لمح البصر

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

في الأربعاء الأول من أبريل بدأ البرنامج الثقافي بالإذاعة برنامجًا جديدًا سيتكرر في الموعد نفسه من كل شهر، بالتعاون مع الهيئة العامة لقصور الثقافة، تحت عنوان المنتدى الثقافي، يقوم على الاحتفاء بمجمل أعمال أحد الأدباء والمثقفين، ومن أسباب الفرح أن يبدأ هذا البرنامج باختيار الكاتب الكبير سيد الوكيل، ليس فقط لاستحقاقه التكريم من نواحٍ عديدة، ولكن أيضًا لأنه ما زال فاعلًا في الحياة الثقافية عمومًا وما زال لديه ما يضيفه مبدعًا حريصًا على أن يكون كل كتاب له وثبة جديدة في الظلام، وفرصة للاكتشاف والتأمل في صبرٍ وتأنٍ، وهو ما أثبته في كتابه القصصي الجميل، الصادر مؤخراً عن دار روافد، لمح البصر، الذي يضم 39 حلماً، على السُنة الحسنة التي استنها نجيب محفوظ، في أحلام فترة النقاهة، واتبعها بإحسانٍ هنا سيد الوكيل، ومن قبله أيضًا القاص والروائي محمود عبد الوهاب، في كتابه أحلام الفترة الانتقالية، ولا أظنهما سيكونان آخر من يغويه هذا الشكل الخاص في الكتابة لو صحّ التعبير، رغم مراوغته وسهولة وقوعه في فخاخ النمط، إن لم يعتمد على رؤية لصيقة بالذات ومفرداتها شديدة الخصوصية. 

لا يفتقد سيد الوكيل إلى شجاعة التجريب في السرد، ولا تهدأ غاراته على الحدود المستقرة للأنواع الأدبية، فإن آخر ما صدر له مثلًا، قبل أحلامه هذه، وهو كتاب الحالة دايت، الذي يناوش الموت من أكثر من زاوية، هو مزيج من السيرة والنقد والسرد، دون أن يعني العصيان على التصنيف هنا كتابة معتمة ثقيلة الوطأة ومغلقة الأبواب، بقدر ما يتيح حرية وخفة وتجاوزاً لقيود عديدة متوهمة. ربما لذلك كان افتتانه بكتابة الأحلام، فقارئ كتابه لمح البصر لا يمكنه ببساطة أن يعرف إن كانت هذه النصوص الصغيرة قصصًا أم لوحات نثرية أم وحدات متصلة في متتالية خيطها الجامع هو روح السارد ومفرداته، وربما هي ذلك كله معًا، لكن المؤكد أن على القارئ أن يدخل إليها أعزل، نافضًا أفكاره المسبقة وتوقعاته، إذا أراد أن يمتع بصره بتأمل 39 لوحة رسمت بالكلمات خطوطها ودرجات ألوانها، سوف تسلمه كل لوحة إلى أختها المجاورة مثل موجات طيبة تهدهد رضيعًا أو شيخًا، رغم ما يكتنف تلك الوداعة والرقة من اختناقات ولطخات حمراء تشي بعنفٍ متواصل عبر عقود، ورغم ما يكتنفها كذلك من وحشة وحضور للموت والفراق المباغت في أشد لحظات الحميمية والانسجام.

أرض الحلم هي نفسها أرض الفن، بلا ثبات في نسيج الزمن والمكان، كلاهما يتحوّل عليها إلى مادة سائلة أقرب إلى الزئبق، إمساكه مستحيل، يجري اختزال المسافات والأعمار في يُسر باسم، والمفارقة تخلو من وطأة المفاجأة الفجة، وضمير المتكلم هادئ رصين وكأنه في حالة من التنويم المغناطيسي حيث يمكنه، بمعجزة ما، أن يحلم ويتكلم، أن يرى ويسجل ما يراه، أن يكون ويرقب، ويعي في انقسامه هذا كل ذواته القديمة والحاضرة والوشيكة معًا.

التحديق في لسان اللهب مثل التحديق في عتمتنا الداخل التي تتكشف للحظة عن لمع البرق الخاطف، إمساكه مستحيل، فاللغة أيضًا لها فخاخها وما إن ينتقل الحلم من المعايشة اللحظية إلى أرض الفن باللغة أو بالرسم يكتسب مادته الصلبة وربما تتسرب إليه مفاهيم خارجة عن سياق ليله الطليق، واردة إليه من دنيا الوعي ونهار اليقظة، فكأن كثير من تلك اللوحات تشير من بعيد إلى الحلم النهائي أو الأصلي، الحلم رقم 40، الخارجي غير الوارد بينها لكنه يضمها ويُنبتها ويعيد إنتاجها من جديد كل لحظة، حلم الواقع الذي نعيشه جميعًا دون أي يقين، وكل ما نملكه إزاءه هو أن ننظر ونرى بدهشة الحالم واستسلامه.

 

مقالات من نفس القسم