لاسلو كراسناهوركي: تاريخ الثقافة هو تاريخ سوء الفهم

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

حوار آدم ثيلويل

ترجمة – أحمد شافعي

ولد لاسلو كراسناهوركي في جيولا، وهي بلدة ريفية مجرية، سنة 1954 أي في الحقبة السوفييتية. نشر روايته الأولى «تانجو الخراب» سنة 1985، ثم «كآبة المقاومة» (1989) و«الحرب والحرب» (1999) و«عودة البارون وينكهايم إلى الوطن» (2016)، وهذه الروايات بغزارتها اللغوية الهائلة، وسعة اطلاعها العالمية (فالكاتب ملم بكلاسيكيات الفلسفة البوذية كما بالتراث الفكري الأوروبي)، وشخصياتها المهووسة، وآفاقها الغارقة في المطر، قد تعطي الانطباع بصلابة غطرسة الحداثة المتأخرة، لكنها أيضا متقنة وبليغة وذات طرافة رهيفة. كما أن لجاذبية الكاتب رونقا يأتي من تصادم النبرات الواضح في أعمال أخرى له عدا الروايات، منها قصص قصيرة من قبيل «الحيوان الداخلي» (2010) ونصوص واسعة النطاق الجغرافي من قبيل «دمار وحزن تحت السماء» (2004) و«سايبو في الأسفل» (2008).

