“لا تقصص رؤياك” .. كابوس يطارد وطنا بأكمله !

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

وصف نجيب محفوظ الرواية على لسان إحدى بطلات "السكرية" بأنها فن ماكر. تذكرت ذلك وأنا أقرأ رواية الكويتى "عبد الوهاب الحمادى" التى تحمل اسم "لاتقصص رؤياك"، هنا فعلا وحقا رواية ماكرة تملك مضمونا جريئا، وتقول الكثير والخطير عن مجتمع مأزوم،  وتتوسل بصنعة السرد لكى يحصل مؤلفها على أكبر هامش ممكن من الحرية عبر البناء والشخصيات، يخرج الحمّادى جزئيا من اللعبة عندما يترك شخصياته تتكلم عن نفسها، وعندما يقول بطل الرواية بسّام الميانى أن عبد الوهاب الحمادى هو أحد اصدقائه، ثم يعود الحمادى فى النهاية لكى يقول إنه لم يفعل سوى نقل الرواية عن بسام الذى كتبها، يضيف الحمادى أنه ليس له دور سوى حذف بعض الوقائع وإضافة بعض الأصوات لملء فراغ السرد، كما حذف اسم بسام مولف الرواية على غلافها بناء على طلبه، وأشار لاسم حبيبته بحرف النون، ثم يضيف الحمادى مكرا إضافيا فيشككنا بأنه قد يكون كل ما قرأناه من أحداث وشخصيات مجرد حلم فى عقله هو، الروائى المحترف (الحمادى) يعود لإزاحة الراوى الهاوى (الصديق)، يتحول كابوس البطل الى كابوس الكاتب، ثم سنكتشف بتأمل ما قرأناه أن الرواية عن كابوس يطارد الوطن بأكمله، وقد يدمره إذا استطعنا تفسير الرؤى أو الكوابيس بشكل صحيح.

ليس البناء هنا مجرد حيلة فنية، ولكنه فى صميم معنى تحويل المبهم والغامض (الكابوس) الى إسقاط على حادثة قتل ستقع فعلا ضمن أحداث الرواية، ليس الكابوس أو الحلم إذن إلا الصورة الرمزية لواقع أقرب الى التمزق، ولشخصيات مأزومة، ولصراعات سياسية يمكن أن تفجر بركانا عارما، ربما لم ينجح الحمادى فى أن يشرح لنا طبيعة تلك الصراعات السياسية والقبلية المعقدة، والتى تحتاج الى خبير متخصص فى الشأن الكويتى، ولكنه نجح الى حد كبير فى أن ينقل أزمات شخصياته وحيرتهم، وأن يجعل القارىء يستشعر كارثة قادمة، وأن يتلاعب الروائى فنيا بفكرة الكابوس وتفسيره، وأن يتلاعب سرديا بفكرة الراوى المستعار ليترك مساحة أوسع للبوح والفضفضة، وأن ينتقل بسلاسة من أزمة فرد، الى أزمة مجتمع، وبينما ينهى العنوان عن أن تقصص رؤياك الكابوسية، فإن الرواية تفعل العكس بالضبط، إنها تحذر وتصرخ عبر القص من كارثة قادمة، إذا لم يوجد من يقرأ أويتأمل شواهد الخطر.

بسام الميلان بطل الرواية، وكاتبها (من الباطن) ينتمى الى أسرة كويتية ثرية، يعمل فى شركة قريبه الثرى، لدى بسام زوجة وابن وسيارة، ومع ذلك يبدو مأزوما، يمتلك توجها عنصريا تجاه الوافدين، يميل الى المعارضة، ويقضى لياليه على المقهى ، يشرب النارجيلة، ويسخر معهم من “هذه الخيمة التى صارت وطنا”، يتحدث عن أسرته الثرية التى خرجت منها كل الوظائف ، ما عدا النيابة فى مجلس الأمة، أسرته تشترى النواب بالمال، فما حاجتها أن يكون لها نائب فى المجلس؟! ينتقد أن يكون فى كل زمان “سيف ومنسف”، لكن مشكلة بسام فى ذلك الكابوس الذى يطارده، ثم يتكرر بتنويعات مختلفة كلها تدل على وقوع كارثة :”مستلق .. ظلام ولا أثر لأى ضوء. بعد تحديق .. ألمح نقاطا مضيئة متناهية الصغر، فأستوعب أنها السماء .. تتراقص النجوم وتتحرك، فجأة ينشق الظلام عن وجه مألوف مرتعب :” سيقتلوننى ” ، يصرخ ثم يهيل التراب علىّ ويردم القبر .. حتى أختنق وأفزع من النوم” .

