لا أحب الزمن الذي يأكل كتفي في الغابة المظلمة

فتحي مهذب
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

فتحي مهذب

  الحليب ينز من آلة الساكسفون.

الحليب ينز من آلة الساكسفون

ريش الموسيقى يتساقط من البلكونة

شكرا أيها البهلوان

حاملا إجاصة القلق واليوطوبيا

شكرا أيتها الراقصة

ستعبر باخرة المحبة بين نهديك

سيولد ناس جدد على الخشبة

تمطر المصابيح بالحنطة والذهب

أرقصي بجناحين من العسل

لتسعد الأشباح وتهتك جوهر الأشياء

ليقوم الأموات من المقابر

النساء يتسلقن  أحاسيسهن الوعرة

بجرار مليئة بأرز الشهوة

أخطف قبعة الضوء

يطاردني عميان كثر

خيول برية من  المتناقضات

قبل أن يطل وجه الحقيقة من البلكونة

قبل أن تسقط صخرة الرب

قبل أن تستيقظ الجثة في المبغى

قبل أن تمطر السهرة بالثعالب

سأفتح النار على الوراء

أرفو قميص الوجيعة

السهرة مترعة بالذئاب والمسدسات

بعيون أفاعي المامبا

بالقوارض والعظايا

أنا المهرج العبثي

صاحب الأقنعة الكثيفة

والسيف المصنوع من القش والغبار

السهرة مليئة بالمومسات والفيلة

الغراب يلعق دم الرهبان

لا تسدلوا الستار قبل دخول المطرب في سم الخياط

قبل سطوع القباطنة في الشرفة

قبل سقوط البرج  على كتف البهلول.

قبل أن يقفز  المايسترو من شجرة الجنون

حاملا إيقاعه الحار بين أسنانه

وبراهينه تثغو مثل شياه المجرة.

****

لا أحب الزمن الذي يأكل كتفي في الغابة المظلمة

بينما زهرات حواسي تتهدل شيئا فشيا

بينما مزرعة القطن تحتل أقطار رأسي

لا أحب الموت قبل المائة ونيف

الموت الذي يلتهم جيراني بدم بارد

الموت الذي يتسلق شجر الكاليبتوس

ويحاضر في المبغى

يستمني في الطرق السيارة

يبكي في الأماكن الخالية

مثل عبد حبشي

وله أصدقاء حميمون في الحانات

لا أحب فلاسفة الريبة

وهم يحملون المصابيح ويسقطون في البئر الواحد تلو الآخر

أحب الطائر الحزين

الذي يحفر له عشا في قلبي,

الموسيقيين الذين الذين قتلوا بضربة فأس

أحب سلمى

سلمى التي تطير مع الفراشات والكلمات

سلمى التي تخفي كنز  طفولتي

في عينيها المدهشتين

سلمى التي تطارد وجهي بضحكة مجلجلة

صوتها الذي يشبه يدين مرفوعتين إلى الأعلى

التحديق في نهديها الثرثارين

أحب اللاشيء في ثوبه الجديد

الشك الذي يتحول إلى حمامة بيضاء

بعد عاصفة من التنظير العبثي

أحب اللعب في ساحة الكنيسة

الضحك مع الأشباح

تعميد متناقضاتي بالموسيقى

أحب دموع قوس قزح

والعرق المتصبب من الأرجوحة

أحب الرعاة آخر المساء

وهم يجرون قطيعا هائلا من الذكريات

يحرسها كلب البلدوغ

أحب شجرة الفستق الأسيانة

ما خلفه  جاري المنتحر

تحت جذعها من نجوم وذهب

أحب قبره القائم على طراز سلجوقي

أحب شطائر الهمبرقر

بحيرة صغيرة من النبيذ

قتل نهد متوحش بمسدس كاتم للصوت

ادعاء النبوءة في مقبرة مهجورة

قراءة شواهد القبور

إفراغ مثانتي في صندوق الموتى

إستدراج اللامعقول إلى الهلاك

طرد الندم من قبعة القس

أحب فهد القلق الأشقر

وهو يجوب مرتفعات رأسي

صراخ النسوة تحت كلكلي المتعفن

الكلمات المليئة باللصوص والذئاب

الكلمات ذات المؤخرات المكتنزة

***

   المشرحة

السماء كثيفة السحب مع زخات من المطر المتقطع.

