يقول كونديرا “إن فكرة العود الأبدي هي الأكثر ثقلًا على كاهل البشرية”، ربما لا أتذكر النص الصحيح للجملة، ولكنها تدور حول هذا المعنى، ويستغرق كونديرا بعدها صفحات وصفحات يتحدث عن فكرة الأساطير الرومانية الصغيرة التي نعيشها، فالحجر الذي نرميه تجاه شخص ما يرتد ليؤلمنا، والكلمة التي نجرح بها شخص تدمينا، والنظرة التي نسخر بها من شخص، في واقع الأمر، نسخر بها من صورتنا في المرآة، ومن هنا، بدأت التفكير في المثل الشعبي “الدنيا دوراة” ومدى العبقرية والرعب فيه.
كنت قد قرأت الرواية منذ عامين أو ثلاثة، ولا أتذكر تفاصيلها، لكني أتذكر جيدًا أن الكاتب استغرق في شرح الفكرة، وما إذا كانت “العبء الأكثر ثقلًا” أم لا، فمن ناحية نحن لا نعرف الخطأ والصواب لأننا نعيش مرة واحدة فقط، ولم يسمح لنا العمر بتجربة الشيء أكثر من مرة لنعرف ما إذا كان خطأ أم لا، فنحن مثلا لا نعيش مرة لنجرب، ومرة لنختبر، ومرة لنقرر الفعل الصحيح، ومرة لنحياه. ومن ناحية أخرى، فالحياة مرة واحدة مغامرة، تضعك دائمًا في حيّز الاختيار، لأن عليك أن تقرر ما كنت ستفعلها أم لا، ستعيشها أم لا، ستخطئ أم لا.
أفكر كثيرًا في أن جملًا مثل هذه – قد يكون الكاتب كتبها في لحظة نشوة كتابية وغفل عن كم الهلع الذي تحتويه- غيرت حياتي. إيماني مثلا بأن صفعتي ستعود إليّ، جعلني حذرة في معاملتي للناس، أو بمعنى أفضل، أعاملهم بما أحب أن يعود إليّ، ولكني اكتشفت أن عدد قليل من الناس من يقرأ، وعدد أقل من يطبّق ما يقرأه. لذلك، أشعر في كثير من الأحيان بأن ما اقرأه وأنفذّه يعزلني عن العالم، يضعني في كرة زجاجية يستطيع العالم بوقاحته تحطيمها بسهولة.
وكلما قرأت، أدركت أن الكتابة مهنة شبيهة بما يفعله الرب، فعندما أراد الله أن يخاطب البشر، أرسل لهم كتابًا، وقال لهم “اقرأوا”. وفي كل مرة أمسك كتاب، أشعر بأن الكاتب يريد أن يستلهم من روحه المتصلة بالله شيئًا من صفات خالقه، فكتب القدر، أو ما يخيل له أنه “حبكة الحياة”. وكلما كان الكاتب أكثر احترافًا في صياغة “حبكة” روايته، كان قريبًا إلى سيناريو الحياة الذي كتبه الله لنا، الذي تشبه فيه الولادة رمي حجرًا في البحيرة، يُحدِث دوائر صغيرة تكبر وتكبر حتى تصل للشاطئ، ومع كل ولادة لشخص ما في العالم يُلقى حجرًا في بحيرة الكون، وتزداد الدوائر وتتداخل وتتشابك، وتصل جميعها إلى شاطئ النهاية، حيث لا ظالم ولا مظلوم، جميعنا سمك في بحيرة، والماء في رواق وهدوء وصفو. ومهارة الكاتب أن يلقي حجرًا كل قليل، ويحرص على أن يعود الماء صافيًا كما كان، حتى وإن رمى فيه شيئًا، عليه أن يرميه بقوه، لكي يترسب في القاع. عليه أن يجعل الحياة تستمر، وكما تأكل السمكة الكبيرة السمكات الصغار، عليه أن يعطي فرصة للسمكات الصغار لكي يكبرن ويأكلن أسماك أصغر، عليه حفظ هذا التوازن في الحياة بين الآكل والمأكول.
كلما قرأت، يعلمني الأدب بعض أخلاقيات الحياة، ولذلك فهي ضرورة لي أن أقرأ وأن أستمد ذلك من الكتب، ولكني طالما تمنيت أن تكون القراءة حتمية على الجميع، لكي نستطيع أن نتواصل بشكل أرقى كبشر، لا أن نقذف بعضنا بالحجارة ونحن لا نعلم إن كانت ستعود إلينا أم لا، في الحالتين نحن لا نعرف، بالأدب أو بدونه، لكن القراءة تجعلنا أكثر صبرًا، وأكثر تقبلًا لصعوبات الحياة ونذالتها أحيانًا، وقسوتها كثيرًا، وتمنحك بعض الدفء بأن هناك شخص ما يفهم قناعاتك في هذا العالم، وربما عليك السعي للوصول إليه والحديث معه.
كلما توقفت عن القراءة أعود إليها، ربما لأنها تحقق مفهوم العدالة بالنسبة لي، فالكاتب الجيد يعيش حتى لو لم يحقق مبيعات خيالية، والكاتب السيء يظل سيء حتى لو نفذت طبعات كتبه مرّات ومرّات. كلما توقفت عن القراءة عدت إليها، لأنها المكان الوحيد الذي أجد فيه العدل. وكلما توقفت عن القراءة بحثت عن السبب، وكلما بحثت عن السبب وجدت أني أقرأ كتابًا سيئًا، كتابًا لا يحقق لي فكرة العدالة، لا يعطيني أول الخيط وآخره، لا حبكة فيه، ولا صدّ وردّ وشد وجذّب، لا جزاء لكل ضربة، ولا ألم لكل خيانة.. ولأن الحياة ليست عادلة كما الكتب السيئة، أحفز نفسي، وأقرأ كثيرًا.. جدًا.