بدأ لو فو حياته الكتابية في منتصف أربعينيات القرن العشرين. وعندما انتقل إلى تايوان أسس مع بعض أصدقائه الشعراء جمعية للشعر وأصدروا مجلة شعرية عمل رئيسا لتحريرها لما يزيد عن عشر سنوات.
أصدر لو فو أكثر من اثني عشر ديوانا، وخمسة كتب مقالات، وخمسة كتب في النقد الأدبي، وسبعة كتب مترجمة. وحصل على جميع جوائز الشعر الكبرى في تايوان والصين، وترجمت قصائده إلى الإنجليزية والفرنسية والألمانية واليابانية والكورية، والعربية حالا، من خلال القصيدة التالية التي ترجمها إلى الإنجليزية “جون بالكوم”.
***
حذاء في البريد
من على بعد ألف ميل
أرسل لك هذا الحذاء القطني
رسالةً بلا كلمات،
فيها أربعون عاما من الكلام الذي
مرَّ في الذهن دون أن يبلغ اللسان.
جملة بعد جملة مرَّرْتُ في فتحاته
كلَّ ما كان ينبغي أن أقول لكن كتمت
بعضه مخبأ بجانب البئر
بعضه مخبأ في المطبخ
بعضه مخبأ أسفل الوسادة
بعضه مخبأ في ارتعاشة القنديل في جنح الليل
بعضه جفَّفته الريح
بعضه تعفَّن
بعضه ثرمت أسنانه
بعضه كسته الطحالب
وها أنا الآن أجمع كل ذلك
وأمرره في فتحات الحذاء
قد يكون الحذاء صغيرا،
قسته على قلبي،
على طفولتنا،
على أحلام من عمق الليل
لا يهم إن كان قياسه ملائما
تلك مسألة أخرى
فأرجوكِ لا ترمه
كما لو كان حذاء باليا
فثمة أربعون عاما من الأفكار
وأربعون عاما من الوحدة
وقد مررن جميعا في فتحاته.
***
كان الشاعر العربي القديم العباس بن الأحنف فيما يقال عاشقا للعباسة أخت الرشيد، ولمَّا كان بينه وبينها بأس السلطة في أزهى عصور الحضارة الإسلامية وأكثرها قوة، فقد كتم الرجل حبه عن العالم حتى تصور قراء الشعر ونقاده أن ذلك الكتمان التام لا يليق إلا بحب مستحيل، فافترضوا أن يكون موضوع هذا الحب هو أخت الخليفة نفسها، أو أخت الخليفة نفسه لو شئتم الدقة.
وبرغم ما اضطر إليه العباس من كتمان، إلا أنه كتب شعره كله في حبيبة، سماها فوزا، وقال فيها بعضا من أرق الشعر الغرامي في تاريخ اللغة العربية: (طاف الهوى بعباد الله كلهمُ .. حتى إذا مر بي من بينهم وقفا/…/يا فوز كيف بكم والدار قد شحطت..بي عنكمُ وأفول النفس قد أزفا/…/أقول لما رأيت الموت يقصدني … وكاد يهتف بي داعيه أو هتفا/أموت شوقا ولا ألقاكمُ أبدا…فواحسرتا ثم واشوقا ووأسفا).
ما الذي يعني قراء الشعر إن كانت الحبيبة عباسة أم فوزا؟ بل ماذا يعني العباسة نفسها إن اختفى اسمها ما دامت رسائل عاشقها تجيء إليها مغناة وملقاة وسائرة بين الناس؟
وجد الشاعر العربي القديم حلا وسبيلا إلى البوح، فما الذي منع الصيني المعاصر أن يجد حلا لكي لا يتعفن الكلام الذي لم يقله؟
بوسع من يشاء أن يضرب الأخماس في الأسداس، مفترضا ما يعنُّ له من الأسباب لهذا الصمت الذي دام أربعة عقود. وبوسع من يشاء أن يتذكر الصمت النبيل للشاعر الأفروأمريكي “بوب كوفمان”، فقد صمت الرجل سنوات اعتراضا على حرب فييتنام، ولم يتكلم إلا بعد أن وضعت الحرب أوزارها. بوسع من يشاء منكم أن يوجد ولو قسرا سببا للاستمتاع بصمت ذلك الشاعر. ولكن أرجو ألا يفترض أحد منكم أن تسعد الحبيبة بالحذاء، وأن تجد فيه عوضا عن العمر الذي مضى بدون كلمة تبلل جفافه من ذلك العاشق المريض.
قد يتصور البعض أننا متحاملون على الشاعر، ولكن ما نرفضه بالفعل هو موقفه مهما تكن دوافعه. ما لا نجد مبررا له هو هذا الصمت الطويل، وتلك الرغبة المريضة في الحصول على الغفران أو الجزاء من تلك الحبيبة. ما نرفضه هو أن يترك شخص الكلمات للعفونة والهرم، الكلمات التي كان بوسعها أن تحقق السعادة لقائلها وسامعها، وقارئها من بعد. ولعلنا ما نرفض ذلك إلا لأننا ننتمي إلى ثقافة بوسع الكلمة فيها، حين تكون طيبة، أن تكون صدقة، أن تكون شجرة، أصلها ثابت وفرعها في السماء، أن تكون تقربا لا إلى حبيبة، بل إلى الله نفسه.