مالك رابح
سبحتْ المؤشرات في مياه أخرى. كنتُ متكومًا على المقعد الخلفي في سيارة أجرة، خاضعًا للقوانين الحاكمة للحركة طبقًا لعدد المؤخرات على المقعد والبرودة الناشرة من معدن السيارة، يكللني تعب آخر النهار وخسارة فردانيتي صفَ أسنانها العلوي.
حدث ذلك منذ خمس سنوات تقريبًا في الشتاء. توقفت السيّارة في محطة بنزين ومن النافذة، على الناحية الأخرى، امتد سور متوسط الطول خلفه كانت نباتات عباد شمس طويلة السيقان رُسمت على خلفية الغروب ومثلما عبثت الرياح بالستائر في واحدة من ذكريات ڨيرچينيا وولف المبكرة حرك الهواء، الذي كان باردًا وحريصًا أن يظهر في صورة محايدة، سيقان عبّاد الشمس بطريقة لم تَمح فقط كل تعب اليوم وتركب أسنانًا بديلة لفردانيتي المصابة لكنها أيضًا نصرت المجادلة التي تقول أن قليلًا من الشعر هو المكتوب ثم، ولوهلة هناك، بدا وكأنها ضمدت الجروح المفتوحة من حروب الاستنزاف اليومية.
لحظة وجود هو مصطلح قدمته لنا ڨيرچينيا وولف، جميلة الجميلات؛ بالنسبة لها لحظة الوجود هي لحظة مطرزة بوعينا الكامل بحدوثها وموسومة بحدة شعورنا بها. ليست لحظة الوجود حشوًا بين نقطتين أو شيئًا يتسرب بسهولة من جيوبنا. خارجة عن قماش العادية وناشبة مخالبها في وجه التافه والغَيْري، تتراءي لحظة الوجود عند استرجاعها، كأنها خارجة للتو (وأكثر حقيقية أغلب الأحيان) من بحر الهنا والآن، زاهية تتنفس فيها الألوان ولا يتم فيها تخطي التفاصيل. في المقابل هناك لحظة لاوجود، لحظة كُتب عليها أن تقع في سلة المهملات لأننا لم نلتفت لها أصلًا، حدثت ونحنُ على الطيار الآلي، ولا تجد طريقها أبدًا إلى مذكراتنا.
ما يثير الاهتمام هنا هو حيادية طبيعة الأفعال في رسم الخط بين لحظة وجود ولحظة لاوجود، لا يوجد فعل يتطلب بدوره مصاحبة لحظة وجود أو لا وجود. في نهاية الوقت، حدث صغير كترتيب غرفة أو تغيير ملاءة السرير قد يرسم بصمة واضحة على فخار عقولنا. أيضًا، بالنظر إلى أن المرء أحيانًا لا يمكنه أن يصب وعيه وحدة شعوره في اللحظات بالأمر، يلامس بزوغ لحظات الوجود خيط من اللاتوقع والمفاجأة، وكما تراقصت سيقان عباد الشمس على خلفية من الأفق المفرّش بالغروب (الذي لم يستدع اهتمامي)، تومض لحظات الوجود على عتمة دامسة من لحظات اللاوجود.
إن أي سطر في أي قصة جيدة، بشكل أو بآخر، هو لحظة وجود. لا يمكننا توقع ما يمكن لكاتب أن يشطبه في مذكراته أن ينتهي إلى قصة قصيرة جيدة، بذلك تصير القصة هنا ملاذًا يعطي ما هو شديد الذاتية للفرد كلحظة وجود (سواء كانت للكاتب نفسه أو شخصية في الكتاب) شرعية وجوازًا للاعتراف بالأهمية، واحدة من الأجهزة القليلة التي تضمن تنفس لحظات الوجود خارج الفرد وراية صغيرة للانتصار، ولو لفترة قصيرة، على التافه والمبتذل، على العظيم الجرانديوزي، على الكتالوجات الضخمة للحياة. لكنها، مع ذلك، تطرح سؤالًا ملحًا: فعلى سديم من لحظات وجود ما الذي يمكن أن يومض؟
ترى أليس مونرو (جميلة الجميلات بصدق هذه المرة) أنه من الأفضل أن تحتفظ القصة بين طيّاتها بلحظة مشرقة غريبة وأنه بطريقة أو أخرى ذلك ما تدور حوله القصة. ليس وحدها مونرو من ترى ذلك؛ كتائب من الكتّاب الجيدين والسيئين على السواء، وإن لَم يقولوا ذلك صراحة، يقفون معها تحت مظلة هذا الكود.
قد تكون اللحظة المشرقة الغريبة ثلاث نساء في طريق العودة لبيوتهن، تحت الثلج المتساقط في ليلة عيد الميلاد، عقدن أذرعهن كأصدقاء قدامي وغنَّين في الليل (عند مونرو في قصة موسم الحبش) وقد يكون اختفاء روث كلب قذفه الأطفال إلى محجر ثم صياحِهم احتفالًا أو تفكير هادئ أثناء المشي جوار حقل ذرة (عند چورچ سوندرز في قصتي بوهيميانز وپاپي على التوالي). قد تكون اللحظة المشرقة الغريبة سنتمنتالية كأن يحتضن أحدهم رأس فرس ويشكو لها خسارة ابنه (عند تشيكوف في قصة وحشة)، بسيطة كجلوس عاشقين جوار بعضهما في السيارة حيث أبقت المرأة يدها على ساق الرجل طوال طريق العودة (عند كارڨر في قصة ريش) أو قد تؤدي اللحظة إلى رفع حواجبنا كتمطّي الجسد الغض لأخت جريجور سامسا (عند كافكا في التحول).
أيًا يكن، تبحث أي القصة عن لحظتها المشرقة الغريبة. ذكري تراقص سيقان عباد الشمس على الناحية الأخرى ستأتي بالجمال والحيوية المعتادين كلحظة وجود تخصني، لكن معنى التراقص هو شئ دائمًا في طورالاكتشاف مما يجبرني أن أشعر أني جزء من حركة أعظم، حيث اللحظة المشرقة الغريبة هي شعور القصة بنفسها، إنها القصة وهي تحاول الحصول على لحظة وجود خاصة بها، حتى وإن لم نفهمها.