يرسم الكتاب الهام الذى ترجمته “ريم قيس كبة”، صورة مزعجة لدولة فاشية بامتياز: الحياة الجامعية فى بداية عصر الخمينى، انقلاب آية الله الدموى على شركاء الثورة، الحرب مع العراق، تشدد سلطة تريد أن تصوغ الجميع على شكل وهيئة واحدة، ولا تعترف من كل ألوان الدنيا إلا بالأبيض والأسود، أما المرأة فهى مدانة حتى تثبت براءتها، تقرر “آذر نفيسى” أن تترك عملها فى الجامعة، بعد أن ضاقت بالقيود والمراقبة، تختار سبع طالبات فقط، موهوبات ومهتمات بالأدب، تستقبلهن فى منزلها صباح كل يوم خميس، لتقرأن وتناقشن معاً عيون الأدب الفارسى والعالمى المحاصر بالمنع والحذف، تخلع الفتيات الشادور والإيشارب، تبدأ شخصية كل واحدة منهن فى الظهور بمساعدة هذه الأم الرائعة، التى تعيد إليهن ألوان الحياة والبهجة، وأنوار العقل والرأى والرؤية والإختيار.
تجربة “أذر” مع فصلها الخاص المدهش، حواراتها مع بناتها الرائعات، لم تستمر سوى عامين، اضطرت “آذر” بعده الى مغادرة إيران نهائياً الى أمريكا، حاملة معها بعض ما سجلته عن التجربة، ولكنها اضطرت الى تغيير أسماء طالباتها القابعات فى طهران، وغيّرت بعضاً من ملامحهن الوصفية خوفاً عليهن من المساءلة، أما كل التفاصيل، فهى واقعية تماماً، إنها كما أطلقت عليها “سيرة فى كتاب”، سيرة المؤلفة ووطنها والثورة المسروقة وطالباتها السبع.
البراعة الحقيقية ليست فقط فى تسجيل تجربة هذه الجزيرة الحرة وسط العالم المغلق، ولا فى ترجمة هذا الإغتراب داخل وطن لا يعترف بالآخر، ولكن أيضاً فى تقديم مزيج فريد وفذّ من الدراسة الإجتماعية والنفسية والسياسية والأدبية فى كتاب واحد، فى البدء، ستكون هذه النصوص التى تتم دراستها وسيلة للهروب الى دنيا أخرى مختلفة، ساحرة وغامضة، ولكن الفتيات تكتشفن أن الروايات تلامس حياتهن وظروفهن، حتى رواية “لوليتا” الشهيرة الممنوعة للروائى “فلاديمير نابوكوف”، تجد تفسيرها الأعمق عند “آذر” وطالباتها، لم تعد الرواية مجرد حكاية جريئة عن فتاة مستهترة فى الثانية عشرة من عمرها قامت بإغواء رجل يشتهيها، ولكنها تحولت الى مأساة فتاة تم انتهاك براءتها، من رجل أراد أن يصوغها على هواه، بدت “لوليتا” مثل وطن انتهكه الملالى وتجّار الدين.
بهذا المعنى، فإن كتاب “أن تقرأ لوليتا فى طهران” يتجاوز هجاء الفاشية بعد إسقاط كل أقنعتها، الى مدح الفن والأدب باعتبارهما أقوى أسلحة المواجهة، لأنهما يعيدان الإعتبار للحياة فى مقابل الموت والقهر، تتقاطع مصائر شخصيات روائية شهيرة مثل “جاتسبى” و”ديزى ميللر” مع التغيرات العاصفة فى المجتمع الإيرانى، ويظل الأدب دوماً شاهداً لا يمكن إزاحته عن الحياة.
تصف “آذر نفيسى” محنتها، ومحنة طالباتها فى الجامعة قبل استقالتها، فتقول:”كيف لنا أن نقوم بالتدريس كما يجب، حينما يكون أقصى اهتمام لمسؤولى الجامعة منصباً عن لون شفاهنا، وعلى القابلية التدميرية لخُصلة شعر يتيمة قد تطيش من تحت الإيشارب، وليس على كفاءتنا فى أداء واجباتنا العلمية؟ كيف للمرء أن يركّز فى عمله فعلاً، حينما يكون الشغل الشاغل للمسؤولين فى الكلية هو حذف كلمة “نبيذ” من قصة ل”هيمنجواى”؟! أو حينما تكون من أولوياتهم إصدار قرار يمنع تدريس “برونتى” لأنها، كما اتضح لبعض المسؤولين، “تتغاضى” عن فعل الزنى؟!”
“إذا ما أسرعت طالبة لتلحق بالدرس، عاقبوها على الهرولة! وإذا ضحكت عاقبوها على الضحك فى الممرات! وأيضاً، كانوا يعاقبونها إذا ما ضُبطت وهى تتحدث مع الجنس الآخر! ذات يوم، اقتحمت “ساناز” قاعة الدرس قبل المحاضرة بقليل وهى تبكى، ومن بين سيل دموعها المنهمرة، استطعتُ أن أفهم بأنها تأخرت، لأن حارسات البوابة عثرن على أحمر خدود فى حقيبتها عند التفتيش، وكنّ قد حاولن إعادتها الى البيت مع رسالة توبيخ“.
وتحكى عن العالم المغلق الذى يحاصر الإبداع والمبدعين، فتقول:” “إليكم هذه الحكاية الواقعية: كان رقيب الأفلام الرئيس فى إيران حتى عام 1994 كفيفاً، أعنى بأنه كان أقرب الى الكفيف، وكان قد عمل قبل ذلك رقيباً للمسرح، حدّثنى أحد أصدقائى من كتّاب المسرح ذات مرة كيف كان الرقيب يجلس فى المسرح يضع نظارات سميكة بدت وكأنها تُخفى أكثر مما تُظهر، وكان أحد المساعدين يجلس الى جواره ليشرح له المشهد، وكل ما يجرى على خشبة المسرح، فيعطى الرقيب أوامره بعد ذلك بحذف الأجزاء غير المرغوب بها، وبعد عام 1994، أصبح هذا الرقيب ذاته رئيساً للقناة التليفزيونية الجديدة، فعمد حينئذ الى تطوير وسائله الرقابية، وراح يطالب كتّاب السيناريو ومُعدّى البرامج، بأن يقدّموا له أعمالهم على أشرطة صوتية, وأصدر تعليمات تمنعهم من أدائها أو تصويرها أو جعلها جذّابة بأى شكل من الأشكال، وراح يقيّم الأعمال وفقاً لما تمليه عليه التسجيلات الصوتية فقط، بيد أن الأمر الأكثر إدهاشاً من كل ذلك، هو أن الذى خلفه فى ذلك المنصب كان قد اتبع النظام ذاته، على الرغم من أنه لم يكن كفيفاً، وأعنى فعلياً على الأقل” .
تتسلل الفاشية الدينية مثل ثعبان سام، ينتهز الفرصة، يخرج من الجحر، ثم يلدغ ويقتل، هذا كتاب مرعب، وهذا هو ثمن الخلط الفادح بين الدين والسياسة، وهذا هو الثمن الذى يدفعه الصمت على التجارة بالدين، “لوليتا فى طهران” كتاب عن زمن القهر باسم الدين، وعن عودة عصر الخوف من الكلمات والحروف.