لوحة الوجود الهش قراءة في كتاب بولص آدم (أوديسيوس المشرقي)

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

صباح الأنباري

   في كتاب (أوديسيوس المشرقي) للأديب بولص آدم اختار الكاتب تحديد منتجه الجديد على انه (سرد) ربما تمييزا له عن مسرودات سابقة في القصة القصيرة والرواية، ومن خلال العنوان يبدو أن السرد في هذا الكتاب متخصص بنقل السيرة الفنية/ السياسية/ الاجتماعية لشخصية وضع الكتاب من أجلها لكن بولص رأى أن يكون السرد أكثر انفتاحا وحرية من الأجناس الأخرى لتتسع مساحته الضيقة فلا تشتمل على السيرة الذاتية للشخصية الرئيسة حسب، بل تتعدى ذلك الى سيرة مدينة، بل مدن تركت في الشخصية أثرا لم يمح أبدا. هذا فضلا عن تماهي شخصية الكاتب (بولص آدم) مع بطله (أوديسيوس) وتداخل أفعالهما بطريقة مدروسة فيها الشيء الكثير من الانسيابية التي لم تترك ثغرة أو فراغا بين فعلي الشخصيتين.

فيما يشبه المقدمة قدم لنا بولص فكرة توضيحية عن الشخصية المركزية قائلاً:

 لم يكن أوديسيوس مجرد رسّام. كان سؤالاً يُطرَح بالفرشاة، على جدارٍ يرتجف من صمت العالم. حين نُحيي ذكرى أوديسيوس، نحن لا نُحيي فنانًا من الماضي، بل نُعيد فتح دفتر الأسئلة: من نكون حين لا يبقى من العالم إلا نافذتان؟

ومن هذه الفكرة نستنتج أن السرد لا يعنى بالشخصية أو مدينته حسب، بل يفتح دفتر أسئلة كثيرة وخطيرة أيضا، وما أكثرها في حياة زاخرة بكل شيء غريب ومريب. يخبرنا بولص أيضا أن بطله قد رسم ما يراد إنقاذه من النسيان وفي هذا نزوع نحو الجانب التوثيقي الذي يحفظ بالتأكيد أفعال الماضي ومراراته وأحداثه وما جرى فيه من العجيب والغريب، ولكنه لا ينحو منحى التوثيقية في أسلوبه الجديد. وكان أوديسيوس يمخر خارج الزمن وفي هذا ما يتناقض مع ما يريده بالضبط فزمنه المعيش قائم على الزيف وهو يبغي زمنا آخر يلمس فيه المستحيل والحقيقة.

يفتح بولص دفتر أوديسيوس فنقرأ عنوانا شاعريا (الطائر الذي احترق وهو يغني) ويبدأ الاحتراق من مدينة أوروك مدينة جلجامش الذي سعى للخلود بلا جدوى فخسر الوقت لكنة كسب الزمن. في أوروك لم يكن ثمة معرض ولا جمهور نظارة، ولا منصات ولا رعاة فن كما يخبرنا بولص، فقط ساحة خربة من معبد إنانا القديم. إذن لقد حل الخراب بأقدم مدينة في بلاد ما بين النهرين وعلى خرائبها اجتمع أوديسيوس مع جلجامش، وشاعرة سومرية، فضلا عن حفار نقش، وفنان كهوف أول، وظل إنسان عراقي موصلي لا يتكلم على الرغم من وجوده هناك. كان صمته حكيما فقد رأى ماضيه المدمر وحاضره الأكثر دماراً ومن هول ما رأى لم يعد للكلام من جدوى. ورب سائل يسأل ما الذي تعرضه فعليا لوحة بين هذه الخرائب؟ وما هي تلك اللوحة الغريبة؟ يجيب بولص إنها:

 لوحة بحجم جسد طفل. طائر مفتوح الجناحين، ذبيح من صدره، منقاره مرفوع وكأنه يغني آخر لحن قبل الاحتراق. الألوان تتصارع بين الأحمر الناري، والأرجوان الحالم، وبقع من السواد الخفيف مثل دمع ناشف على صفحة زمنٍ ما.

