سبقني بسنوات. لا بأس، بل هذا جميل. تخلصت من أوزار حملتها عديد السنين. لكن.. ماذا كنت أريد أن أفعل الآن؟ نسيت مجددا. وعلى كل، ما الأمر المهم الذي قد يقدم على فعله عجوز مهترئ صارت عظامه تصدر صريرا كالأبواب الموصدة لمدة من الزمن؟ وياله من زمن مضحك وتافه. كما أنه قد يبدو غير كذلك لشاب في مقتبل العمر يعيش حالة غموض مع نفسه، مع الآخرين، والعالم.
من سيبحث في زمننا هذا عن حياة جديدة في أرذل عمره؟
سأنتظر لعلي أتذكر ما كنت أنوي القيام به.
ربما لو سمعني أحدهم لظنني كنت بصدد فعل أمر ذا أهمية، بالنسبة لي على الأقل، وبكل تأكيد.. لا.
منذ ست سنوات تقريبا وأنا لا أفعل شيئا مهما سوى إنفاق الوقت على عاداتي اليومية السخيفة التافهة الجميلة، بين جدران شقة في الطابق الأرضي، بممراتها الضيقة، وغرفها الصغيرة التي لا يصل إليها ضوء الشمس.. أو أبدد الساعات الطوال في مقهى مجاور مليء بالبسطاء، والغامضين، والتائهين، والمقامرين، والعجزة الذين -كحالي- لا يعرفون ما يفعلون بأنفسهم. وكم كثيرة هي الأوقات التي لا يجد فيها المرء ما يفعله بنفسه حتى يلقي بيها فيما لم يخطر على باله يوما.
في السابق، أفنيت سنوات عديدة في انتظار أشياء عديمة الجدوى. الآن، لا شيء يبعثني على الانتظار حقا. ومع ذلك سأنتظر، فلا يمكن عمل أي شيء آخر. ولا عجب في هذا الحال، فكلنا ننتظر.. ننتظر أمرا ما.. ننتظر حصول أمر ما. إلا أنه، وفي مرحلة الشباب، يكون لانتظار وقع مختلف على النفس؛ وقع زاه بهي بهيج، كانتظار الراتب، أيام العطل، مولود جديد، عودة غائب، نتيجة مباراة، انتخابات… أما الشيوخ البؤساء السعداء مثلي، فصباحنا كمساؤنا.. نعيش نفس اليوم كل يوم.. كسجين ثُبت حول كاحله سوارا إلكترونيا قبل إطلاق صراحه.
سأنتظر، ربما استذكرت ما كان بودي فعله، أو ريثما تغتالني غفوة لذيذة على صوت السيدة أم كلثوم المنبعث الآن من مذياع محمول بات ونيسي الوحيد بين أشيائي الصامتة صمتا مريبا.
أبي أيضا كان ينتظر. انتظرني لأكبر، وأعمل، وأتزوج، وأنجب له أحفادا يتحلقون حوله ليروي لهم حكايات لا تنتهي عن شبابه الذي أبلاه في الثكنات دفاعا عن التراب، والجبال، والصخور، والوديان، والأنهار… كان توّاقا لحياة جديدة، وأسرة سعيدة، ليعوض ما فاته من ذلك في أيام شبابه، داعيا ليلا نهارا، سرا جهارا، لبلوغ مبتغاه. وبلا ريب.. خاب أمله.
كنت أفهم والدي جيدا. كان يستمد قيمة ذاته من أدائه للواجب وامتثاله للقواعد، وصار يستشعرها من سرد ذكريات عن نفسه وحياته بعد أن تقاعد. صوره القليلة بالزي العسكري كانت تعطيه إحساسا بالأهمية والفخر.
أتذكر جيدا ابتسامة النصر تعتري وجهه المجعد إلى حد ظهور ضواحكه الداكنة من فمه المختفي خلف شارب كث خلال حكيه لي عن أساليب وحيل أبقته صامدا في صحار بعيدة يلفها الفراغ. وأتذكر عينيه المتلألئتين بالدموع المنحصرة بين الجفنين عندما يرفعهما نحو صورته المعلقة على الجدار مستغرقا في النظر إليها حينما لا يجد ما يفعله، أو ربما حينما كان ينسى ماذا يريد أن يفعل مثلما حدث معي الآن. بت أفهمه الآن أكثر من أي وقت مضى.