وبرغم أنه لا يزال لكراسناهوركي بيت في المجر، فإنه يعيش أساسا في برلين. وحينما حاولت الوصول إلى برلين من لندن لإجراء هذا الحوار، في شتاء عام 2016، أُلغيت رحلتي الجوية بسبب الضباب. وبعد سويعات قليلة، وفيما كانت طائرتي على المدرج، قيل لنا إن صعوبات تقنية سوف تؤخر إقلاعنا. ولما وصلت أخيرا إلى برلين وعثرت على سيارة أجرة ـ قادها سائقها بسرعة فائقة مثيرة للقلق لأنه كما قال لي يريد الوصول إلى حمام ـ وجدت كراسناهوركي أمام مدخل محطة مترو الأنفاق في ميدان هيرمان، بعد اثنتي عشرة ساعة من مغادرتي لندن، وهو وقت كان يكفي لأن أقابله في بكين. خطر لي أن هذه المهزلة الجوية المعاصرة المطولة تنطوي على كوميديا مقلوبة. ثم أعدت النظر: فن كراسناهوركي دائم الترحيب بالعبث، وبالأساليب التي يحول بها العالم نفسه إلى خصم عنيد.
يتكلم كراسناهوركي الإنجليزية بلكنة وسط أوروبا الجذابة مخلوطة بين الحين والآخر بلكنة أمريكية من جراء إقامته في التسعينيات بشقة «الشاعر الأمريكي الشهير وزعيم جيل البيت» آلن جينسبرج في نيويورك. كراسناهوركي رجل ضخم البنيان، رقيق الطبع، كثير الضحك أو الابتسام، مليء بحنان أصيل. أعارني سترة حينما بدا أني أشعر بالبرد، واشترى لي هديةً مجموعة شعرية لدورس جرونباين بعنوان «قصة حقيقية»، وأوصاني بتسجيلات جورجي كورتاج. يبدو كراسناهوركي، بشعره المسترسل، وعينيه الحزينتين، أشبه بقديس سمح. وهو أيضا شديد الحرص على الخصوصية، فلم يرغب قط في إجراء المقابلة في شقته، فكانت جلساتنا المطولة في أماكن عامة قريبة منها، في مقاه كثيرة ومطاعم حول حي كروتسبرج.
ـ لنتكلم عن بداياتك كاتبا.
كنت أعتقد أن الحياة الواقعية، الحياة الحقيقية موجودة في مكان آخر. إلى جانب رواية «القلعة» لفرانز كافكا، ظلت رواية «تحت البركان» لمالكوم لاوري بمقام الإنجيل عندي. كان ذلك في أواخر الستينيات وبداية السبعينيات. لم أكن أرغب في دور الكاتب. كنت أريد أن أؤلف كتابا واحدا فقط، لأفعل بعد ذلك أشياء مختلفة، الموسيقى بصفة خاصة. أردت أن أعيش مع أفقر الناس، وكنت أظن أن هذه هي الحياة الحقيقية. عشت في قرى فقيرة وعملت طوال الوقت في وظائف شديدة الرداءة. وكنت أغير موقعي كثيرا، كل ثلاثة أشهر أو أربعة، هربا من الخدمة العسكرية الإلزامية.
ثم إنني فور أن بدأت نشر بعض النصوص القصيرة، تلقيت دعوة من الشرطة. ولعلي كنت على قدر من السفاهة أكبر قليلا مما ينبغي، فقد كنت إثر كل سؤال أقول «من فضلك، أنا لا أتعامل مع الشرطة». فيقال لي «لكننا نعرف أمورا عنك». «لا، أنا لا أكتب في السياسة المعاصرة». «لا نصدقك». وبعد قليل غضبت وقلت «هل تتخيل حقا أن أكتب شيئا عن شخص مثلك أنت؟». فأغضبهم ذلك بطبيعة الحال، وأراد شخص من ضباط الشرطة، أو ربما كان من الشرطة السرية، أن يصادر جواز سفري. وكان في الحقبة الشيوعية جوازا سفر مختلفان، أحمر وأزرق، ولم يكن لديّ إلا الأحمر، ولم يكن هذا بذي شأن، فلم يكن يمكِّن إلا من السفر إلى البلاد الاشتراكية، بينما كان الأزرق يعني الحرية. فقلت، أتريد فعلا الأحمر؟ ومع ذلك أخذوه، ولم يبق لدي جواز سفر حتى عام 1987.
تلك كانت القصة الأولى في حياتي كاتبا، وكان يمكن بسهولة أن تكون الأخيرة. وفي الفترة الأخيرة، عثرت في وثائق الشرطة السرية على ملحوظات لمناقشاتهم حول المخبرين والجواسيس المحتملين. كتبوا أن لديهم فرصة مع أخي، أما مع لاسلو كراسناهوركي فسيكون الأمر محالا تماما لأنه شديد العداء للشيوعية. يبدو هذا طريفا الآن، أما في وقته فلم يكن شديد الطرافة. ولكنني لم أقم بأي استعراضات سياسية. فقط عشت في قرى وبلدات صغيرة وكتبت روايتي الأولى.
ـ كيف نشرتها؟
كان هذا في عام 1985. ولا أحد يفهم، حتى أنا، كيف تسنى نشر «تانجو الخراب»، فهي رواية لا يمكن أن تعد غير إشكالية للنظام الشيوعي. في ذلك الوقت، كان مدير إحدى دور نشر الأدب المعاصر رئيسا سابقا للشرطة السرية، ولعله أراد أن يثبت أنه لا يزال ذا سلطة، وقوة وأن لديه من الشجاعة ما يجعله ينشر هذه الرواية. أخمن أن هذا هو السبب الوحيد لنشر الكتاب.
