بولص آدم
لطالما كان شعر المبدع جزءًا من هويته، رمزًا غير مكتوب للخبرة والعمق، وكأن كل خصلة رمادية على رأسه تحمل صدى فصول لم تُكتب بعد، أو حكايات لم تُروَ. الشعر الرمادي ليس مجرد تفصيل عابر في صورة الأديب؛ إنه حبر هاجر من الصفحات ليستقر فوق الرأس، يكتب بصمت سيرته جنبًا إلى جنب مع الكلمات التي يخطها على الورق.
في زمننا الحالي، أصبح الشعر الرمادي أكثر من مجرد علامة على تقدم العمر. هو خيار شخصي، إعلان عن تقبل الذات، وربما بيان صامت بأن الزمن شريك في الكتابة. حين قررت التوقف عن صبغ شعري، اكتشفت شيئًا ممتعًا: العالم لا يراقب كتابك بقدر ما يراقب شعرك. ترسل رابطًا لتحميل روايتك الأخيرة، ولا يرد أحد على محتواها، لكن فجأة تصل رسالة واحدة قصيرة جدًا: “لماذا لا تصبغ شعرك؟” كأن الشيب خطيئة، وكأن الشعر الرمادي أبلغ من أي سطر كتبته طوال حياتك الأدبية.
الأمر الأكثر طرافة، أنه غالبًا ما يشعر الأديب بتحرر داخلي حقيقي حين يترك شعره على طبيعته. يزول توتر الصبغ الشهري، والقلق من ظهور خصلة رمادية، والخوف من “الظهور بمظهر أكبر سنًا”. يصبح الشعر علامة على تقبل الذات، على ثقة جديدة بالنفس، وعلى علاقة أكثر استرخاءً بالمظهر الخارجي. وكأنك تقول للعالم: هذا أنا، كما أنا الآن، وهذا ليس نقصًا، بل اكتمال.
الشعر الرمادي يترك للأديب مساحة للعبور بين الواقعية والطرافة. فهو يحمل معه حكمة التجارب، لكنه في الوقت ذاته يتيح لمسات كوميدية لطيفة عن النفس الإنسانية، وعن الطريقة التي يراقب بها الآخرون التفاصيل الصغيرة. كل خصلة رمادية تصبح جزءًا من النص المفتوح للحياة، امتدادًا للكلمات والقصص، ومتنفسًا للشخصية التي تتشكل مع كل فصل جديد.
ومع كل هذا، يبقى الشعر الرمادي هشًا، مؤقتًا، يمكن أن يزول ويترك الرأس عاريًا في مواجهة العالم. هنا يكمن المعنى الأشد صدقًا: أن الرمادي لم يكن الغاية، بل محطة صغيرة على الطريق. الشعر الرمادي يعلّمنا شيئًا أساسيًا عن الكتابة والحياة: أن قيمة النص ليست في مظهر المؤلف، بل في الصمت الذي يحمله كل فصل، وفي عمق التجربة التي تترجم إلى كلمات.
في النهاية، سؤال “لماذا لا تصبغ شعرك؟” ليس مجرد فضول سطحي؛ إنه انعكاس لطرافة العالم الذي يراقب تفاصيل صغيرة على حساب المحتوى. والشعر الرمادي، بهذا المعنى، يصبح رمزًا للحرية، للتماسك الداخلي، وللقدرة على المزج بين الجدية والطرافة، بين التجربة الإنسانية والرمزية الأدبية. هو شعر الأديب الذي يكتب حياته كما يكتب كتاباته، ويترك للزمن حرية تشكيل كل نص وكل لحظة، كما تشكل خصلة رمادية واحدة رأسه بطريقة لم يحلم بها أي قلم.. ربما.