لغة الكلام ولغة الأفكار في “واد جده.. سجين قشرة البندق” لـمصطفى البلكي

واد جده
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

أمل رفعت

جاءت قراءتي للنص بمحض الصدفة، وبدأت بالعنوان المضروب في اثنين، والذي أدهشني بالفعل، لأنه ببساطة لم يفصح لي عن المحتوى، بل جذبني لأفهم معناه السرد بالداخل، وما لبثت حتى غرقت في عمق النص، وأنا من نوع القارئ البطيء، لكن السؤال الذي سألته لنفسي هو “ما الذي يشدني إلى إكمال الفصول وعدم ترك الرواية؟” الإجابة عند معظم القراء تكون: “العمل جاذب”، لكن ما الذي يشد القارئ للعمل؟، إنه سؤال آخر لكنه مطروح، فربما الشخصية الرئيسة، وربما الحدث الأول، وربما البداية الجيدة، وربما التشويق!

أما أنا فإجابتي قد تكون غريبة قليلا، لكنها مقنعة، فأنا التي جذبتها لغة النص، ولا ينفي هذا جودة باقي العناصر التي تشد أي قارئ، وبما أن قراءتي تحليلية؛ فلنبدأ من أول كلمة:  

العنوان: الحقيقة لم يكن العنوان بالنسبة لي يفصح عن ما أنا مقبلة على قراءته، بالرغم من العنوانين المدونين للنص؛ جملة سجين قشرة البندق لها معان كثيرة فليس معنى أن للبندق قشرة أن تكون له ثمرة فقد تكون وحدة البندق فارغة أو عطبة، باختصار قشر البندق الصلب يوحي بالسجن والظلمة والغلظة، فهو تأكيد لكلمة سجين، وهو تأكيد للعنوان الأول الذي يعتبر لقب لشخص ما، والحقيقة “واد جده” عنوان لم أستطع قراءته في البداية عل وجه الدقة؛ لانه غير مشكل، وهذا ليس عيبًا، فبالتأكيد الفكرة مقصودة بقصد التشويق للقراءة، وبالفعل جاء الفهم حينما انخزطت في القراءة، وعلمت أنه ابن الجد، وكيف يكون الولد ابن الجد متخطيًا الأب، ومن جملة التساؤلات يأتي التشويق وتأخذ القارئ الإثارة إلى بحر النص بلا مرسى يتوقف عندها.

اللغة مذهلة في جزالتها، فهي بسيطة، مشوقة، تأخذ إلى العمق والمقصد، في نفس الوقت تركيباتها جميلة نظرًا لبساطتها، والتركيب هنا يكثر به التشبيهات اللطيفة مثل (تحول صمته إلى موسيقى جنائزية) وهي العبارة التي تعبر عن الصمت الحزين، فقد قالت الجملة أشياء كثيرة بالرغم من بساطتها، اللغة هي البطل الذي يثري الفكرة ويعمقها، الجمل قصيرة وتعرف الطريق إلى تحقيق الهدف كما في جملة “وبضربة قوية من قضيب ضخم، أســقطوا مهابة الأيام داخلي، قالوا كل شيء في فعلهم، وتركوني جثة هامدة” ص43.

_ أيضًا استخدام الضمير في الرواية، فالبطل هو الراوي، وهنا نجد حالة من التصديق لكل الأحداث وكل ما يرويه المتكلم.

لعبة الزمن ودلالة التواريخ:

2011، 1952، 1977، 1981… وغيرها كلها رموز لعبت دورًا هامًا بالنص نظرًا لاختصار الحدث بذكر تاريخه، وستأتي علاقة اللغة بالرمزية فيما بعد على نطاق أوسع.

 لعبة السياسة مع الزمن وكيف صاغتها اللغة؟

كيف استخدم الكاتب أدواته في اللعب مع السياسة واستدعاء التاريخ وتأكيد مقولة أن التاريخ يعيد نفسه؟

