لا عزاء

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

مهند  عبد العظيم

كان يصر على الوقوف أمام المرآة، لا ليرى وجهه، بل لينزعه ويظهر وجهه الحقيقي، يصر على أن يرتدي حذاءً يؤلم قدميه، لا محبة في الألم، بل لأنه حاك هذا الحذاء، كما حاك وجهه الذي يظهر به أمام الآخرين.

*

بعد وفاة أبي بعامين ذهبت مع أحد أطباء العائلة للكشف على عيني، وقتها خيل لي أني مشروع لاعب كرة، لذا؛ كان من الصعب الرضا بحل النظارة الطبية، ورفضت فعلًا، وقضيت عدة أعوام دون نظارة، حتى توغل الاكتئاب في رأسي خلال المراهقة أي عقب موته ربما بعشرة سنوات أو أكثر، وبدأت أعاني من الأرق لمدة عام ونصف، بعدها بشهور ذهبت إلى طبيبة العيون لتقرر بأن لا محالة من ارتداء نظارة وإلا ظل الصداع في رأسك، وخلال خمس سنوات ارتديت نظارتين، الأولى ضاعت قبل الكورونا بأيامٍ قليلة، اختفت وتبخرت، وأثناء ما كان العالم يخاف الرؤية، كنت أحدق حتى أرى، ذهبت إلى وسط البلد حتى أحصل على نظارة جديدة، وأحافظ على نظري كي أرى الأشياء كما هي أو كما تبدو. اليوم كسرت النظارة وليكن اسمها النظارة رقم ٢، وكما هي العادة قررت أن أذهب لإصلاحها، غيرت الرجل الذي أعتاد أن يردد عليّ أنه “مل من إصلاحها” وأن عليّ شراء أخرى وينهال عليّ بعروض كثيرة لنظارات جديدة، لن يعرف كوني أتمسك بهذه النظارة بالتحديد وأرممها لأنني أرى حياتي في إحدى ذراعيها، ذراع معوج مهما تم إصلاحه أو حتى تبديل السوستة المعلق بها، يظل معطوبا، ومثلي يرى العالم مائلًا، لن يعرف هذا الرجل أننى عادة ما أنفر من ضوء الشمس لأنني ببساطة يتحول وجهي فيه إلى وجه أبي، لن يعرف أنني أحب أبي ولكن أكره أن أكونه أو أن تصبح تقاسيم وجهي مثله، لن يعرف إن ما ورثته عن أبي ساعة يد مُعطلة عقاربها، ونظارة بلا عدسات، لن يعرف ما هالني من النظر بعد موتك يا أبي.

*

صباح اليوم تذكرت جملة قالها العابرون لي أثناء عزاء أبي “إللي خلف مماتش”، ضحكت وأنا أتذكر طريقة إلقائها، الجميع كان يرددها في أذني كسرٍ لا يجب أن يعرفه أحد، ولاحظت أن الاسم الذي منحه أبي لي كان تمردًا على أبيه، “مهند عبد العظيم محمد عبد العظيم” ود جدي أن يعوض غياب أبيه المبكر بأن يمنح اسمه لابنه، ولم يهتم أبي بذلك.

*

بعد عزائك عدت إلى المنزل واشتريت “بيتزا” كأنه احتفال بانتقالك إلى العالم الآخر، أو ربما حفاظًا على آخر طعام سأستلذ به قبل أن تنتقل بداخلي.

مقالات من نفس القسم

يتبعهم الغاوون
كريم عبد السلام

بالادات

يتبعهم الغاوون
رنا التونسي

قصيدتان