الهدوء المطلق يخيم على المستشفى الذي يبدو كما لو أنه  مقبرة مهجورة.

عدد من طيور الكراكي تعبر السماء  بشكل هندسي محكم.

تطرق الباب الكبير  إمرأة مسنة مشيرة إلى الحارس بأصابعها المتجمدة التي تبدو مثل أصابع هيكل عظمي .

تعقد صفقة سرية مع الحارس بأن يحملها إلى المشرحة مزودة بكيس من الدقيق قصد تحريكه بأصابع أحد المتوفين الجدد.

-قالت العجوز : هذا لا يستدعي الكثير من الوقت.

مقابل نصيب من المال لا يستهان به.

قال الحارس مضطربا: المهم أن نتفق على المبلغ.

قالت : بالتأكيد.

قال الحارس : إنتظري قليلا ريثما أجلب مفتاح المشرحة.

وعلى بعد أمتار قليلة يقف صديقه الحارس الضارب في الطول مثل صنوبرة في حديقة عمومية.

أحاطه بكل التفاصيل.

غير أن صديقه أعلمه بأن المشرحة اليوم خالية من الأموات.

قال الحارس الذي خفق قلبه بمجرد سماعه لإبرام الصفقة المالية.

-عندي خطة يعجز عن نسج خيوطها الملعونة كبير الشياطين.

قال صاحبه بتوتر شديد: وما هي؟

-إذهب إلى المشرحة حالا وتمدد

كما لو أنك فارقت الحياة منذ قليل.

-تأمر صديقي الداهية.

تسلل مثل البرق إلى المشرحة .

فتح أحد الصناديق الفارغة وارتمى داخله كما لو أنه جثة هامدة وظل الصندوق مفتوح الغطاء بينما يعج المكان بروائح الجثث المتعطنة.

المشرحة تتوسط ربوة مسيجة بأشجار كثيفة حيث الظلمة لا تفارق المكان المسكون بالأشباح .

إصطحب الحارس تلك العجوز الشريرة بعد تمام الصفقة وحصوله على الكنز.

فتح باب المشرحة. دخلت العجوز حاملة كيسا ممتلئا بالدقيق.

ظل ينتظرها أمام الباب.

نظرت العجوز يمنة ويسرة مستعينة بعكاز المخيلة على إنجاز المهمة الصعبة.

الحارس ممدد عيناه مرشوقتان إلى الأعلى أصفر الوجه لا حراك به

كأنه ميت يسبح في  عالم الماورائيات.

وعلى غرة أخرجت العجوز  كيس الدقيق لتحريكه بواسطة أصابع الميت حسب معتقدها الأسطوري يكتسب الدقيق قوة خارقة لتدجين   الأزواج ذكورا وإناثا وامتثالهم المطلق لكل الإملاءات الزوجية وعدم الإعتراض على أي شيء.

ما إن أمسكت العجوز أصابع الحارس المتقمص دور الجثة وفركته بقوة حتى أطلق صرخة مدوية تكاد تشق فضاء المشرحة.

فجأة تهالكت العجوز على وجهها مفارقة الحياة. حينئذ قفز الحارس من صندوق الأموات مثل أرنب بري مناديا زميله الرابض أمام الباب محيطا إياه بموت العجوز الفجائي.