هكذا يصف بولص اللوحة وكأنه يكتب قصيدة نثر شعرية راقية تنطلق من البراءة (جسد طفل) وتدخل الى الفعل بشكل مباشر (طائر ذبيح) واصفا منقاره المرفوع وكأنه يؤدي آخر لحن له قبل الاحتراق. ومن شعرية اللوحة الى نقد تشكيليا ينتقل بولص واصفاً تركيبة الألوان المعقدة (تتصارع الألوان بين الأحمر الناري، والأرجوان الحالم، وبقع من السواد الخفيف مثل دمع ناشف على صفحة زمن ما)) فيعطينا كشفا لماهية الصراع الدائر في تلك اللوحة القديمة/ الحديثة في آن واحد. ووجدنا أفضل رد فعل عليها، أطلقه جلجامش حين قال: (لا طائر يصرخ هكذا إن لم يكن قد رأى ما لا يحتمل) وما كان الطائر إلا رجلا من الموصل الحدباء رأى الشبه الذي بينه وبين الطائر ومن خلفهما مدينته التي احترقت والتي لا يراها أحد سواه. وبما أن الرجل وأوديسيوس قد عايشا الأحداث نفسها فقد تماثلت شخصيتيهما في هذه الرؤيا القاسية. ثم حدث الأمر العجيب حين صار الطائر في اللوحة يروي عن احتراقه ثم يشدو لحنا لم يسمعه أحد (أنا الموصل حين صارت صوتا بلا جسد. أنا الإنسان حين يقتل لأنه كان يغني) وفي هذا اللحن ثمة تلميح الى ما مرت به الموصل من أحداث دامية مميتة تركت في جسدها آثارا لا يمكن محوها مهما تقادم الزمن، وهنا يسجل بولص أقوى تعليق على اللوحة من جلجامش أولا ثم من الشاعرة السومرية ثانيا. يقول جلجامش: (من لا يرى الموصل في هذا الطائر، لا يرى الحياة، ومن لا يسمع صراخه، فقد أصم قلبه)  أما الشاعرة السومرية فقد كتبت الآتي: (سيأتي زمن يعاد فيه رسم هذا الطائر، وهو يطير) في هذه اللحظة يتقمص الكاتب شخصية روائي يسرد ما حدث بعد عرض اللوحة إذ يهبط منطاد من السماء يترجل منه رجل غريب يطلق تعليقه عن اللوحة قائلاً (هذه ليست لوحة، بل وثيقة، الطائر هنا لا يصرخ فقط، بل يدين، ويشهد العالم) ثم كتب في دفتره ملاحظة تقول (حين تنطلق الألوان، يجب أن نصمت جميعا) ويستمر بولص في سرده العميق للأحدث متابعا خيطها الدرامي الى النهاية. اعتقد كان هذا هو السبب وراء اعتقاد أحدهم إن هذا السرد ليس إلا رواية لم يشأ بولص تحديد هويتها كي لا تختنق أنفاس مساحتها، ولا يضيق فضاؤها داخل إطار محدد، أراد لنهايتها أن تكون غير مغلقة لذلك ترك دفتر أوديسيوس مفتوحا بلا نهاية.

عند هذه النقطة يبدأ السرد القصصي للحكاية، حكاية اللوحة التي نقلت لنا صرخة الطائر المدوية والصرخة الصامتة لفنان عاش تحت ركام الضوء، وآمن أن الجمال يمكن أن يولد حتى من العزلة وان اللوحة قد تصبح يوما ما النافذة الوحيدة حين تغلق كل الأبواب. ثم يروي لنا كيف أن أديسيوس جلس بين نافذتين شتاءً أواخر التسعينات وكان كل شيء هادئا كما ينبغي وكان يطرح على نفسه أسئلة تخص وجوده وصموده وبقاءه على قيد الحياة وبحثه عن الطريق والبحر لكنه لم يظفر فاستمر في الرسم. هاتان النافذتان كانتا في اللوحة كأنهما جزءا من واجهة بيت قديم أغلقهما الزمن فانفصلتا عن الخارج. نافذتان حركت في نفسي الانفعال وأنا لا أزال اجترح ذكرى نافذة الشاعر سهيل نجم وما حدث خارجها من دمار وهلاك أحال ضوء المدينة الى عتمة هائلة توشح فيها الفردوس بالسواد وكذلك نافذة الشاعرة فرات أسبر التي رأت خارجها كيف انحنى دجلة وكيف انكسر الفرات. ففي قصيدتها الموسومة (الخزن لا يفهم رسائلي) تقول:

وأوصدت الباب المثقوب

والنافذة اليتيمة

ومددت يدي الى الفراغ أصافحه

وارتميت في أحضانه

يبدو لي من خلال متابعة بعض الشعراء أن النافذة صارت رمزا أكثر حضورا من الرموز الأخرى نضرا لأنها توفر إطلالة واضحة لما يحدث خلفها أولا، ولأنها تحصن الرائي ضد كل ما يترسب من قذارات خارجها ثانيا يقول سهيل نجم في قصيدته:

كأن النافذة حين تتسع وتضيق

قلبي، أيضا،

يتسع ويضيق

متلفتا

محاولا، عبثا،

تفادي النظر الى النافذة.