يصعد فوق كرسي قش مترنحا كبهلوان يمشي على الحبال. يجذب الصورة من المسمار المثبت في الجدار. يتفحص الصورة ويتمعنها كأنما يقرأ خبرا في صحيفة قديمة متآكلة انمحى معظم ما كتب فيها. يظهر في تلك الصورة واقفا بزي عسكري زيتي خال من أي رتبة، يعتمر قبعة غريبة الشكل تشبه الخيمة الاسفينية، وينتعل حذاء ذو نعل سميك. يمعن النظر في نفسه، في الشاب الذي كان عليه. يقلب الصورة على ظهرها حيث كُتب تاريخ منسي إلا في ذاكرته. يقرأه بصوت عال متعمدا سلب انتباهي، ثم يصمت قليلا لحث ذاكرته على قذف حدث ما يستهل به حكاية من حكاياته المفعمة بالإثارة، والمغامرات المضحكة، والعبر.. يلقي بكل شيء على مسمعي إلى أن يزفر تنهيدة من صدره بوجه متجهم قائلا: “عليك أن تنام”. فهمت بعد حين أن تلك التنهيدة لم تكن سوى غيمة حسرة عملاقة مضغوطة مخفية كحقيقة مرة يتحاشاها بسرعة برق مخافة أن تمطر؛ لأنه لم يتقبل حقيقة كونه جنديا مجهولا لم يسمع عنه أحد. لذا كان ينسج من فراغه العارم، وانتظاره الدائم، قصصا ذات مغزى عن حياته الشبيهة بقصاصة صحيفة قديمة متآكلة تعبث الرياح بها في المنتزهات المهجورة.
كنت أصغي لحكايات أبي بكل جوارحي، وأرى فيه البطل الباسل الشهم. لكن، وبعد أن كبرت قليلا، وبدأت في استعاب الأمور من حولي بشكل مختلف نسبيا، بت أرى عجوزا يائسا، ضعيفا، مريضا، مقهورا، مخذولا، موهوما.. عمره البيولوجي يزيد بعشرين سنة عن عمره الحقيقي، بسبب أثقال كثيرة حملها لوحده على أكتافه في عز سنوات عمره. صحيح أنه لم يكن يشتكي أبدا، ولا يظهر ضعفا، لكن، أيضا، لم يكن بمقدوره لا الجلوس بثبات، ولا الوقوف باستقامة، ولا المشي لمدة طويلة، بل لا يستطيع، بالرغم من عناده، حتى إمساك الكوب بيده جراء إصابته بالباركنسون.
كان أبي مقامرا بارعا قبل أن يشتد مرضه.. تعلم حيل اللعب من الجنود في الثكنة، واكتسب خبرة واسعة من خسارات لا تحصى في حانات رخيصة أمسى مدمنا على ارتيادها مع رفيق دربه إدريس. لكن المهم أنه وجد، حينئذ، دائرة يدور حولها. والأهم أنه كان مستمتعا إلى حد يقبيه منشغلا عن سماع أصواته الداخلية. أصوات ما انفكت تطن في رأسي أيضا تلك الأيام كذباب في أكياس لدائن مسدودة.
جندي سابق ومقامر لماح، له نصيب من الحذاقة والنباهة.. بالكاد علم أن عظامي اكتست جلدة مختلفة منذ ريعاني شبابي، وأني بت أسلك طريقا أخرى. لم يعترض، بل تركني لريح الأيام وعصفها المجهول لعلي أهتدي سبيلا أفضل، رغم قناعته الراسخة أن الحياة العسكرية ملائمة لي. كان يقول لي : “لو أسعفتني التحق بالمدرسة العسكرية”. ودائما ما تهاجمني بعض الأسئلة كالنحل الطنان عندما أنبش خلية الماضي :
ماذا لو التحقت آنذاك بالمدرسة العسكرية؟
ما الطبيعة الجوهرية التي كان من الممكن أن أكون عليها، فكرا، وشعورا، وتصرفا؟
هل نظرتي لنفسي، للغير، للعالم الخارجي، ستكون مختلفة عن ما هي عليه الآن؟
ما الشيء الذي سيظل فيّ ثابتا، وما الذي سيتحول؟
هل كان من الممكن أن أصير شخصا آخرا لا يشبهني؟
لكن، وبعد زهاء عقدين من الزمن عشتهما وحيدا حرا طليقا كذئب الجبل، واجما جامدا كرجل قش في حقل سنابل، أعتقد أنه لكل بيئة أياد خفية تقوم بخلطنا، وعجننا، وتطويعينا.. تحولنا من كتلة طين لدنة إلى أشكال لا نهائية، ثم…
إنني، وبمطلق اليقين، لست متأكدا من أي شيء. هذه طينتي الأصيلة، وطبيعتي المتجذرة.
