عبد الرحمن أقريش
الرباط، 1989.
المساء، يوم من أيام ديسمبر الباردة.
تغرق المدينة في طوفان من المصابيح الكهربائية الملونة.
وقف (المامون) يودعني، غادر المقهى مبكرا هربا من ضجيج المدينة.
– لا تنس الليلة المعلومة، أنت مدعو للسهر معنا.
نظر إلي مبتسما.
– شكرا، سأحضر بالتأكيد.
…
انفتح الباب، استقبلني (عبد الهادي) مبتسما، فتح ذراعيه دون أن يتخلى عن كأسه.
كما تخيلت، كانت الشلة حاضرة كلها والجلسة معدة بعناية، الشقة عصرية، فسيحة، مرتبة، أنيقة وبدون بهرجة، أرائك مريحة، تلفزيون ملون، سجائر سوداء وشقراء، خمور من كل الأصناف، ورود، شوكلاطة، فواكه…مائدة في منتهى الكرم.
يبدو (عبد الهادي) سعيدا ومزهوا، فهو يحب أن يتقمص دور الرجل الكريم المضياف، ربما بسبب أصوله الفلاحية التي لم تنل منها سنوات الغربة الطويلة في المدينة.
هو من ينظم حفلة رأس السنة، يهتم بالتفاصيل، يستدعي شلة الأصدقاء والصديقات، يختارهم، ينتقيهم بعناية، وجوه جميلة، أجساد منطلقة، أرواح خفيفة ومرحة، أشخاص من عجينة خاصة، دنيويون، يحبون الفرح، يحبون الحياة، يقضمون كعكتها، ويمتصون رحيقها بمتعة ومن غير تردد.
جلسنا نشاهد التلفزيون، نثرثر، نخوض في أحاديث لا تنتهي حول الكتب والسياسة والنساء والحب والمتعة والحياة وهموم العمل…
ندخن ونحتسي كؤوسنا بكثير من المتعة، لم يكن هناك غرباء، لذا بدت السهرة جميلة وتلقائية، جلسة حميمية مفعمة بالهمسات والأحضان والعواطف والقبلات.
جلست، أنظر، أتأمل الوجوه، وأفكر:
– لم يحتفلون؟ لم هذا الإصرار على إحياء ليلة رأس السنة الميلادية؟
التفت إلي الرجل الكهل بجانبي، وكأنما اخترق بحدسه هواجسي، وقال:
– أنظر، إنهم يبحثون عن السعادة، الأمر مرتبط بخليط من الأفكار والمشاعر يمتزج فيها الوهم بالأمل والحلم…يحتفلون لأن السنة المقبلة ستكون أفضل، يفترض أن تكون أفضل، ينبغي ان تكون أفضل…البشر هكذا، يدركون بحكم التجربة أن الزمن الماضي ولى وذهب، وأن الحاضر منفلت وهارب، لذلك يسقطون أحلامهم على زمن لم يأت بعد، يتصورون أن الأشياء الجميلة هي تلك التي لم تحدث بعد، الحياة الجميلة تلوح هناك في الأفق…
رفع (عبد الهادي) صوت التلفزيون.
– شوفوا عافاكم، السهرة بدأت…
وقفت المذيعة ترفل في قفطانها المغربي الباذخ والأنيق، تمسك خيط الميكروفون، وتزف لجمهور المشاهدين انطلاق سهرة رأس السنة الميلادية الجديدة.
– والآن، آنساتي، سيداتي، وسادتي، نفتتح إحياء هذه الليلة بصوت مغربي أصيل، صوت جميل، قوي ودافئ، أيها الجمهور المغربي الحبيب، إليكم الفنانة الكبيرة (لطيفة رأفت)…
كانت السهرة تقدم مباشرة أمام جمهور غفير في فندق فخم من فنادق الدار البيضاء، وتنقل في نفس الوقت نقلا مباشرا للمشاهدين الكرام عبر ربوع المملكة…(العبارة الأخيرة للمذيعة)
عندما انتهى المدخل الموسيقي للأغنية، خيم الصمت للحظات طويلة، فقد كانت الشلة واقعة تحت التأثير السحري للصوت الرخيم والأداء الجميل للمغنية.
من جهته، بدا (جبران) غائبا، منخرطا تماما، تملكته حالة غريبة من الوجد والتماهي، رفع كأسه عاليا، واتجه صوب الجهاز يتمايل، في حركات ميكانيكية ومنكسرة.
– هاذ السيدة عزيزة عليا، والله حتى نبوسها…
كان وجهه أمام الشاشة مباشرة، وشفتاه ترسمان شكل قبلة دائرية، عندها تغيرت اللقطة فجأة، وظهرت جوقة العازفين، يعزفون في حركات قوية ومنفلتة.
خاطبه (عبد الهادي) محذرا:
– عنداااك، غادي يعورك…
(احترس، انتبه لعينيك)…
تعالت الصيحات والتعليقات الساخرة…
وضع (جبران) كأسه فوق جهاز التلفزيون، وضمه إليه بكلتا يديه، وبقي هناك متسمرا حتى عادت المطربة، فقبلها متيما، وعاد إلى مكانه راضيا قرير العين.
عندما بدأت فقرة الشيخات تنفس الجميع الصعداء، فكلهم يحبون الغناء الشعبي والإيقاعات القوية…
المغاربة لديهم هذه القدرة العجيبة على تذوق كل الأشكال التعبيرية للفن العالمي…الجيل القديم يقدس كواكب الشرق، أم كلثوم، عبد الوهاب، عبد الحليم، فريد، أسمهان…أما الأجيال الجديدة فتستمتع بكثير من الشغف بالغناء الغربي في تلويناته المختلفة.
