لماذا تقول لك هذه البنت “يا بابا”؟

لماذا تقول لك هذه البنت "يا بابا"؟
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

ولد الشاعر والكاتب والناقد والمفكر الأرجنتيني، ولد بورخيس وكفى في عام 1899 وتوفي في عام 1986. في حوارات عديدة معه، وفي كتابات كثيرة له، أكد أنه يعتبر نفسه في المقام الأول شاعرا. ولكنه لم يكتب قط ذلك الشعر الأليف الهين، بل كان طول الوقت مفكرا، وموسوعيا، حتى وهو يكتب الشعر. نقدم له هنا قصيدة نثرية ترجمها من الأسبانية إلى الإنجليزية جيمس إي إربي.

***

بورخيس وأنا

الآخر، المدعو بورخيس، هو الذي تحدث له الأشياء. أسير في شوارع بيونس أيرس وأتوقف لوهلة، ربما بصورة ميكانيكية، لأنظر إلى قوس على مدخل قاعة وزخارف بوابة. أعرف أخبار بورخيس من البريد وأرى اسمه في قائمة الأساتذة أو في قاموس للأعلام. أحب الساعات الرملية، والخرائط، وطوبغرافيا القرن الثامن عشر، ومذاق القهوة ونثر ستيفنسن، وهو يشترك معي في هذا، ولكن بطريقة عبثية تجعل من هذه الأشياء خصالا في ممثل. سيكون من المبالغة القول بأن علاقتنا عدائية، أنا أعيش، وأدع نفسي أواصل العيش، لكي يبتكر بورخيس أدبه، وهذا الأدب يبررني أنا. وليس يشق عليَّ الاعتراف بأنه بأنجز بضع صفحات نافعة ولكن لا خلاص لي أنا في هذه الصفحات، ربما لأن ما هو جيد ليس ملك أحد، ولا حتى هو، بل هو ملك للغة وللتراث. علاوة على أنني مكتوب لي الهلاك، نهائيا، ولحظةٌ ليس أكثر من نفسي هي التي قد تبقى فيه. قليلا قليلا، أسلّمه كل شيء، مع أنني أدرك تماما عادته الهدامة في تزييف الأشياء وتهويلها. سبينوزا كان يعرف أن في كل الأشياء شوقا وإصرارا على أن تكون أنفسها، فالحجر يريد أن يكون حجرا إلى الأبد والنمر نمرا. وسأبقى في بورخيس، لا في نفسي (فأنا في النهاية شخص ما)، ولكنني لا أعثر على نفسي في كتبه بقدر ما يحدث في كتب كثيرين أو في نقر دءوب على جيتار. قبل سنوات حاولت أن أحرر نفسي منه فمضيت عن ميثولوجيا الضواحي إلى الألعاب مع الزمان والأبد، ولكن هذه الألعاب باتت الآن ملك بورخيس، وبات ينبغي أن أتخيل أشياء أخرى. وهكذا هي حياتي، رحلة أفقد فيها كل شيء، وكل شيء هو ملك للنسيان، أو لبورخيس.

أنا حتى لا أعرف من منا كتب هذه الصفحة.

***

اسمه س. قبل دقائق قليلة كان على وشك أن يفعل أي شيء مفيد، ولكنه قرر من جراء أي نزوة لا نعرفها أن يقرأ هذه السطور. هو الآن انتهى من قصيدة خورخي لويس بورخس، والمفترض أنه لم يعد س. لقد تغير طبعا. هو قبل دقائق كان “س ناقص قصيدة بورخيس” وهو الآن “س، زائد قصيدة بورخيس، زائد أفكاره عن قصيدة بورخيس، زائد ذكريات كان قد نسيها وأحيتها من جديد قصيدةُ بورخيس” ولكن هذا الشخص، بعد انتهائه من قراءة القصيدة، وربما هذه السطور، واتجاهه ليفعل ما كان ينبغي في الأصل أن يفعله لولا نزوته، سيجد الناس ينادونه بمجرد س، وكأن تغييرا لم يطرأ عليه.

ليس للأمر علاقة تذكر بقصيدة بورخيس بالذات. الأمر أن س، الذي يحصل على هذا الاسم أو ذاك فور ولادته، يبقى به إلى النهاية، وكأنما لا يحدث له أي شيء. المثير للضحك أن هناك من يتكلم عن هوية ثابتة، سواء لفرد، أو لجماعة من الناس، أو لشعب كامل، أو لأتباع دين وإن اختلفوا حتى في طريقة صلاتهم أو عدد أسماء إلههم. وكأنما يمكن أن تكون الهوية في غير صيرورة دائمة.

بورخيس هنا يتكلم عن بورخيس. أو ثمة من يربي بداخله شخصا اسمه بورخيس. أو ثمة من يعيش داخل شخص اسمه بورخيس. الخلاصة، هناك من كل واحد فينا اثنان على الأقل، واحد يعمل والثاني ينفق، واحد يسهر للمتعة والثاني يصحو من النجمة للعمل، واحد يتزوج حبيبته والثاني يربي أبناءه منها، والمشكلة لا تظهر إلا حينما يطالَب منفق النقود بكسبها، أو سهير الليالي بالعمل، أو الحبيب العاشق بالجلوس جنب طفلة محمومة يفترض أنها ابنته!

 

 

مقالات من نفس القسم