د. مصطفى عطية
صمم على عمل الختمة، حاولت زوجته إثناءه فأبى، فليس أقل من رجال الحارة، الذين أقاموا ختمات القرآن في بيوتهم، ونالوا الشرف والبركة.
زوجته ” تحيات ” التي عجنته وخبزته على مدى سنوات، شابهته في بخله، وفي ركضه خلف المال، وقد تيقنت أن النية مبيتة عنده، فلا داعي لخسارته وقد يتسرع لإلقاء يمين إن عارضته، فنظرت إليه بتفهم وهي تقول متظاهرة بالرضوخ :
- وأنت يا حاج ” حسين ” أحسن من رجالة الحارة والحي والبلد كلهم.
لم ينخدع بكلماتها، إلا أنه ابتسم لها، وابتسمت له، ثم تناجيا عن التكلفة وعدد المدعوين، وعن الطعام ومتطلباته، وإن اختلفا في الذبيحة، فهي تتمسك بالنعجة التي اشتراها منذ شهور، وهو مصمم على الخروف المعد لعيد الأضحى، وقد تشاركا في ثمنه، قالت بدلع :
- والله لأرفع رأسك، نذبح الخروفين، وخروف ثالث على حسابي.
نادت على ابنتها ” حسناء “، ذات الأربعة عشر عاما، والخادمة ” أم سلامة” اللتان أسرعتا بالحضور، فتتابعت أوامر ” تحيات ” لهما بإخراج أجولة الأرز والدقيق، وتجهيز ” الماجور ” لصنع العيش الملدّن.
وحين تساءلت ” حسناء ” عن السبب، أسكتتها أمها بوضع إصبعها عموديا على شفتيها، وحذرتها أن تحكي شيئا فأكدت البنت أنها لا تعرف شيئا لتحكيه، أما ” أم سلامة “، التي تعرف سيدتها جيدا، فقد سألت ” تحيات ” وهي في الصندلة الخشبية التي تعلو المطبخ ؛ عن عدد أجولة الدقيق التي ستحتاجها.
شاهد حسين الموقف كاملا مبتهجا، متطلعا بامتنان لزوجته، غامزا لها بعينه.
*******
يوم الختمة أصبح البيت كأنه ” مولد شعبي “، تصدرت ” تحيات ” المشهد، مرتدية عباءة سوداء فضفاضة، مشمرة الكمّين، وقد تدلى قرطاها الذهبيان لامعين من أذنيها، وبرزت الأساور الثقيلة في رسغيها، ووقفت في ساحة البيت، تشرف على فرش السجاجيد، ومدّ حبال المصابيح الملونة، وعلى عتبة البيت كانت مع الجزار، وقد ربط الخرفان الثلاثة، ونطقت هي بالبسملة والتكبير، فنحرت السكين الرقاب، وسالت الدماء، وارتفعت الزغاريد من النسوة المحملقات من الشرفات والشبابيك، وجرى الكلام بينهن عن كرم الحاجة تحيات وهي التي لم تحج ولكنها حصلت على اللقب اليوم، حيث روّجته صديقاتها، وهن يدعون لها بالخير والبركة، وأطباق من اللحم المطبوخ تُوَزّع على البيوت.
لم تدع لزوجها ” حسين ” مجالا لإرهاق نفسه كما أخبرته، عليه فقط أن يستقبل المشايخ والمدعوين، ثم يشير للطباخ أن يحضر صينيات الطعام، الحاوية أطباق فتة الخبز والأرز والمرق وقطع اللحم الضاني، ثم تدور عليهم أكواب الشاي وفناجين القهوة.
بدأت شعائر الختمة، أخرج الشيخ ذو الجبة البنيّة والعمّة الخضراء من حقيبة جلدية كبيرة الأجزاء الثلاثين للمصحف، كل جزء في كتاب مستقل، وقام بتوزيعها على رواد الختمة المتحلقين في دائرة، حيث شرعوا في التلاوة بقراءة “الحدر “، بنبرة صوت أقرب إلى الهمهمة، ورؤوسهم تتمايل على الجنبين، ويرفع شيخ الختمة صوته بالتكبير أو التهليل. المشهد بديع، وقد حضر رجال الحي ووجهاؤه، وجلسوا خلف الحلقة، والمعلم ” حسين ” يخدمهم بنفسه أثناء الغداء، والضحكة تشق وجهه كثير العبوس.
نساء الحيّ اللائي قدمن مع أزواجهن، وملأن صالة البيت، دعتهن “تحيات” إلى مشاهدة الختمة، عبر النوافذ المطلة على ساحة البيت، فالتصقت رؤوسهن وثبتت أعينهن على الحلقة، وقد ازدحمت الساحة بالرؤوس والعمم، وراحت تحيات تنادي على حسناء وأم سلامة أن تعدّ فناجين القرفة للرجال، والزنجبيل والكراوية للنساء، دقائق وبرزت أم سلامة حاملة صينية عريضة، عليها إبريق القرفة والفناجين والمياه تنقّط منها، سألتها تحيات عن حسناء، فهزت أم سلامة رأسها نافية أن تعرف مكانها.
هتفت تحيات : أين راحت البنت ؟ تختفي كعادتها كلما احتجتها.
النسوة عدن إلى همسهن الذي يسعد تحيات، يصفن أكوام اللحم على الطاولات، وأصناف طبيخ الخضار، والسلطات المنوّعة، ناهيك عن شطائر الخبز المحشوة لحما، غمزت تحيات لإحدى صديقاتها المقربات، التي أسرعت هامسة أن الحاجة تحيات هي المتحملة لليلة كلها لوجه الله، وأنها تصدقت بالخراف الثلاث، وكل الأكل من خزين البيت وخيره، تطلعت النساء إلى ” تحيات ” التي لم تكل عن الحركة، وإلى زوجها الذي آثر الجلوس في صدر الحلقة مستقبلا بركات المشايخ، ودعاء الحضور له، وإشادة الضيوف بسخائه.
*******
ضربت ” تحيات ” صدرها وهي تدلف غرفة ابنتها حسناء في الطابق الثاني، وقد اقتعدت سجادة الصلاة وحجابها متزحزح قليلا عن رأسها فبرزت خصلات شعرها سوداء غزيرة، كانت جافة الشفتين، وأمامها المصحف مفتوحا، تحدّق فيه بنظرات واهنة، ثم تنصت إلى ما يأتيها من أصوات الحلقة، فتارة تسرع بتلاوة الآيات، وتارة تهمهم بالأدعية والأوراد..
- ماذا تفعلين هنا ؟ أنادي عليك ولا تردين !
لم ترد البنت، وحين دفعتها أمها من كتفها..
انهمرت دموعها، فقد امتلكها الوجد..