ماذا بعد سرمدية الجحيم؟.. الإجابة: “لنتابع”

سارتر
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

أمنية عادل

يُقال “سيد نفسه من لا سيد له”.. من ما بلا سيد، فدائما هناك آخر حتى وإن لم تكن العبودية بمفهومها المادي المعروف فنحن أسرى لأفكار غيرنا ونظرة غيرنا وللآخرين آثر بنا حتى وإن لم نلحظه أو نتغافله، هذه الرؤية تجسدت في مسرحية “الأبواب المقفلة” للمفكر والفيلسوف الفرنسي “جان بول سارتر” المُلقب بأبو الوجودية، فالإنسان لا يكتمل وجوده إلا بالآخر، الذي يعتبر مُعذبه وجلاده، ورغم كره الإنسان للعذاب لكن حياته لا تكتمل من دونه، فنحن نحتاج لبعضنا البعض كما نحتاج لأنفسنا ولا يكتمل الوجود الإنساني إلا بتوفر عنصر “الآخر”، ومع هذه السرمدية يستمر الوجود والعذاب ولا ينتهي إلا بالموت، حتى بعد الموت لا يسلم الإنسان من العذاب، وهو ما حدث في مسرحية “الأبواب المقفلة” التي كتبها جان بول سارتر في عام 1944، أي قبل نهاية الحرب العالمية الثانية بعام واحد.

ينتمى جان بول سارتر إلى الجيل الذي عاصر الحرب العالمية الأولى وما جر من أزمات حطت على البشرية ودفعتها نحو هاوية اليأس والاحباط، وجعلت من الإنسان آلة للقتل، فإما أن يكون منتصر أو منهزم، ولكن السؤال هل يرى سارتر الحياة بهذا المنظور؟.. الإجابة لا، فسارتر نفسه يرى أن الإنسان معذب باختياره، سواء كان الهزيمة أو النصر فهذا كله لا يمثل أي خطوة نجاح، بل على العكس فاختيار الإنسان لخوض الحرب، حتى وإن كان منتصرا بها، ستعود بالضرر على غيره من بنى الإنسان.

اتضحت ملامح فلسفة سارتر الوجودية في العمل الذي نحن بصدده، مسرحية الأبواب المقفلة، هذه المسرحية الخطابية التي تقدم ثلاث نماذج من البشر كل منهم يلهث في طريق مختلف لكنهم يتقاطعون في حاجتهم الماسة لبعضهم البعض، هذه الحاجة المكرهة لهم، فهم لا يريدون البقاء مع بعضهم كذلك لا يستطيعون الابتعاد، وهذا يمثل جزء من أزمة الإنسان.

فبالنظر إلى الشخصيات الثلاثة المجسدة بالمسرحية والذي هم رجل وامرأتان، جارسان، إيناس واستيل، هؤلاء الثلاثة الذي لا يعرفون بعض في الحقيقة أو الحياة، لكن يُقدر لهم البقاء معا للأبد، هذا الأبد، غير معلوم متى ينتهي فهو أبد.. ما يعكس سرمدية الوقت، كذلك فهم لا ينتمون إلى مكان آخر، وكأنهم واقعين في فجوة زمكانية تحتم عليهم البقاء إلى جوار بعضهم البعض، يعذب كل منهما الآخر، وكما قال “جارسان” في النهاية “حسنا لنتابع” فكلما انتهت الحرب المشتعلة تبدأ من جديد.

