محمد رفاعى
(… ونجوت ـ أنا وحدي ـ لكي:أخبرك)
“عن سفر أيوب “
راوده عشر ليال متتالية، في الليلة الحادية عشرة، جاءه خمس مرات، نام نوماً قليلاً كعادته، قلقاً كيقظته. جاءه، ثم غفا لحظة. باغته تلك المرة، قام مفزوعاً ,عشرات المرات، بحث عن شربة ماء، عن نقطة ضوء. صدمته العتمة، جلس فوق حافة السرير، فهل رأي في يقظته المنقطعة شعاع النور المتلصص من خصاص النافذة يُفلق كتلة الصمت والسواد.
في كل مرة، كان الحلم يراوده، يحاول فور طلوع النهار استرجاع تفاصيل أحداثه وتضاريس وقائعه.
كانت عيناه مصوبتين نحو لحظة الغروب، الذي أًغُرم به من فوق سور طيني قصير مُسيّج قمته بالأشواك – لا يضاهي قامة نصف رجل – كان ينهر الماعز والغنم، كي تهرب من التهام الزرع، بينما عضوه ممدوداً إلى الأمام، يبول تحت الحائط، لكزه جده بكوعه فى بطنه، وقد شعر ببلل فى الفراش، وهو نائم بجواره.
في النهار، ينهر الأغنام والماعز، ويبول تحت السور، ويتأمل شجن الغروب.
يفعل ذلك مراراً، في الليل، وفى النهار.
يسير على الجسر بين حقول القصب النامي حديثاً، كانت توازيه في الخطو على جسر آخر، “مريم ” أكبر منه قليلا، تشاركه اللعب، والحكي، وساعات القيلولة، وأحلام النهار، يغافلها ويحدق إلى جانب صدرها، تحاول يمام صدرها أن ينطلق في ركضها المتواصل. ويتركها تسبقه، كان همها “لمّ ” البلح “النارخ” قبله من الكرم، بينما هو يحاول استرجاع ما عايشه ليلة أمس، سار على جسر منحرفاً نحو الجنوب، ينزل ناحية المشرق، موازياً الحائط البحري لجنينة “عبد العال”، وقف بالضبط بجوار ساق ذكر نخل رامياً بظله القليل على تكعيبة العنب، دار حوله عدة مرات، أخرج فأسه الصغير المختفي تحت جلبابه. وأخذ يعمل حتى أنهكت قواه، في الحلم رأى هنا تحت هذا الساق المتعرج، “صرة “من الذهب الخالص. جذور النخيل المتشابك لا تدعه يكمل الحفر، يجئ غد، وبعد الغد، في الحلم – أيضاً – يركب جواداً أبيض ويطوف به أنحاء البلدة، يوزع “الصرة ” – كان قد استخرجها بعد كد أيام وليال – على الأرامل، والعجائز. ويقيم للصبايا احتفالات عرسهن، ويمنح العطايا لمن يمعن التفكير في الذات، وموضع القدم.
” راوده، عشر ليال متتالية، في الليلة الحادية عشرة – الأخيرة هذه، فاجأه خمس مرات، نام نوماً قليلاً كعادته، قلقاً كيقظته. جاءه ثم غفا لحظة، باغته تلك المرة، قام مفزوعاً عشرات المرات.. و.. و.. في كل مرة، كان الحلم يراوده، يحاول فور طلوع النهار استرجاع تفاصيل أحداثه وتضاريس وقائعه.”
وقف معهم طويلا في نهاية الساحة، ينتظر مثلهم، درويش وسط حلقة ذكر، لا ينتهي سكرها.
في لحظة قدرية خارقة قرر أن يقتحم الحشود المنتظرة هنا زمنا، لا يستطع تحديده، تخطى الأجساد المرصوصة، مّر بين السيقان ا لآدمية، شمّ عرق الكادحين، وشاهد سراويلهم المتهرئة بلون الطمي، وشمّ عطرا، وتأمل أفخاذ النسوة الممشوقات الواقفات في المقدمة، بجوار رجال ذوى وجوه ملونة وشعر مسترسل، ويبرق شعاع الذهب الذي يزين أعناقهم. كان الوقت خريفياً – ساعة الضحى والنهار صحوا، لا غيم، لا ريح، ولا ضوء مبهر يرهق العين.
