محمد حلمي
كانت ولا تزال ألوان الحمام تحرّك في داخلي شيئًا لا أعرفه، لكنها تجذبني إليها برشاقتها، بانسياب أجسامها، وبسرعة طيرانها. كان لدينا في بيتنا القديم برج صغير للحمام، لكنني لم أكن منشغلاً به قط.
تغيّر كل شيء حين دخلت كلية الفنون، ورأيت الحمام عملت فنيا بديعا الالوان والكتلة ولحظات الطيران الرشيقة.
سنوات طويلة، رأيت فيها الحمام بأشكال متعددة.
أحيانًا كنت أتتبع السرب، ومرات ألاحق حمامة واحدة من نقطة إلى أخرى. لكن هذه المرة، الأمر مختلف. هذه المرة تلعب الحمامة دور البطولة، وأنا مجرّد متفرج، وطالب كُتب له أن يتحصّل العلم منها.
أطلت عليّ حمامة بنية اللون داخل مرسمي، وأصرّت أن تبني عشّها هناك. لا أعلم لماذا اختارت هذا المكان، لكنه كان اختيارها. بدأت تصنع عشّها بإتقان، وكأنها فنانة تعرف جيدًا أدواتها، ثم وضعت بيضتين، كل شيء بدا محسوبًا بدقة.
راقبتها بصمت. لا أعلم إن كان يجب أن أساعدها بشيء، أأضع لها طعامًا أو ماء؟ لكنني قررت ألا أتدخل، فقط أراقب.
دهشت من صبرها. كيف يجلس المرء ساعات طويلة بلا حراك؟ بالكاد كانت تحرك رأسها، ثم تطير لوقت غير معلوم دون أن تخبرني إلى أين، ولا متى تعود. لم تطلب مني شيئًا، فقط تقوم بدورها كما اعتادت أن تفعل.
كل يوم كانت تستفزّني أكثر، فأنا لا أملك هذا الصبر. لا أحتمل الجلوس دقائق بلا حركة، فكيف بها؟ صرت أفكر أن أفعل مثلها، لكن كيف؟
استقرّ الحال على ذلك. أيام تمر، أذهب لبيتي وأعود، فأجدها إما جالسة على بيضها أو طائرة خارجه. حتى دخلت مرسمي يومًا ولم أجدها. لم أجد البيض أيضًا. كان العشّ فارغًا، كأطلال قديم هجره أهله. تمنيت لو أنها حدّثتني، فقط لأعرف ماذا حدث.
مرّ أسبوع تقريبًا، ثم عادت من جديد، بنفس الإصرار. صنعت عشًا آخر، ووضعت البيض. راقبتها مرة أخرى، لكن هذه المرة لم تدم طويلاً. سقط البيض من العش وتكسّر. وقفت تنظر حولها، وكأنها تقول: “ما الذي حدث؟”
وقتها ظلّ سؤال واحد يطاردني: ما هذا الإصرار؟ من أين تأتي بقوة تحمّل هذه المشقة؟
رحلت الحمامة، وتركتني غارقًا في التفكير. كنت كلما رأيت حمامة في الطريق، قلت: ربما تعود، ربما تبني عشًا جديدًا هنا.
لكن حمامتي كانت قد تبنّت المكان. كأنها اشترته دون علمي.
وفي المحاولة الثالثة، صنعت عشًا جديدًا، ووضعت بيضتين، وجلست فوقهما كما اعتادت. لم يتغير شيء، سوى أن هذه المرة، خرج الفرخان إلى الحياة.
رأيتهما بعيني، جالستين في انتظار الأم. ثم رحلت الأم، ورحل الصغيران أيضًا، يتحركان بحذر، يتحسّسان الأرض، في انتظار لحظة الطيران المناسبة.