إيناس حليم
في رواية تمزج في أحداثها وفكرتها بين الواقع والفانتازيا، ترسم الكاتبة رشا سنبل خطًا رهيفًا بين زمنين، فنجد هناك بدايتين لحكايتين؛ إحداهما في الماضي، تبدأ في الظلام، في مدينة بعيدة في الجنوب تسمى “أرض الذهب” لمعبد نُقش على أحد جدرانه حكاية تمت بين أروقته عن حدث انتصار وهزيمة، وأُلقيت فيه تميمة من كلمات حامية قالتها أميرة. أما الحكاية الثانية؛ الحكاية الحاضرة في النور، فهي عن بيت الجدة “حياة”، بيت السر والحكمة والإرث الذي ثمّنته بطلة الحكاية بعد أن غاصت في عمقه بشجاعة أميرة ونُبل فتاة قادرة على قول الحقيقة، الفتاة التي اختارها القرط اللازوردي ليهمس لها بسر الحكايتين، حكايتي الماضي والحاضر، وما تحملهما من حضور لظلين يتحركان في الظلام، واختفاء لجد ظل محتجزًا في أحد آبار التاريخ.
تتناول الرواية قصة “لبنى”، الفتاة المراهقة التي تُترك في رعاية جدتها “حياة”، وفي بيتها/ خزانة الأسرار تكتشف عالمًا جديدًا تتعرف من خلاله على صورة مختلفة لماضي عائلتها الغامض، الماضي المرتبط بأسطورة تتكلم عن أميرة عظيمة، دفنت صندوقًا به كتاب عجيب في أرض بعيدة لا يعرف مكانها أحد، ثم وضعت قوتها وعلمها في قرط تتوارثه الفتيات.
وبأسلوب أخّاذ، تتكئ الكاتبة على عنصر المغامرة بشكل كبير مما يثير اهتمام القارئ ويُعزز ارتباطه بالأحداث، وبلغة سلسة تتسم بالبساطة التي تتناسب مع المرحلة العمرية لفئة القراء اليافعين، وفي الوقت ذاته تحمل عمقًا وامتدادات لأفكار تناسب الكبار. قامت الكاتبة بدمج الحوار في السرد، واستخدامه كأداة فعالة لنقل المشاعر وبناء الشخصيات داخل بنية سردية مُحكمة، وبحبكة متقنة تحمل تسلسلاً منطقيًا ومشوقًا للأحداث خاصة أثناء الانتقال بين زمنين ومكانين مختلفين.
قدّمت الكاتبة في روايتها قيمًا إنسانية مهمة ضمن سياق سردي ممتع مع الحرص على الابتعاد عن أسلوب الخطاب الوعظي المباشر، بوعي تام بمتطلبات المرحلة العمرية التي تكتب لها، مُنصتةً للتحدي الذي يجب أن يتبناه كاتب أدب اليافعين، الذي يُخاطب جيلاً جديدًا مختلفًا يدرك تطلعاته وآفاق معرفته التي تتسع يومًا بعد يوم، هذا الجيل الذي أصبح مدمنًا على التكنولوجيا مما يوجب على التجربة الأدبية المقدمة له أن تحرص على خلق حكاية جاذبة واختيار تقنيات كتابة تناسب معرفته وتطلعاته لتقلل الفجوة بين الكاتب وهذا الجيل الجديد.
ومن خلال تجربتها، تبرهن الكاتبة أن فن الرواية ليس للمتعة فقط، بل هو وسيلة لإلهام القراء وتحفيزهم على التفكير في القيم الإنسانية ومعنى الحياة، كما يساعد في تشكيل وعيهم وتوسيع آفاق خيالهم مما يساعدهم على فهم الحياة والذات بشكل أعمق، كما تؤكد أهمية الحكايات كوسيلة للحفاظ على التاريخ وتعليم الأجيال الجديدة القيم والأخلاق، مدركة أن هذا النوع من الأدب يواجه تحديات كبيرة في العالم العربي، ويحتاج إلى مزيد من الجهد والابتكار وتطوير الأساليب السردية واختيار الموضوعات التي تواكب هذا الجيل وتجعله يتفاعل معها ويتأثر بها، فمرحلة اليافعين تتطلب أن تكون ملامح الشخصيات المبتكرة قريبة من عالمهم وأفكارهم بحيث تعكس هواجسهم وطموحاتهم، وهذا ما قامت به الكاتبة في رسم شخصية “لبنى” وما تحمله من مخاوف لا تتعارض مع ثقتها بنفسها وقدرتها على التخطيط وحماستها في خوض رحلة جديدة ربما لم تفكر فيها الجدة، بل والتمرد في النهاية على أوامر القرط وعدم طاعته.
