لا أقول وداعًا

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

د. محمد محمود الشافعى

محمد لطفى جبريل الروائى القاصّ صاحب الدراسات الأدبية والنقدية؛ عرفته عاشقًا لمصر، محبًّا لها، مُتَيّمًا بها، مهمومًا بهمومها؛ فهو صاحب الموسوعة الأدبية الرائعة (مصر فى قصص كتابها المعاصرين)، و(مصر المكان)، و(مصر الأسماء والأمثال والتعبيرات)، و(مصر من يريدها بسوء)، و(ملامح مصرية)، و(قراءة فى شخصيات مصرية)، و (نعم مصر هى بيت أبى).

 وكما عشق جبريل مصر – وطنه الكبير – فقد عشق الإسكندرية، مهد الطفولة ومرتع الصبا، فكتب عنها، وتناولها فى أعماله الروائية والقصصية ودراساته الأدبية، فكتب: (رباعية بحرى) التى سمى أجزاءها بأسماء أولياء الإسكندرية الأشهر: (أبى العباس المرسى، ياقوت العرش، البوصيرى، على تمراز)، وتناول فيها تفاصيل الحياة اليومية بالإسكندرية، فطوّفنا معه فى شوارعها وأزقّتها وحواريها، وجلسنا على مقاهيها وأحجار كورنيشها، وزرنا مساجدها ومقابرها، ووقفنا على معتقدات أهلها وعاداتهم وتقاليدهم، وكتب جبريل أيضا: (أهل البحر)، (صخرة فى الأنفوشى)، و (الحنين إلى بحرى).

كنت أذهب إليه خلال كتابتى البحث المعنون بـ (الاتجاه الصوفى فى روايات محمد جبريل) والذى نلت عنه درجة الدكتوراه بمرتبة الشرف الأولى، فكان يرحب بى أشد الترحاب، ويكرمنى، ويعاملنى كما لو كنت أحد أبنائه، يحدثنى عن الإسكندرية: البحر، والشاطئ، والناس، والجوامع، والمساجد والزوايا والشيوخ والمريدين وحلقات الذكر، والموالد، والجلوات، وإيمان الناس بالطب الشعبى والرقى والتعاويذ، واعتقادهم فى الأحجبة والوصفات البلدى.

عرفت جبريل مخلصًا لكتابته، لا يعرف الشللية، ولا يهتم لأن يكتب عنه، كان زاهدًا أشد ما يكون الزهد، كنت ألمح فيه روح العفوية والتلقائية والبراءة، يتعامل على سجيته دون تكلّف، وهو المثقف الكبير، صاحب العقلية الموسوعية.

 دائمًا ما كان ينصحنى بالقراءة والمداومة على الاطلاع، ويقول لى: «اقرأ كل يوم، ولا ينبغى أن تقلَّ ساعات قراءاتك اليومية عن ساعتين»، ويضرب المثل بنفسه قائلا: «كتاباتى هى نتيجة قراءاتى، فأنا أقرأ لكى أكتب»، ولعل هذا هو السر فى غزارة إنتاجه؛ كان يكتب كثيرًا لأنه كان يقرأ كثيرًا.

لم يتأخر يومًا عن مساعدة الباحثين والكتاب والدارسين، كان إذا وقعت عينه على كتاب يفيدنى فى كتابة البحث اتصل بى، وطلب منى الحضور، وأمدنى به، وكذلك مع سائر الزملاء، لا أنسى يوم مناقشة بحثى للدكتوراه، وكان وقتها مريضًا لا يستطيع الحركة، ورغم ذلك أصرّ على السفر والذهاب من محلّ سكنه بمصر الجديدة إلى كلية اللغة العربية بالزقازيق لحضور المناقشة، ولم يأت وحده وإنما حضرت معه زوجته الدكتورة زينب والكاتب الأخ والصديق مهندس أشرف خليل، واحتفل الجميع بى، وفرحوا لى، وكانت سعادتى غامرة عندما طُلِب منه أن يلقى كلمةً عقب انتهاء المناقشة فداعبنى قائلًا: «إننى أعجبتُ كثيرًا بالمناقشة ربّما أكثر من إعجابى بالنصّ الذى قُدِّم، وهذا لمجرد إغاظة صديقى محمد الشافعى».

كان جبريل بالنسبة لشباب الأدباء بمثابة الأب الذى نلتف حوله، ونجتمع على حبّه، يعرفنا جميعًا ببعضنا البعض، ويسأل كلَّ واحدٍ منّا: هل التقيت بفلان؟ ألم تسأل عن فلان؟ هل قرأت آخر ما كتبه فلان؟

 تعرفت من خلاله على كثير من الكتاب والنقاد والشعراء المعاصرين: من أمثال: جمال الدين عبد العظيم، شرقاوى حافظ، عبد الناصر العطيفى، محمد الفارسى، محمد ناصف، أسامة عبد المنعم، والراحل مجدى عبد الرحيم، وغيرهم كثير.

كان آخر اتصال بيننا قبل رحيله بيومين ولم يأتنى الرد، ولم تكن هذه عادته، إذ كنت على اتصالٍ دائمٍ به، لا يمرّ أسبوعٌ – على الأكثر – دون مهاتفةٍ منّى أو منه، ساعتها أحسست بشيء ما، ربما كان إرهاصًا وإيذانًا بقرب الرحيل، ربّما رحل جبريل بجسده، لكنه سيظلّ خالدًا بمواقفه وكتاباته، لا أقول وداعًا أستاذى، ولكن إلى اللقاء فى جنات السماء.

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم