القصيدة التي نقدمها للشاعر هنا منشورة في موقع “الشعر الحر” الأمريكي، وهي مأخوذة من كتاب للشاعر عنوانه “ها أنا ذا” والذي ترجم من البلغارية إلى الإنجليزية بقلم جاك هارت مؤسس اتحاد الكتاب الأيرلندي ومركز الكتاب الأيرلنديين، وهو أيضا قاص ترجمت مجموعته القصصية “طيور”إلى البلغارية. فيا للمصادفات البريئة!
***
الذي بقي
لغز هو الموت، أو هو هَوْل
ولكنه أبدا
ليس النهاية.
في حِجرها العميق
تهدهدني الأرض كالدمية،
أسمع السماوات ـ موسيقى في صفاء الكرستال ـ
أنا الذي ما هربت من مومباي.
قبل أن تكشف عني الحفائر
منكمشا كالجنين
صامتا، متصلبا
كل ما كنت قد فعلته
أني تحديتهم.
رأيتكم تهربون إلى الميناء
آمنين،
ورأيتكم
أنتم يا من نهبتم المعابد
ثم صليتم
عسى الرب يملأ بالرعب
ذاكرة الآخرين.
الناس … والأنعام … كل شيء تبدّد
كم كانت جميلة مومباي
وهي خاوية من كل شيء،
سوى عشبة هنا أو هناك
لم يبق لي أي شيء.
والمجد، مثل الغزاة، اختفى.
تغيَّر الإله. عبدوا البركان.
والمدينة الخربة تحوّلت إلى متحف.
ولكنني بقيت قرب نفسي
أنا الذي ما هربت من مومباي.
***
استطاع أمل دنقل في قصيدته عن ابن نبي الله نوح عليه السلام، أن يغير من الصورة اللصيقة في أذهاننا بذلك الابن، ولو تغييرا مؤقتا، ولو تغييرا منحصرا في حيز القصيدة فقط. ليبقى ابن نوح في القصيدة، حيثما قرئت القصيدة ووقتما قرئت، بعيدا كل البعد عن صورة الكافر، العنيد، الرافض أن يلوذ بالسفينة، المغرور بالجبل.
ابن نوح، في قصيدة أمل دنقل، مواطن جدير حقا بصفة المواطن الذي رفض أن يهجر وطنه عند تعرضه للخطر. المواطن الذي باع أمنه الشخصي، ونجاته من الموت، واشترى البقاء للدفاع عن الوطن.
ينهي أمل دنقل قصيدته قائلا على لسان ابن نوح:
كان قلبي الذي ملأته الجروحْ
كان قلبي الذي لعنته الشروحْ
يرقد الآن فوق بقايا المدينة ..
وردةً من عطنْ
بعد أن قال لا للسفينة ..
وأحب الوطن
***
هذا هو لسان ابن نوح، وكم هو مختلف عن لسان ابن مومباي.
في هذه القصيدة، نرى ابن مومباي بدوره مواطنا أصرَّ على البقاء في مومباي، رفض السفينة هو الآخر، رفض الفرار إلى الميناء، بقي برغم الغزاة المخربين الذين نهبوا المعابد، وفرضوا على المدينة الخربة إلههم الذي يعبدون. بقي ورضي بدفع ثمن إصراره على البقاء، الثمن الذي لم يقل عن حياته نفسها.
كم هو مثير للإعجاب! وكم هو مثير للشفقة أيضا.
***
يعتبر الغربيون هذه الصفة ـ أي المثير للشفقة ـ نوعا من السباب. هذا على الأقل ما نلاحظه من الأفلام الأمريكية. أما نحن في الثقافة العربية فلا أحسب أننا نعتبرها كذلك. حسن، نحن قوم تجعلهم هذه المدونة وغيرها عرضة للرياح القادمة من الغرب، فلا عجب أن تنسرب إلينا بعض مفاهيمهم ورؤاهم، بل إن المدهش هو ألا يحدث هذا.
على أية حال، نحن وصفنا مناضل مومباي بالمثير للشفقة ونحن نقصد النيل منه، ولو قليلا.
صحيح أنه يستحق وسام الشجاعة الهندي من أية طبقة متاحة، ولكن، بما أننا لسنا هنودا، بما أن مومباي لا تعني لنا أكثر مما تعنيه أية مدينة أخرى يعيش فيها الناس، فإن بوسعنا أن نرى هذا البطل بعين محايدة قليلا، عين لا يكسرها ما قد يكسر عيون مواطني مومباي المدانين لأنهم هربوا، أو المدانين بالأحرى لأنهم عاشوا.
نستطيع أن ننظر إلى البطل الميت، بعين منحازة إلى الإنسان بصفة عامة، إلى الحياة.
من قبره، يخاطب البطل أو حتى الشهيد، مواطنيه، يلومهم لأنهم أحبوا الحياة، يوبخهم لأنهم اعترفوا بهربهم أنهم ليسوا أبطالا، بل مجرد بشر عاديين يريدون أن يقضوا مدة عقوبتهم الأرضية كاملة، وحتى النهاية الطبيعية وسط أبنائهم وأهلهم وعلى أسرَّتهم.
***
قطعا، نحن لا نقول إن حياة الفرد أهم من حياة الوطن. لا نقول هذا ولا ننفيه، ولا نصادر على من يقوله. فقط نريد ممن يبيعون أنفسهم أو ما هو أقل كثيرا من الأنفس فداء لمبدأ مهما يكن المبدأ، ألا يطلبوا ثمن هذا مجدا وإن استحقوه، عليهم أن يخلصوا لمسعاهم، وأن يعرفوا أنهم ضحوا لأنهم ما كانوا يملكون إلا أن يضحوا، أما الذين لم يضحوا فهم أيضا ما كانوا يملكون أن يضحوا. بهذه البساطة.
***
و
قل لا تمنوا علينا نضالكم