ويستمر بولص في وصف اللوحة محوّلاً إياها الى عالم تم تدميره وقذفه الى خارج الزمن ما يدل على براعته في النقد التشكيلي وتصويره لها بدقة رسام بارع خبر الفن وخبر التجارب المريرة في حياة زاخرة بالقسوة والظلام. لقد حول اللوحة الى عالم أوسع من مساحتها وفضائها، عالم يمتد من داخلها الى خارجها الى آفاق قصية وقد ادخرت كل ما حدث في نينوى أو أوروك أو بخديدا أو بلاد ما بين النهرين بشكل عام، ولم يبق شيئا إلا وقدم له وصفا تتطابق فيه الرؤيا الحاضرة مع الواقع الذي اجترحت مخيلتُه آفاقَه البعيدة. كانت إحداهما مغلقة والأخرى مفتوحة قليلاً مما يشير الى وجود حياة أو أن شيئا ما لا يزال على قيد الحياة. وفي هذا امل كانت الشاعرة السومرية قد نوهت إليه حين قالت سيعاد رسم الطائر وهو يطير. اللوحة إذن هي عنقاء هذا الزمان، وموصلها التي احترقت على أيدي الظلاميين الغاشمة. وبخديدا التي لسعتها الألسن الحارقة. هي مأساة شعب لم ينهض من وجع إلا وقد وقع في أوجاع لا حدود لها. إنه الجحيم يصب غضبه غير العادل على نينوى. يحرقها يدمر بنيتها باشتهاء جنوني، ورغبة في هضم كل حجر فيها فالحجر تاريخ، وحياة تمضي نحو الاكتمال بلا طائل. ومكان يجتمع فيه الأحبة عشاق النور والحياة: لوثر إيشو الفنان التجريدي، وشاكر حسن آل سعيد الذي عقد الروح الجدلية بين الضوء والظل، وهانيبال تجولوا بين الأزقة الموصلية وتبادلوا الحديث عن الفن والذاكرة ثم وقفوا أمام جدار كبير تغطيه رسوم وخطوط عشوائية، وهنا قال شاكر (هذا الجدار هو مرآة لروح المدينة كل خط فيه هو نبضة من قلبها) ثم راحوا يرسمون عليه حكاياتهم عن الألم والأمل وعن الفقد والبعث. ويستعرض الكاتب مسيرة الشخصيات الثلاث وينقل لنا الحوار الذي لا يقال وإنما يرى فقط في لقاء صامت أراد أن يصلح ما خربته أيام الدمار والعار والنار لوثر أراد أن يرمم المفقود من لوحته (نافذتان على الجدار القديم) وهانيبال احترف الصمت الذي يقول كل شيء وظل اللون عنده (موجة عميقة من الألم، لا يصرخ، بل يحترق ببطء. وعندما ينتهي الكاتب من هذا الفصل يدخل الى الفصل الذي يليه:(مدخل من الطين والضوء) وهو مدخل الى لوحة أخرى يقوم الكاتب بتوضيح مؤثثاتها اللونية وأفعال شخصيتها المركزية (المرأة وذاكرة الطين) التي لن تمثل امرأة حسب، بل ذاكرة الأرض وهي تروم شق (جلدها لتخرج أنوثتها في مواجهة العطب والزوال). وبولص يروم الى تحويل كل ما يقال الى ذاكرة صورية. انه يكتب روايته بطريقة تشكيلية تستبعد السرد مجترحة حلولاً بصرية درامية. ثم يبدأ سرده عن دخول أوديسيوس الى الموصل القديمة. وعلى هذا المنوال الجميل يستعرض بولص بقية أحداث روايته أو بالأحرى سرده الحر وانتقالاته الانسيابية من الماضي الى الحاضر ومن الحاضر الى اللازمن أو الى خارج الزمن. وهناك قال هانيبال:

)كل لوحة، في النهاية، هي طريق العودة إلى حيث فقدنا صوتنا.(

في الصورة النهائية وجدت نفسي أسير هذا السرد الشعري، وصوره الدقيقة والخلابة ولم أستطع كبح رغبتي في الاستشهاد الدائم بما جاء فيه من الرؤى الفنية، والغنى المعرفي العميق، والتكامل الجمالي. ورأيت التوقف عند هذه النقطة أجدى من الخضوع التام والانحناء أمام هذه التحفة الفنية الكبيرة.

………………………….

* عن جريدة المنعطف المغربية

 

اقرأ أيضاً

نسخة إلكترونية من كتاب “أوديسيوس المشرقي” للروائي العراقي بولص آدم

بي دي إف| “أوديسيوس المشرقي” للروائي العراقي بولص آدم

مقالات من نفس القسم