فقد بدأ ذلك بتاريخ الثوررات 1952، وثورة2011، ثم انطلق في ملعب السياسة باستدعاء رجال ثورة 52 وكيف سيطروا على كل شيء، وتحول البطل من لعبة في يد اللصوص إلى سيدهم الذي يمحو بعضًا من أميتهم، ثم تحول ذلك البطل إلى أداة في يد رجال الثورة، وهذا بدا واضحًا من منذ البداية وزاد الوضوح في فصل بعنوان (بائع متجول) ص40، فالإسقاط على الشيوعية وكتب الفلسفة ووصفها بالكفر من جانب ضابط الثورة ينبه مدى التحولات السياسية التي حدثت بداية من التحول من الملكية إلى الجمهورية، والتي تكون فيها جميع السلطات في يد واحدة حاكمة كالملكية تمامًا إنما التسمية مختلفة، بدئا من تحول الاحتلال المباشر إلى أشكال أشكال أخرى، كما أن هناك إشارة واضحة إلى بداية نشأة أمن الدولة في نفس الفصل ص40، والذي دلت عليه عبارة” فأخذني معصوب العينين” كما أن الدلالت على بداية تجنيد بعض من أفراد الشعب لصالح المخابرات أو السلطة واضحة.

_ دائما هناك شعور يراودني كقارئ بان النص سيرة غيرية، ولكني أعتقد أن ذلك الشعور راجع إلى الحال الجمعي للناس في حقبة 52 وما بعدها، وهو حال الحروب، والهزائم، والانفعالات السياسية، والحياتية والشعور بالكبت، والاختناق وهو ما يصفه ذلك المقطع ص 48″للحظات أتبع شــفافية الصمت الذي ســيجلب لي السكون، وحينما أطمئن إلى الاستقرار، أميل إلى الكلام، فأنتقي ما أحب ثم أسكت وظلال ابتسامة تخدش شفتي، الابتسامة تأتي دائمًا بموجة غضب، ينجح الضابط في كتمه، وحينما يعيدها لي، يتدفق داخلي نهر من الكلام، فأمشي وحدي، حافي القدمين على نفس الطرق الحجرية، وأغني عن الوحيد الذي لا يجد من يترفق به، فأشــعر

بضعفي، وأخاف من اكتشــاف هشاشــتي، فأحتمي بتاريخي.”

وتتجلى صور اللغة بالبيان وباللغة في وصف العلاقة بين البطل وأول امرأة مارس معها الحب، الوصف صادق بدون خدش لحياء القارئ ومتناسق مع كل لحظة يمر بها البطل في أحضان تلك المرأة التي قابلها صدفة وتدرج بينهما الأمر ذلك في ص67 حيث يقول”وفي اللحظة التي عادت فيها لمكان جلوسها ذهبتُ إلى حضورها؛ فأدركت أنها جاءت بغير أوانها، وقدر لي أن أنسخ صورتها، وما يمكن ادخاره في أذن كل عابر وقاصد للكلمات…”

إنها لغة حولت لغة الجسد إلى كلمات.

اللغة الكلامية والروح الصوفية:

وهنا تتجلى الروح الصوفية في كل الفصول وتحت كل الكلمات وبين النقاط، من البداية للنهاية، هنا تدلنا اللغة على الشفافية التي تحملها لنا الجمل والكلمات.

 كيف صاغت اللغة الفكرة؟

ولان الفكرة قوية تتفرع منها أفكار أخرى، فهي تحتاج إلى لغة في مثل قوتها، كالجمل القصيرة التي تثير التشويق، فالفكرة تتحد في سيرة البطل الذي ولد بلا أب يحمل اسمه في شهادة الميلاد، وانخرط مع ثلة من اللصوص كاد يثقفهم، وبعد الثورة كان الشاب الصغير يعرف أكثر مما ينبغي عن الحياة وعن السرقة والنهب، كذلك عن بعض من الصوفية والسياسة، وتحول إلى كاتب في يوم وليلة، عن ماذا كتب؟ الإجابة هي جزء من السياسة الممزوجة بدهاء اللصوص، التي جعلت كتابه يدرس في كلية الشرطة! غريب أليس كذلك؟

ليس بغريب حينما يقول : “تذكرت وبقسوة زوايا حروف الوجع الحادة” ص59؛ فهكذا يطوع اللغة دائمًا؛ ليسبق بنا الأحداث!

كيف عبرت اللغة عن العوامل النفسية وتغيرها في النص؟

هذا سؤال مشروع في هذا النص، فقد طوع البلكي اللغة لإظهار كل الإنفعالات النفسية التي تولدت بداخل البطل نتاج التعذيب، الأعتقال، النسب، الوحدة، الانخراط في الممنوع، حتى في الكتابة والسرد على الورق؛ لإخرج تلك الانفعالات في شكل إعترافات؛ ليخرج لنا كتابا لمؤلف مجهول وأصبح الكتاب يدرس في كلية الشرطة.. إنها قدرة البلكي في تطويع اللغة في التحليل النفسي للشخصية الرئيسة.