كان أبي سعيدا بعملي كمدرس بسيط بعد تعييني بإحدى القرى المنسية. بدأ في ترتيبات زواجي من بنت صديقه ورفيق عمره إدريس، قبل الحكم على هذا الآخير بالسجن المؤبد على إثر ارتكابه جريمة قتل بحق شاب ثلاثيني، حفيد مقاول معروف في المنطقة، تمت تبرئته من قضية اعتداء جنسي على فتاة صغيرة دون الرابعة عشر، وهي نفسها بنت إدريس. وعلى الرغم من أن كل شيء كان يجري لمصلحة المتهم طوال المحاكمة، ظل إدريس ينتظر بكل هدوء وبرود.. أحسست، حينذاك، أنه يريد داخل قرارة نفسه أن تتم تبرئة عدوه، فهذا الأمر سيضفي، بالنسبة له، الشرعية على ما هو عازم عليه. كانت غريزته في الانتقام وأخذ حقه بيده تقتات على انتظاره لما ستسفر عنه آخر جلسات المحكمة. وكان له ذلك بالفعل. فبعد مرور أقل من سنة على الحكم القاضي ببراءة المتهم، نفذ فيه إدريس حكمه بالإعدام. خطط لانتقامه بدهاء عسكري مدرب على مطاردة الأشباح في القفار المظلمة. كانت تلك حربه الوحيدة، فكثيرا ما تحسرا، والدي وهو، على عدم خوضهما حربا حقيقية. كان إدريس منتشيا بنصره.. وقد سلم نفسه، بكل فخر واعتزاز، بعدما طاف على معظم الأحياء والأزقة المجاورة صائحا: “ظل يتوسلني.. سحقته كحشرة.. غسلت عاري”. لكن تلك قصة أخرى.
بدأ أبي في ترتيبات الزواج بحماس كبير، بل بدأ في الترتيب لحياة جديدة كاملة في أرذل عمره كما رسمها في ذهنه، متوهما حريته من سجن انتظاراته الأبدي. لكنه ما فتئ يهنأ ويستمتع بخلاصه النسبي من الوحدة والكدح والحرمان ولفح شموس ورياح ستة عقود كاملة، حتى وجد نفسه مقحما في زنازين انتظرات جديدة: مواعيد زيارة الطبيب، الشفاء، المغفرة، والراحة الأبدية.
مات أبي. تركت كل شيء وهاجرت إلى مكان بعيد. عملت في مزرعة بالصدفة. أحببت كثيرا وقتها طبيعة عملي الجديد. قضيت، بالتحديد، سبعة عشر سنة كمزارع.
في الأصباح الباكرة، كنت أحفر التربة، أعتني بالمحاصيل، أروي النباتات، أزيل الأعشاب الضارة، وأعتني بالماشية والدواجن.. وفي نهاية المساءات، أذهب للشرب في الحانة وحيدا، أو بصحبة حسناء أتصيدها بعناية حينما يسعفني الحظ، أو تتصيدني هي حينما يحبني الحظ. نشرب ونرقص.. ثم نذهب لنقضي اللية معا غير آبهين لما يجري في العالم الشاسع.
اقترب الفجر. مر وقت ليس بيسيرٍ وأنا أحدث نفسي.. عديدة هي اللحظات التي أجدني فيها خائضا في أحاديث مطولة مع أناي، ربما لأنني أحس نفس الشعور الذي كان يحسه والدي عندما كان يروي لي حكاياته الطريفة. إلا أنني أحكي لنفسي وللفراغ؛ فليس لي أحد. ولكنني مرتاح البال، وأعيش حياة هنيئة بكثير، أحاول قدر الإمكان الاستمتاع بوقتي، خلافا لما كنت عليه وأنا شاب في نهاية العشرينات، فقد كنت أحب أن يمضي الوقت سريعا فحسب، وغاليت في التعمق ومخاطبة الذات.. بدل التمتع بملذات الحياة.. فلم يزدني ذلك إلا غرقا في الحيرة والاغتراب، جراء إسرافي العليل في تحليل تفاصيل وصغائر الأمور. كنت كمن يحاول تمرير كبة صوف كاملة من سم إبرة. كنت واهما أراد صنع كوة في جدار أغماض أزلية.
أخرج في الثلث الأخير من كل ليلة. أمشي بتؤدة خلف المباني السكنية مجيلا نظراتي في خلاء ممتد تسقط عليه عتمة لامتناهية تحت سماء أرجوانية مرصعة بنقط بيضاء وهاجة يبزغ من بينها وميض بدر يزيد من سحر الإنارة الصفراء لأعمدة التيار الكهربائي المنتصبة كأصنام على حافة طريق معبد يتراءى منه أطياف كلاب وقطط تحوم فوق مكاب الأزبال. أدخن سيجارة. أعود أدراجي قبل تحول السماء إلى اللون الرمادي.
قبل أن أخرج، سأضع الغلاي على الموقد لأصنع شايا بالنعناع، الأمر الذي كنت أريد أن أفعله قبل ساعتين من الآن، احتفاء بذكرى ميلادي. أحب صوت صفير الغلاي، دوشة أواني المطبخ، هسهسة محرك الثلاجة، وصرير الكرسي.. يبدو أن أشيائي ليست صامتة تماما! بل الصمت كله صمتي أنا. وعلى كل، ما الأمر المهم الذي قد يقدم على قوله عجوز مهترئ مثلي !
………………
*كاتب من المغرب