عبودية حتمية

استيل سيدة شابة شقراء جميلة بشكل ملحوظ لها قوام آخاذ وعقل فارغ، تأسر ايناس التي تكره الرجال وتفضل معاشرة النساء، لكنها تواجه رفض استيل لها وتفضيل جارسان، لكونه رجلا، في الوقت الذي يرفضها جارسان ويرفض سطحيتها وكونها لا تشتهي منه إلا كونه رجل يستطيع تقبيلها وإشباع شهوتها، ويفضل أن يقنع ايناس بكونه شجاعا وليس جبانا كما تحدثوا عنه، فهو الذي هرب من أداء واجب الحرب وقُتل بناء على ذلك، لكن ايناس لا تشبع هذه الرغبة الكامنة بداخله، فهي تجده منافس لها في استيل، لهذا تستمر في تعذيبه من خلال كلمات لا تقتله كما فعل الرصاص وإنما تمزق روحه، الشي الوحيد الذي بقى له، ففي الجحيم لا يموت الناس مرة أخرى كما الحياة وإنما تتعذب أرواحهم، في الوقت نفسه تستمر دائرة العذاب دن توقف، فايناس التي تمثل عنصر القوة بالنسبة لجارسان هي عبدة لشهوتها في استيل، وبالتالي فجميعهم يخضعون لبعض.

فاستيل عبدة لجارسان لأنها تشتهيه وجارسان عبد لايناس لأنه يريد أن يقنعها بأنه ليس جبان وأيناس عبدة لاستيل لأنها تشتهيها، دائرة لا تنهي لأن كل منهم لا ينفذ رغبة الآخر، وبالتالي تستمر التعاسة كمصير دائم لهم، والدليل ما قالوه جميعهم في النهاية بأن الأمر يستمر “إلى الأبد”.

كما تدين تدان

كون ثلاثتهم في الجحيم، هذا يعني أنهم كانوا سبب أيضا لعذاب الآخرين، لهذا فهم، في الجحيم، جلادون بعضهم البعض، ايناس صرحت أنها بحاجة لآلام الآخرين لتشعر بوجودها، بهي كالشعلة عندما تكون وحيدة تنطفئ، هذا الوصف يفسر فعلتها وأنها دفعت شريكتها دفعا للانتحار عن طريق الغاز وكانت هي مستلقية بجوارها على السرير وبالتالي ماتت بفعل الغاز، هذا التوصيف لا يوضح فقط طبيعة ايناس وإنما يفسر سبب وجودها، وكل من استيل وجارسان كان جلاد أو مُعذب لغيره من الأشخاص في الحياة.

كما هو واضح من حديث جارسان وايناس وتكرار جملة “أنا غير آسف على ذلك” أي العذاب الذي ألحقه بالآخر في حياته، فجارسان، الذي يشبه ايناس بحسب تعبيره، كان معذبا لزوجته التي تحملت الكثير من متاعبه لمجرد أنها طيبة القلب، وكما يقول سارتر أزمة الإنسان الحقيقية تكمن في كونه مُخير، فهو من يختار ما هو عليه، فإما أن يكون جلادا أو مجلودا.

ونظرا لتشابه جارسان وايناس فكلاهما يفهم الآخر ويعرف ما يدور بذهنه،  لا يأبه جارسان بجمال استيل وبراقة جسدها وإنما يسعى لاقتناص اعتراف من ايناس بأنه غير جبان، هذا الهاجس من جارسان يعكس أزمة الإنسان، فجارسان حتى وإن أمن بأنه غير جبان فهو يعيش في نطاق “مجتمع” وإن كان مصغر في هذه المسرحية، لكنه في النهاية يتقاطع معهما، وبالتالي يود أن يكسب احترامهما، فلا يمكن أن تعيش وحيدا بحسب البيولوجيا وكذلك سيكولوجيا الإنسان تدفعه للتعامل مع الآخرين كونه كائن اجتماعي.

الحوار صلب الحياة

دائما ما يتم التواصل بين البشر عن طريق اللغة، سواء كانت لغة صوتية، كاعتماد الأصوات كسبيل للتواصل كما هو في الحضارات القديمة ما قبل التاريخ، أو اللغة المكتوبة والمقروءة والمسموعة كما هو الحال بالنسبة لبنى البشر الآن، ونظرا لأن مسرحية سارتر تعتمد على الجدل والنقاش فكان الحوار هو بطل العمل بجدارة، فمن خلاله تم طرح الأفكار ومناقشتها من خلال ثلاث أطراف لا يهدأ واحدا منهم عن طرح الأسئلة ولعب دور المجيب أيضا.

