“كم مرة مررت من هنا دون أن أنتبه لهذا المكان”، قالت السمراء هونوري وهي تتغنج في مشيتها، ثم أضافت نابسة بلغة هولندية مهلهلة: “الحق أنه مكان جميل تفوح منه رائحة التاريخ القديم وناسه الطيبين، لقد كانوا فعلا طيبين. لغتهم أحلى من قطع الشكولاتة التي كان يعدون في لياليهم الشتوية”.
ونحن نهم بالخروج من الزقاق الضيق كانت المعلومات القليلة عن تاريخ هذا البلد تمر أمام عيني وتخضع لتمحيص وتحليل ومقارنات يقوم بها الدماغ بشكل تلقائي وكأنه حاسوب. لكن أمرا ما جعل هذه الآلة تتجمد على صورة واحدة دون أخريات ولم ينفع معها لا قطع التيار ولا إعادة التشغيل كما هي العادة مع كل حاسوب. كان الرجل مائلا على البوابة الزجاجية غير عابئ بما يدور حوله من أحداث وضجيج وبين يديه انتصبت جريدة لوسوار بصفحاتها المبعثرة.
إنه يقرأ آخر أخبار العالم؟
لا، يبدو أنه مولع بكرة القدم، يتابع أخبار فريقه المفضل.
عفوا، يا إلهي … يبدو ….
ثم تقدمت هونوري من الرجل، رمته بنظرة سريعة، أحنت بمسمعها إلى صدره. لامست شعرات خصلتها ذقنه بلطف. عيناه متعبتان ومغلقتان. خيط من اللعاب ينزل مثل خيط عسل رأسا على لوغو قميص الفريق الوطني بصدره. الجريدة بين يديه توحي بأنه يقرأ، مفتوحة على صفحة الرياضة حيت صورة لاعب الفريق الوطني الأسود يتأهب لقذف كرته نحو مرمى الخصم، مع عنوان عريض” لوكاكو… عودة قوية”. تململ وهو يستنشق عطرها مثلما يستنشق نسمات صباح عليل. عاد لغفوته دون أن يبدي اهتمامه لوجودنا حوله.
انتصبت واقفة، تنهدت بعمق ثم قالت:”لا، إنه حي … لا يزال يتنفس. يبدو أن التعب قد أخذ منه نصيبه، تؤلمنا مثل هذه الأجساد التي تظل طول اليوم تقاوم وجودها ثم تنهار أينما اتفق غير عابئة بالتفاصيل الأخرى”.
استعجلنا جيروم الذي بحكم معرفته بخبايا المدينة وتفاصيل أحجارها صار دليلنا عبر شوارعها الملتوية ومحلاتها المنطوية على تواريخ وأحداث شتى. غادرنا البناية الكبرى عبر بوابتها الزجاجية تاركين الرجل الأسود في هجعة موته ونظرته المتعبة المركزة على اللاعب وهو يتأهب لقذف الكرة نحو جهة ما. يبدو أنه انتظر كثيرا دون أن يحدث ذلك.
في الطريق، كان جيروم يغرق اسماعنا بتفاصيله الممتعة تارة والمملة تارة عن أسرار مدينة لا تمنح ذاتها من الوهلة الأولى، عن هندسة كنائسها وشوارعها التي اتخذت أسماء تجمعات مهنية أعادت ذاكرتي إلى مدينة فاس ودروبها التي تفرعت وتشكلت وفق المهن التي احتلتها. النجارين فالحدادين فالخرازين … لكن صورة الرجل الأسود المتعب المنحني على جريدته لم تغادرني. خمنت مثل طفل أنه لا يزال ينتظر اللاعب الأسود ليقذف الكرة نحو مرمى الخصم … ثم صحوت، لربما بشرته السوداء جعلته يرى فيه حلما من أحلامه التي خاض من أجلها البحار وهي تتحقق ولو عبر صورة. ولو عبر صورة لاعب على صدر جريدة. ربما استعان بالجريدة لإيهام الناس بيقظته فيما هو يسرح في نومه العميق … يسرح في دهاليز حلم لذيذ. لعله نظر إليه وغاب في تفاصيل حياته حتى النوم. جعته الأخيرة التي احتسى ماءها الى النصف كانت لصق جسده شاهدة على شيء ما.
1 ماي 2017