الجموع الغفيرة المنتظرة..تقف خلفه الآن.
لحظة تمرد خاطفة، جعلته يفعل ما فعل.
يزيح الأبواب الموصدة المتهرئ أساسها، منذ أمد بعيد، يفتح ضلف النوافذ، وسدّة الكوّات.. ويحطم القضبان الصدئة، صدمته العتمة المتكدسة، ورائحة الكراكيب المغلقة منذ زمن سحيق، فوجد نفسه – فجأة – داخل قدس الأقداس، فلا تعاويذ تتلى،ولا بخور يطلق، ولا طقوس تؤدى، لا صلاة تقام.. كل شيء ساكن، صامت، دبيب الحياة توقف هنا – على الأقل منذ ما يزيد على ألف عام
الهيكل البشري يمارس طقوساً، محتلا الكرسي، ممسكا بالعصي لا يزال، ضوء النهار وشعاع القادم من خلف النوافذ والأبواب، أحال الهيكل إلى أديم، وتساقط كذرات رمل.. بقيت القاعة خالية لا يشغلها سوى كومة من الردم.
لا أهابه الموقف إذن ولا روعه ضخامة الفاجعة. فهل كان على علم يقينا بما يحدث ؟
“في كل مرة كان الحلم يراوده، يحاول فور طلوع النهار استرجاع تفاصيل أحداثه وتضاريس وقائعه “.
رجع إلى الوراء قليلا، حيث المدخل الأمامي، والحديقة التي كانت غناء، تأكد من فتح الأبواب والنوافذ، كان الباب الخارجي للقصر لا يزال مهيباً، مصراعاه مركونان إلى الأطلال، دعاهم إلى الدخول، لم يجرؤ أحد على التقدم خطوة، أو الاقتراب من السور.
مكث زمنا.. الباب مفتوح والسور الخارجي متهدم معظمه، والبشر حواليه رابضون في أعماق لحظات الوله.
نهض من النوم، دخل ساحة القصر، تسلق أعلى الجدار، شاهد الجموع واقفة لا تزال، متناهية فى الصغر، هل كان يوم الحشر ؟ لا بشر في الكون، قد تجمعوا في تلك اللحظة، في هذه النقطة الصغيرة من العالم. أمام هذا المشهد الرهيب، ينظر إليهم، وينتظر منهم رد فعل 00أمامه الآن البوادي، الواحات، الجبال، والنهر لا يزال يسير هادئاً.
أخرج فأسه الصغير.. وبدأت الرهبة مع أول ضربة، تتهاوى وتسقط من تلقاء نفسها حجراً حجراً.
أكانوا هنا ؟.. بقايا هياكلهم العظمية ! نصبوا أوتاد خيامهم، وشيدّوا معابدهم وأهراماتهم وعلى جدرانها رسموا حدود انتصاراتهم الورقية. وأنضجوا حضارتهم في بوتقة الآخرين، ومروا مع العابرين.
خرج من كهف. سار طويلا في طريق القوافل القديم المهجور، قطع جبالا، وودياناً وامتطى أمواجاً، وصل إلى حافة الماء. نزل إلى النهر وارتوى من سنوات العطش الطويل، واستحم من سفر الدهر، وعلى جانب أطلال بيت قديم ركن ظهره، فهل شعر بالتعب الآن بعد المسير وحده، في ظلمة المطارح التي لفظته أمداً بعيداً.
فعاش ما تبقى له من العمر، غريباً، يبحث عن موضع أمن لقدم، وموطن للذكرى، تذكر/ سمع صوت ناى قديم من أغوار سحيقة، اتجه إلى جرف الماء.. تأمل الأحراش. وانتقى عودا من الغاب وقطّعه، ونفخ فيه نفساً، فجاءه نفس الصوت الأثير/ القديم.
تجول زمنا طويلا، ورسم في مخيلته حدود مدينته. قال: سأبني هنا بجوار هذه الأطلال بيتا من الحجر والشجر، يكون حصني ضد هلوسة الليل وهبات الريح..
………و……….و………و…….