جيهان عمر
أعتقد أننى سأبدأ الإجابة عن السؤال بنفيه، فلم أعتبر نفسى يوما من جيل التسعينيات، وهم بدورهم لم يعتبرونى واحدة منهم، صحيح أننا جيل واحد، كما كان بعضهم زملائى فى كلية الآداب، إلا أننى كنت أتعجب دائما من جرأتهم فى نشر ما يكتبون، بينما أخبئ ما أكتب كمراهقة تتحدث عن الحب والحياة ولكن بطريقة سرية تماما، لذلك جمعتنا الصداقة ولم تجمعنا الكتابة.
لم تجمعنا أيضا أسئلة وجودية واحدة فبينما كان هذا الجيل يبحث عن مرجعية أدبية ومن ثم تحطيمها، كنت أعتمد على ما تهبنى الحياة كثمار أولى، وبينما كان يحلم أكثر أصدقائى بالسفر أو الهجرة ولديهم بالفعل تجربة إنسانية ثرية يستطيعون التعبير عنها، كنت أقلق لو تأخرت أمى فى الاستيقاظ لدقائق عن موعدها اليومى..
وكانت تقلق لو رجعت من المحاضرة التى تنتهى فى الثامنة مساء إلى البيت متأخرة، رغم أننى أسكن بعيدا عن الجامعة، لذلك كانت سنوات الجامعة بالنسبة لى سنوات لقراءة كتب الفلسفة فقط، وكان علىَّ تحمل سخريتهم الدائمة من الأداء الطفولى فى مجمله..
فمنذ بداية المسار الجامعى، كان أمامى احتمالان، أولهما أن أسير خلفهم، أتبعهم وأقرأ ما يكتبون بإعجاب أحيانا وبحس نقدى ساخر فى أوقات أخرى، أو أن أبتعد دون خطة بديلة على غير هدى وبلا انتماء لجيل أو جماعة، وهذا ما فعلته ربما لأنه الأقرب لطبيعتى الشخصية على الرغم من مخاطرة الدخول فى عزلة أدبية، لن يدعمك أحد لأنك ستكون خارج السياق..
فى هذا الوقت حصل محمد متولى مثلا على جائزة لا أذكر اسمها عن ديوان “حدث ذات مرة أن”. كنا فى السنة الثانية أو الثالثة بالجامعة.. ثم نشرأحمد يمانى وياسر عبد اللطيف كتبهما المهمة فى عام 1995 بعد التخرج مباشرة، بينما لا أملك سوى ورقات مطوية أخجل منها، أخبئها كأحجار كريمة لا تعنى شيئا لأحد وفى بعض الأوقات تحدثنى نفسى بأنها مجرد أحجار يمتلئ بها الطريق ولا قيمة لها.
واتتنى بعض الشجاعة على النشر بعد ذلك بعشر سنوات، حين ذهبت بأقدام مترددة إلى دار “شرقيات” لأنشر ديوانى الأول “أقدام خفيفة”، فى عام 2005، أنا المتأخرة دوما عن اللحاق بالقطار..
أًشفق علىَّ بعضهم فى البداية، لأننى أخوض فى هذا الوسط الأدبى بلا أسلحة، حتى أن أحد الكتَّاب أخذ كتابى الأول وقال متأثرا: “أشفق عليكِ يا ابنتى من هذا الوسط بشخصيتك تلك، لن تصمدى طويلا وأعتقد أن هذا هو كتابك الأول والأخير”..
طبعا لو أخذت كلام الآخرين على محمل الجد لانقطعت علاقتى بالكتابة مرة أخرى، ولكننى لم أنس أبدأ أننى هذا القط الشارد الذى لا يتبع سوى رائحة القصيدة، أعرف الطريق إلى البحر، أمكث طويلا على شاطئه، لم أملك قارب نجاة، لكننى أمتلك هذا اليقين بأن السمكات كلها تسبح على مقربة منى.. لذلك لم أنتمِ إلا للشعر ولا تعنينى سوى القصيدة سواء يكتبها شاب فى التاسعة عشرة من عمره كحيدر الغزالى فى فلسطين هذا الذى يكتب فى غزة ببقايا الدماء عوضا عن الحبر، أو شاعر فى التسعين من عمره يعيش فى آخر العالم لكن اللآلى لا تزال فى يده..
أما جيل التسعينيات فهو التجارب الملهمة بشكل أو بآخر ولا نستطيع إنكار أهميتها وأثرها الباقى رغم إشارة البعض لفكرة انتهائها، يمكنك أن تسأل شاعرا من جيل أحدث سيشير لك على اسم أو أكثر يقرأه أو يفند مشروعه لكنه موجود داخل تجربته وأحيانا كمرجع، رغم أننى لا أستطيع أن أُخِضع التجربة للتقييم، ولا أصدر أحكاما باعتبارى خارجها، إلا أننى أعرف أكثر من ناقد يتناولون هذه الفترة بالدراسة والبحث وهذا ما نحتاجه الآن بالفعل لوضع الصورة فى إطارها وتأملها من جديد..
بعد كل هذه السنوات من بداية التسعينيات، أجدنى الآن وقد تورطت فى مشاعرى فكما أفرح لنجاح بعضهم، أحزن أيضا لخفوت صوت آخرين، وأتمنى دائما ألا نفقد شاعرا آخر عاش مخلصا للشعر مخلصا لتجربته ولتجربة التسعينيات (كان قد أنشأ موقعا لحفظ النصوص الجيدة) ثم مات وهو يتمنى اعتراف مجايليه أو حتى تقدير جهوده، مثل الشاعر إيهاب خليفة، أو أن يستيقظ ناقد غدا فيقرأ شعر علية عبد السلام فيكتشف أنها واحدة من أهم شاعرات جيل التسعينيات فى مصر، عرفت من صفحتها الشخصية أنه لم يكتب عنها أى ناقد أبدا.