ولكن إيقاعات وتقاسيم (الجرة) و(الوترة) لها مكانة خاصة في نفوسهم، فهي وحدها تخضهم، تحرك دواخلهم، وحدها تعيد فتح الجراح المنغرسة عميقا في أرواحهم، وحدها تلامس عقدهم النفسية، وحدها تعري أعطابهم الداخلية المزمنة، فتكشف عن رواسب تربية قاسية مبنية على القمع والعنف والكبت الرهيب…
موسيقى، خمرة، والكثير من العواطف.
ارتفع الإيقاع، تحررت الفتيات تدريجيا من بقايا خجل تبخر بفعل الخمرة والعدوى المنبعثة من الموسيقى فانخرطن في رقص عنيف ولذيذ.
تغيرت الفقرات تباعا، وعادت الشلة إلى أحاديثها الهامسة والحميمية.
كان (عبد الهادي) يهم بفتح زجاجة أخرى، عندما ظهر صرصار هائم يقطع الغرفة جيئة وذهابا، وأحدث ظهوره جلبة كسرت هدوء الجلسة.
ارتفعت الأحذية تريد قتل الصرصار…
وقف (عبدالهادي)، محذرا، رفع سبابته، وعندما عاد الصمت، قال:
– شوفوا الله يخليكم، أنتم ضيوفي، لكم أن تسهروا معززين مكرمين…إنما دعوا عنكم صراصيري بسلام…
لم يفاجئنا كلامه، فنحن نعرف الرجل، نعرف مزاجيته وطباعه الغريبة، فهو يعتبر الحشرات والهوام التي تسكن شقته كائنات وديعة ومسالمة، ولها نفس الحق في الضيافة والكرم.
في الجهة الأخرى من الغرفة يجلس (المامون) صامتا، يدخن، يرشف من كأسه، استعاد صفاءه الذهني، انخرط في لحظة بياض قوية، حالة تشبه الحلم، أطلق العنان لعالمه الداخلي فبدا هادئا، مطمئنا، يسأل نفسه عن الحكمة في حرمة الخمرة الدنيوية والحرمان من خمرة الآخرة؟
– لا بأس لنشربها هنا…من يدري فقد لا تكون متوفرة هناك؟
نظر إلى الوجوه المشرقة بنار الخمرة، تساءل:
– لم يبدو بعض السكارى وديعين، طيبين، وفي منتهى الكرم؟…لم يبدو بعضهم الآخر في منتهى القسوة والاندفاع والتهور؟
الخمرة إكسير، نار سحرية تكشف معادن البشر، وتحرر قوى الخير والشر من عقالها، بعض البشر جوهر نادر، نفيس، يتلألأ، يلمع، وبعضهم الآخر طيني، حقير، وضيع وواطي…
يتساءل دائما وهو الخبير بالناس والحياة:
– ما الحكمة؟ لم كل هذا التناقض في طبائع البشر؟
أحس فجأة بالكآبة، استحضر فكرته الخاصة عن السعادة والحرية والحياة والموت والدين وعلاقته الإشكالية بالسماء.
لم يكن (المامون) متدينا، ولكنه بالمقابل لم يفقد أبدا إيمانه، كان شخصا غريبا ومتمردا، كانت له نظرته الخاصة للحياة، فلسفة تخصه لوحده، يمتزج فيها الأمل بالتشاؤم، خليط من الأفكار يمتزج فيها الدين بالفلسفة والرغبة في التحرر، أحيانا يشعر كما لو كان ريشة في مهب الريح، يشعر أحيانا أن الله قد تخلى عنه، وأنه غريب وضائع هاهنا بدون خفير ولا منارة يهتدي بها.
اجتاحته لحظة ضعف، أحس برغبة في البكاء، استحضر صورة والده وهو يغادر، قاوم دموعه بصعوبة.
– أكان ينبغي أن يرحل لكي يرتفع هكذا ويتعالى مثل قديس؟
…
الهزيع الأخير من الليل، لاحت التباشير الأولى للفجر، كان التلفزيون يخاطب نفسه وينتقل من فقرة لأخرى.
أنظر أنا جهة (المامون) أتأمله، أتأمله وهو يتأمل الوجوه، وجوه بتعابير مختلفة، بعضها سعيد ومشرق، بعضها واجم، بعضها حزين، وبعضها الآخر جامد ومغلق.
بدا (جبران) متعبا، منهدا وحزينا، ربما بفعل الخمرة والسهر، وربما أيضا بفعل استرجاع ذكريات بعيدة ومؤلمة حررتها الخمرة من تجاويف اللاشعور وغبار الذاكرة.
فقد (جبران) روحه المرحة، استعاد تدريجيا ملامحه الصامتة، فبدا وجهه مثل جدار عازل وغير قابل للاختراق.
يدخن، يمتص الدخان بعمق، يرسله بعيدا، يشرب، وينظر للتلفزيون.
يعزف المطرب الشعبي على آلة الكمنجة، يتحرك جسمه في كل الاتجاهات، يتمايل، يغمض عينيه في حركة مسرحية، يمثل الوجد والانخراط، تبدو تسريحته الفوضوية غريبة ومضحكة، يغني، يردد لازمة مسكوكة.
– كلامي معنى، ما هو غناء…
ينظر إليه (جبران) وكأنما يراه لأول مرة، يتأمله، ترتسم على وجهه نصف ابتسامة ساخرة، تنمحي ابتسامته تدريجيا، ويحل محلها تعبير غريب يمتزج فيه الحزن بالغضب…
يخاطبه بصوت مسموع:
– كلامك خراء…