***

الفاتحون الجدد

أقدامهم مغلولة بالسلاسل

وعلى رؤوسهم حمام نافق

يحملون بنادقهم

يفتحون النار  على الوراء

يشربون الضوء من الينابيع

قبل هبوب الكهنة

أعرفهم جيدا

هم يمتطون الباص صباحا

وفي المساء يرجعون ملفعين بالأكفان والغبار

  التعب الأسمر يحمل المصابيح في شرايينهم

العرق يصنع مجوهراته النادرة

في تقاطيع ملامحهم

من خشب التوابيت يملأون المدافىء

وعندما ينضج لوز الأشباح

وتينع معاطف السحرة

يسقطون في قاع النهر

لاستشفاف روح الأمكنة العميقة

وملء سلالهم المثقوبة بالضباب

أعرفهم جيدا

وعول اللحظة الحرجة

حاملو تاج الميتافيزيق في عيونهم الملغزة

حاملو الشمعدانات في جنازة اللامعنى

صانعو أنفسهم بأدوات الفقد

الذين يحملون الغيوم إلى غرف النوم

مشبعين بنكهة السرد الطازج

غير عابئين بضربة النرد

ولا نباح العوالم الخفية

أعرفهم جيدا جيدا

أقدامهم مغلولة بالسلاسل

يذهبون إلى أقدارهم

على أحصنة من الضوء الخالص

مخلفين دما غزيرا على سطح النهار

غير مبالين بقرقعة الحتميات

الوحل الذي يلتهم جزماتهم

الطيور  التي تأكل من رؤوسهم

الفهود التي تطارد أرانب الحظ العاثر

أعرفهم جيدا جيدا

سيقلبون الطاولة ويصنعون مجد العالم

مجد الإنسان الأبهى

جماليات نادرة لرتق بؤس الأشياء.

***

     مرت الأشياء عجلى

تمر الذئاب بسلال الفاكهة..

أحرر الربوة وأعتقل دموع العذراء..

أقتل خفاشا بريشة أعمى..

وأجر النسيان إلى الوراء..

مثل فهد يسحب جثة النهار

إلى قفص البهلوان..

نثركم خافت مثل عيون الموتى..

ويدي إوزة البلاغة..

لما قرصت الوعل طلع الليل من أظافر الأرملة..

لما مدحت القمر خانني هيكل الرب..

لما نظرت لدغتني غابة الأسئلة..

لما صحوت مر جيران من الرمل

بأكياس الفراغ..

مرت الأشياء عجلى ..

مر الرعاة بأقواس الصلاة..

مر الميتون ببنادق صيد..

قدر أن نختفي في اللامكان..

أن نترك كلابنا الجيدة تشم

أرواحنا في الحدائق..

أن نترك الكلمات في البئر..

تنتظر المارة النائمين..

أن نربط الذكريات الحلوة بأحبال المخيلة..

وتطير أنفاسنا مثل الصلوات

في السقوف الوطيئة..

في البراويز المذهبة..

 

****

 

 

– بما أني غريب جدا

في وطن مظلم

أدع وجهي طوال الوقت

داخل المرآة

ليفترس المزيد من الضوء

ويعلن ولاءه الخالص

لسنوات الطفولة العذبة

يمعن في التحديق

في تابوت المستقبل

شباك الأصدقاء السيئين

حصان الشك الجامح

الذي اختفي في جبال المرآة

وحين تقرع نواقيس الخطر

أخرجه وأضعه على جسدي

كما لو أني نحات ماهر

من الفراعنة القدامى..

با أني كائن غريب جدا جدا

ليس لي أحد في هذا العالم

لا أهل لا بيت لا أصدقاء

لذلك أكلم نفسي كثيرا

أطعم الفراغ حبال أعصابي المتهدلة

أضحك كثيرا أمام أسد متناقضاتي

أدعو الوحوش النادرة

لطرد هواجسي من شرفة النهار

أدعو جميع الفراشات لتأبين براهيني الهشة

والكلمات الجميلة

لتشييع جنازتي يوما ما

بما أني غريب جدا جدا

في وطن موحل

مملوء بالمسوخ والرهبان

بالقيح والرماد والصدأ

لذلك أعبد مرآة البيت الضخمة

أرثي عيني شبه الكفيفتين

وعظامي التي تطقطق

مثل فاصل موسيقي جارح

وحين يمسني الجوع

أفتح النار على طائر قلبي

أدعو الأشباح المهذبة

لعشائي المقدس

أضرب النسيان على قفاه

بجزمتي المهترئة

أضحك كثيرا بفم سكران

أمام ضآلة الأشياء

أمام السماء التي تمطر بالجثث

أمام سيل عارم من العميان

يحملون تابوت النهار

بأسنان صدئة

أمام سفينة الشرق الغارقة

في العفن والهزيمة والعار.

مقالات من نفس القسم

علي مجيد البديري
يتبعهم الغاوون
موقع الكتابة

الآثم