سيكون هذا الكابوس حيلة لتوسيع الرؤية، نكتشف من خلال كوابيس بسام نماذج أخرى: الشيخ عبد اللطيف الغسال المزواج الذى يفسر المنامات، وينتقى الجميلات، يوسف  الشاب الشيعى الشيوعى ، صديق بسام الذى لا يتوقف عن انتقاد ما لا يعجبه اجتماعيا وسياسيا، نادية زوجة بسام وشريكة حياته الباردة، الطبيب النفسى الذى ذهب إليه بسام لتفسير الكابوس علميا،  “ن” وهى تلك الموظفة التى يحبها بسام وتحبه، ولكن سرعان ما يتم طردها لنشاطها السياسى الأليكترونى، يدخل الى السرد وكيل النيابة الذى سيحقق فيما بعد فى جريمة تكاد تترجم كابوس بسام، وكيل النيابة مهزوم عاطفيا، يعيش حياته بين الجرائم والجثث، ولا يتحقق إلا من خلال روايات يكتبها على المنتديات.

يتيح كابوس فرد تشريح أزمة أفراد أخرين، ثم تشريح أزمات المجتمع كله من خلال عبارات متناثرة تأتى على أصوات الشخصيات الساردة ، ومعظمها تأتى على لسان يوسف المتمرد، وهو من أم لبنانبة : ” البلد يتجه نحو الجحيم ..”، “من يسمون أنفسهم معارضة لا حدود لتصريحاتهم يتوقفون عندها، ولا سقف لهم يرتدون منه، يستغلون كل شىء لصالحهم، وبواسطة تجييشهم للقبائل وزجهم فى الصراع السياسى، أصبحوا ملوك هذه المرحلة، طبعا ملوكا من الدمى والعرائس التى تحرك بالخيوط والمال” ، “المشكلة فى أسرة الحكم، الصراع بينهم شديد والصدع يكبر، وقد بدأ يأخذ منحنى خطرا” بسام يشارك فى الإنتقاد من وجهة نظر المعارضة :” المال يوزع يمنة ويسرة ، حنفيات تصب مالها أول ولا آخر، إعلام يظهر فيه نكرات، وكلنا يعرف من يمولها ويدفع وأنت تعلم، كل مدخرات الدولة فى صندوق أجيال قادمة، ولا أحد يعرف من هم الأجيال القادمة” ، يوسف الذى يحلم ببيت بعيد فى أوربا يقول فى موضع آخر : ” سيأتى يوم تهمد فيه مضخة حقل برقان، وتخمد نيران المصافى، يومها حتى البوم لن ينعب على أطلال الحديد والأسمنت، بدّدتُ عمرى ظانا أننى أكتب فى وطن حقيقى يتغير بالكتابة حتى انجلى عن عينى الغطاء ليكشف أن ما ظننته دولة لم تتعد كونها مضارب قبيلة كساها المال زجاج ناطحة سحاب”، ينتقد يوسف بعبارات الصريحة “مخرجات التخلف القبلى وصراصير الجماعات الإسلامية ومزابل اليسار”، نكتشف أن الكابوس المجتمعى أكبر من كابوس بسام، أو بالأحرى فإن كابوس المجتمع هو الذى أفرز كابوس بسام، سنعرف أن أمه مصرية، وأنه كان يعانى فى طفولته من التمييز، كانوا ينادونه بابن المصرية، ربما كان توجهه العنصرى انعكاسا لتمييز مورس ضده.

تكتمل الدائرة بعنف سياسى فى مؤتمر جماهيرى، وعنف ضد شخص موال للحكومة، وصولا الى جريمة قتل شاب ارتباطا بشخصية “ن” التى تهرب الى بيروت بعد أن تتعرض للضرب، كانت تحلم بوطن لاتتحكم فيه “الصدفة البيولوجية”، لن ينقذ بسام من هذا الكابوس الحقيقى سوى حبه الوحيد، سيذهب الى بيروت الى “ن”، ولكن ستظل بالنسبة لنا مجرد حرف واحد، دائرة الخوف ما زالت موجودة، ظل بسام يبحث  عن امرأة مثل بطل رواية “كل الأسماء” لساراماجو، والتى كان بسام يحملها معه فى كل مكان، وجد بسام حبيبته، ذهب الكابوس أخيرا، ولكن ظل كابوس الروائى عبد الوهاب حمادى موجودا، وظل كابوس الوطن الذى ينتظر التفسير.

فى أحلام بسام المتنوعة إشارة حمراء عن شخص يستغيث خوفا من القتل، وفيها تورط بسام نفسه اختناقا وموتا، كان يعتقد أن الكتابة شفاء، فاكتشف أنها “شقاء”، ذلك أنها تجعلنا نجسّم أوجاعنا وعقدنا وآلامنا كما هى، “لاتقصص رؤياك” ليست فى جوهرها إلا دعوة للبوح والمكاشفة، دعوة للتوقف والتأمل والتشخيص والتفسير، رؤية الفن قد تكون أوضح وأعمق من رؤية مفسرى الأحلام، رؤية الكاتب تنفذ الى العمق، تجمع التفاصيل لنتأملها بجوار بعضها البعض، نجاح الحمادى أنه فعل ذلك بامتياز، وكان ذلك عبر صنعة القص، ومن خلال رؤيا بليغة لرجل مأزوم، فى زمن النفط والمال، والسيف والمنسف.

 

 

مقالات من نفس القسم