الخطابية بصورة عامة، حاضرة في أعمال سارتر الأخرى، وهو توجه في المسرح والأدب في هذا الوقت، كما طرح سارتر بعض الأفكار التي شغلته، لا يُخفى على أحد ارتباط سارتر برائدة الفسلفة النسوية سيمون دي بوفوار، التي تأثرت بفلسفته وشخصيته، وتسائلاته لها حول كونها امرأة وماذا يمثل لها ذلك، وأجابته أنها لا تشعر بفرق مع اقرانها الرجال، ويعود هو ويطرح عليها سؤالا آخر وهو، لكنك لم تتلقى تربية كتربية الأولاد؟.. في فترة الأربعينيات، كانت النسوية في الأربعينيات من القرن المنصرم تعاني وتحاول أن توسع مجالا لها، مع هذا كان لها حضور في أعمال أدبية ومسرحية كالمسرحية التي نحن بصددها.

فميول ايناس ورفضها للهيمنة الذكورية وكرهها للرجال واتجاهها لحب النساء والعلاقات السحاقية، وجد له حضور في هذه الفترة من الزمن وبادرة الاستغناء عن الرجال في العلاقة الجنسية كان له عظيم الآثر، وتوجه المرأة لهذه الممارسة لقطع الطريق على الرجل وإفهامه بأن المرأة وقرينتها تستطيع أن تنجز تلك المهمة دون حاجتها البيولوجية للرجل، تلك الأفكار التي تبلورت بصورة أكبر وكان لها حضور أكبر مع الخمسينيات والستينيات فيما بعد من القرن نفسه.

فضلا عن فكرة الحرب وجدواها وآثرها، ومن هو المنتصر ومن هو المنهزم؟.. هل رفضك للحرب يعني كونك جبانا أم شجاعا كفاية لمواجهة هذا السيل الجارف من الدم الذي لا يتوقف ويتحمل عنائه الكثيرين، فالـ 37 مليون نسمة الذين سقطوا ما بين قتلى وجرحا لم يكونوا وحدهم، فعائلاتهم كانت تحمل معهم هذا العبء أيضا، كما هو الحال مع ضحايا الحرب العالمية الثانية وهما الحربان الأكثر حضورا في ذهن الإنسانية، ومن خلالهما اتضحت ضئالة قيمة الإنسان بالنسبة لأخيه الإنسان، فنحن لا نمثل لبعضها شئ، وإذا انتصرت في الحرب فانت تنسى معاناة الآخرين من حولك.

طرح وناقش سارتر بذكاء أزمات القرن العشرين، وأثرها على الإنسان في ضوء أزمة الكبرى وهي الوجود مع الآخر\الجلاد، كما اتبع سارتر تقنية طرح الشخصيات للانتقال منها إلى الأفكار، فالإنسان هو محور حديثه ونقاشه لهذا كان اختيار النماذج المذكورة جزء لا يتجزأ من الطرح الفكري.

لم يغفل سارتر الأدوات سينوغرافيا الحيز المسرحي، فبالإضافة إلى ارشادات حركة الممثلين، فقد اوجد لهم حيزهم الخاص الذي يتقاطعون به أيضا، فالكنب الملائم لكل منهم، يعتبر جزيرة كل منهم المنعزلة التي يحاول كل منهم دفعها لتقارب جزيرة الآخر، لينهال منه العذاب.

مسرحية “الأبواب المقفلة” تتجاوز الفكر الوجودي لتمثل ركيزة في الفكر الإنساني، فمن الاحتياج الحتمي إلى العبودية الإلزامية ونظرة الآخر التي تأسرنا وحالة العذاب المستمر التي لا تنتهي بنهاية الحياة تحيلنا جميعا للتفكير في اختياراتنا، فنحن معذبون حتى وإن اخترنا أن نكون مسالمين بالنسبة لسارتر، ولنا في زوجة جارسان وفلورانس الفارة مع ايناس نموذج، فحتى لو اخترنا أن نصبح مسالمين سيكون هناك جلادين، وإن اخترنا أن نصبح جلادين سيتم جلدنا فيما بعد.. فماذا تختار أنت؟..

 

 

 

مقالات من نفس القسم