وفي رحلة “لبنى” للتعرف على العالم الغامض في الجانب الآخر من الكتاب، سنجد أن حالة هذا العالم وصراعاته وتفاصيل تلك المغامرة ستقدم دروسًا للطرفين -“لبنى” والجدة “حياة” على حد سواء، فتصل كلتاهما للإيمان بشيء يخصها، ستتعلم لبنى الإيمان بنفسها وبشجاعتها وقدراتها، كما ستتعلم الجدة الإيمان بروح حفيدتها المفعمة بالحياة والأفكار الجديدة، وفي ذلك إشارة وحث غير مباشر على التصديق بقدرات الجيل الجديد واحترام رؤيته وأفكاره، حيث أوضحت ضمن نسيج الحكاية أن الطريقة التقليدية التي اتبعتها الجدة على مدار سنوات طويلة لتصنع صفحات جديدة للكتاب الأسطوري لتُعيد بها الحال كما كان في السابق -الشبحين والجد كلاً إلى عالمه- لم تكن الطريقة الصحيحة، بينما خرجت لبنى من صندوق أفكار جدتها لتجد وسيلة أخرى لصنع الصفحات في عالم آخر، وربما في هذا إشارة أيضًا إلى أن العالم الذي ينظر إليه الجيل القديم من بعيد ليس سيئًا كما نظن، بل ربما يحتاج فقط إلى التقويم والتفهم والاستيعاب والثقة في أفكارهم.
من ناحية أخرى، تطرح الرواية أفكارًا وتأملات عدة؛ مثل مشاعر الصداقة التي تتمثل في علاقة لبنى بصديقتها “ورد”، وفي تأمل طاقة الأحجار الكريمة وأسرارها: “فلكل حجر سِر، ولكل حجر قوة، والحجر الذي في هذا القرط من نوع اسمه اللازورد الأزرق.” وهو “حجر يمنح من يرتديه القوة والشجاعة لقول الحقيقة”.
كما سنجد دعوة لتأمل الطبيعة في مشهد القطة “سكر” التي وُجدت في حوض نبات البردي، ومشهد آخر أثناء محاولتها الإمساك بالذباب والفراشات، وكذلك في صورة شجرة الجميز العجوز متشابكة الأغصان، التي يرقد وسط أغصانها طائر أبو منجل. في هذا السياق، تقدم الكاتبة وصفًا جميلًا لصورة الشجرة في عين وخيال لبنى: “إنها شجرة ضخمة تبدو مثل وحش يمد يديه نحو المنزل، وعلى ساقيها تجعيدات كعينين حادتين تنظران لي، أراهن أنه تسكنها أشباح ما”. وفي إشارة ذكية من الكاتبة لخطر انقراض طيور أبي منجل بسبب محاولات اصطيادها وإيذائها، سنجد توظيفًا ميتافيزيقيًا له، حيث اعتبره القدماء رمزًا للكتابة والحكمة، إذ أنه يستطيع التنقل بين عالمين، كما أنه هو الذي ينقل العلم من عالم الأرواح إلى العالم المادي، فجعلته ينقل الأشباح إلى الضفة الأخرى في عالم الكتاب، وفي هذا برعت الكاتبة في وصف المشاهد لتصوير العالمين الواقعي والخيالي.
تتناول الكاتبة أيضًا إحساس الخوف بقولها إن: “الخوف إحساس طبيعي لا يجب أن يمنع الإنسان من السير في طريقه“، مشيرة إلى أن على كل منّا أن يتبع لحنه الخاص ويظل متمسكًا بالأمل، وأن على كل منّا أن يجد كلماته الحامية كما وجدتها لبنى في نهاية الحكاية “اثبت حيث أنت، انزع عنك سِحرك، وكُن حجرًا”، مؤكدة أن اكتشاف الأسرار، وأن الرحلة بأكملها يمكن أن تغير نظرتنا للأشخاص والعالم من حولنا.
على ذلك، يُمكن النظر إلى رواية “لبنى والقرط اللازوردي” باعتبارها تجربة فريدة في أدب اليافعين، ليس فقط لأنها تطرح وتُجسد مجموعة من القيم الإنسانية المهمة مثل الشجاعة، والنبل، والصدق وتحكي صراعًا أزليًا بين الخير والشر، بل لأنها اتخذت من الحضارة المصرية وسيلة لاستلهام الخيال ووظفت التراث العربي والمصري كقاعدة للرواية بأسلوب سلس وممتع، وهو ما أعطى للنص خصوصيته وأصالته وأضفى عليه بعدًا سحريًا يثير فضول القراء للبحث عن أسرار تلك الحضارة، مما يُقرب القارئ من تاريخه ويُعزز انتماءه له.
والجدير بالذكر أن الغلاف والرسوم الداخلية للفنانة سحر عبد الله جاءت لتكمل النص، فلم تقتصر الرسومات على التعبير عن الأحداث، بل أضافت عمقًا وبُعدًا بصريًا للنص وعكست روح الحكاية، مما عزز التفاعل بين الكلمة والصورة ورفع من مستوى فهم القارئ للأحداث.
رشا سنبل كاتبة مصرية نُشرت لها ثلاث روايات للناشئة: “يوميات طالب ثانوي” ٢٠١٣، “نور والوشم العجيب” ٢٠١٨، ” “على جبهتي بثرة” ٢٠٢١، وآخرها لبنى والقرط اللازوردي 2024. قامت بتحرير ترجمة سلسلة كتب أمريكية شهيرة للناشئة بعنوان ” مذكرات حمقاء Dork Diaries”، تُلقي محاضرات توعية وورش كتابة للناشئة، كما تُنسق وتُدير لقاءات ثقافية.