الفصول القصيرة:

من سمات النص هنا أن فصوله قصيرة وهذا شيء يثير التشويق ويعطي القارئ فرصة لتحليل ما قرأه، واستيعاب الفصل الجديد بعتبته المعنونة بعنوان جاذب، هذا بالتأكيد أثر على لغة النص وأكسبها سمات القصة القصيرة التي تنطلق فكرتها لتصيب الهدف من دون إزعاج أو إهدار لوقت القارئ.

اللغة والاستدعاء في الرواية:

 بالطبع شخصية المرأة رمزية في الرواية فهي حاضرة ملء الغياب، لذا فالبلكي يطوع اللغة لاستدعاء البطل للمراة التي أرادها من دون أن يراها، فتهيئ له اللغة كل فروض تواجدها الوهمي؛ ليراها بعيون رجل وحيد ضل سعيه في الحياه وهو يحسب أنه يحسن صنعا، أما المرأة التي تزوجها بلا اسم، ولكن وصفها فسر للقارئ هويتها، وبسبب سقوطها في هاوية الخيانة قتلها.. كذلك فتاة الحانة التي كانت تعزف على الجيتار فصل(يناير 1977 ، كان لقاءً عابرًا، تحول إلى حوار به شد وجذب كأنه محاكاة روحية بين معذبين، ورغم ذلك كأن المرأة وهمًا كما ظهر ت اختفت، وبالرغم من ذلك أصبح لها اسمًا (راجية) كما أصبح لها دورًا وذلك في فصل بعنوان(جسور معلقة)مثلها مثل دور الأم سبب كل الآلام التي خلفتها لطفل بلا أب، الحضور الحقيقي كان حضور الجدة، ولكن الحضور كان مؤقتًا، والغياب كان سريعًا، والموتة شهية عجيبة عن طريق الانتحار، كأن المراة العجوز التي انسخلت عن عالمها الريفي وجاءت إلى المدينة لم تقوَ على احتمال ضجيجها؛ فألقت بنفسها من شرفة بيت المدينة .

اللغة والرمزية:

وكرمزية الأنثى هناك العديد من الرموز تتخذها اللغة في زمن ما ومكان ما؛ لإسقاط ما والرمزية هنا هامة حيث تلعب السياسة دور البطولة في العمل، كذلك الرمزية التي ظهرت في العناوين كتواريخ تحمل أحداثًا، يناير 1977، سبتمر 1981، بالأضافة إلى التواريخ السابقة على تلك الفصول

في ص 117 جاء الاسم الملفت لامرأة بعد فصول عدة(همت) وأظنه رمزًا لمذيعة حاورت السادات وكان اسمها همت مصطفى، اعتقد أن الاسم هنا رمزًا بالرغم من أن الموضع الذي وضع فيه الرمز يعد مجرد إسقاط سياسي.. أرى أيضًا أن عصا الشواف التي ضرب بها المحافظ صغيرًا رمز له العديد من الدلائل، بعضها دل على عصر الإنفتاح الاقتصدي، وهي جزء من ترويض الشعب على العصا والجزرة، والعصا معروف دلالتها أما الجزرة فقد كانت ذلك لانفتاح وكان ريعه للقطط السمان فقط، وظل الشعب بلا أرباح، وقد تكون لها دلالت أخرى في نفس يعقوب تأملت أن تظهر في الفصول الأخيرة للنص، لكنني مالبثت أن أفكر في ذلك الظهور المتاخر حتى وجدت شبح الفتنة الطائفية يطل من فصل (جسور معلقة) وسألت نفسي كقارئ حينها _هل الفصول القادمة ستحمل دلالات إضافية لرمز العصا؟

أما رمز الغياب ل30 عامًا في العمل بالخليج فهو رمز بقاء مبارك بالسلطة قبل 25 يناير 2011، كما أن هذا  الغياب هو نفسه البعد عن راجية والتي أراها تمثل الوطن مصر، فهى مختطفة معظم الوقت في النص.

الغلاف:

وأخيرًا لم يضف لي كثيرًا لاني وصلني بعد قراءتي لل بي دي إف، وهو ظهر البطل الذي أعطى وجهه لثلاثة وجوه هي جده وجدته وامرأة تمثل كل امرأة قابلها.

كلمة أخيرة مني كقارئ لكل من يبحث عن رواية يستمتع بلغتها وببنائها الدرامي وبفلسفتها؛ فليقرأ واد جده.

مقالات من نفس القسم