ـ أي الوظائف كنت تشغل آنذاك؟
كنت عاملا في منجم لبعض الوقت. وكان ذلك أقرب إلى الكوميديا، إذ دأب عمال المنجم الحقيقيين على تغطيتي. ثم أصبحت مديرا في بعض بيوث الثقافة في القرى البعيدة عن بودابست. وكان لكل قرية بيت ثقافة يمكن أن يقرأ الناس فيه الكلاسيكيات. وكانت هذه المكتبة هي كل ما في حياتهم اليومية. وفي أيام الجمعة والسبت من كل أسبوع كان مدير بيت الثقافة ينظم حفلة موسيقية، أو شيئا من ذلك القبيل، وهو ما كان جيدا جدا للشباب. كنت مديرا في ست قرى صغيرة للغاية، فكنت دائم التنقل بينها. كانت وظيفة رائعة، أحببتها لأنها أبعدتني عن عائلتي البرجوازية.
وماذا أيضا؟ كنت حارسا ليليا لثلاثمائة بقرة. وتلك كانت وظيفتي المفضلة، حظيرة في العراء. ما من قرية، أو مدينة، أو بلدة، على مقربة. كنت حارسا لأشهر قليلة. حياة فقيرة، مع رواية «تحت البركان» في جيب، ودوستويفسكي في الجيب الآخر.
وبالطبع في هذا التجوال بدأت أشرب. وفي التراث الأدبي المجري أن العباقرة سكّيرون. وكنت سكيرا جنونيا أيضا. ثم جاءت لحظة كنت جالسا فيها مع مجموعة من الكتاب المجريين المتفقين للأسف على حتمية أن يكون أي عبقري مجري سكيرا جنونيا. رفضت القبول بهذا وراهنت ـ على اثنتي عشرة زجاجة شمبانيا ـ أنني لن أشرب مرة أخرى أبدا.
ـ ولم تشرب؟
ولم أشرب. في ذلك الوقت كان من كتَّاب النثر المعاصرين كاتب وسكير معين، هو بيتر هاينوتشي. كان أسطورة حية، ومدمنا تماما على الكحول، شأن مالكوم لاوري. كانت وفاته أكبر حدث في الأدب المجري. فقد كان صغيرا للغاية، ربما في الأربعين. وتلك كانت الحياة التي عشتها. لم يكن يقلقني أي شيء، كانت حياة مليئة بالمغامرة، في تنقل دائم بين مدينتين، في محطات قطارات وحانات بالليل، أراقب الناس، وأجري حوارات بسيطة معهم. وببطء، بدأت أؤلف كتابي في رأسي.
طاب لي العمل على ذلك النحو إذ كان لدي شعور قوي بأن الأدب مجال روحاني، وفي أماكن أخرى، في العصر نفسه كان هاينوتشي، ويانوس بيلينسكي، وساندور ويوريس، والعديد من الشعراء الرائعين الآخرين يعيشون ويعملون. كان الأدب النثري أقل قوة. كنا نحب الشعر أكثر كثيرا لأنه كان أكثر إثارة للاهتمام، وأشد سرية. بينما النثر أقرب قليلا إلى الواقع. وكانت فكرة العبقرية في النثر تتمثل في من يظل شديد القرب من الحياة الحقيقية. ولذلك دأب كتاب النثر المجريون من أمثال زيجموند موريتش على كتابة الجملة القصيرة. ولا ينطبق هذا على كرودي، الكاتب الوحيد الذي أحبه في تاريخ الأدب النثري المجري. جيولا كرودي. كاتب رائع. غير قابل قطعا للترجمة. كان في المجر بمنزلة دون جيوفاني، فطوله متران، وهو رجل ضخم، ظاهرة. وكانت له غواية ما لأحد أن يقاومها.
ـ وجمله؟
كان يستعمل الجمل استعمالا يختلف عن أي كاتب نثر آخر، ويبدو دائما على قدر من السكر، والحزن العظيم، بلا أي أوهام بشأن الحياة، وشديد القوة لكنها قوة عديمة النفع تماما. ومع ذلك، لم يكن كرودي قدوة لي في الأدب. كان بالنسبة لي إنسانا، أسطورة، أمدني ببعض القوة حينما قررت أن أكتب. وكان يانوس بيلينسكي أسطورتي الأخرى. كان بيلينسكي في الأدب أهم كثيرا بالنسبة لي بسبب لغته وطريقته في الكلام. سأحاول أن أقلده لك:
عزيزي آدم- علينا ألا- لحظة – بالنسبة لنهاية العالم – نحن نعيش ـ الآن ـ في نهاية العالم. – يا عزيزي – آدم ـ من فضلك لا تذهب إلى أي مكان ـ أي مكان.
كان عالي النبرة للغاية، بطيئا، بكل هذه السكتات بين الكلمات. والحروف الأخيرة من كل كلمة ينطقها دائما غاية في الوضوح. كأنه قس في مقبرة، بلا أمل، وبقدر هائل من الأمل في الوقت نفسه. لكنه كان شديد الاختلاف عن جيولا كرودي. بيلينسكي كان مثل الخروف. ليس إنسانا وإنما خروف.
هل كان متاحا الكثير من الترجمات؟ مر علينا وقت في السبعينيات كان لدينا فيه الكثير من الأدب الغربي. وليم فوكنر، فرانز كافكا، ريلكه، آرثر ميلر، جوزيف هيلر، مارسيل بروست، صمويل بيكيت كل أسبوع تقريبا كنا نتلقى رائعة جديدة. كان أعظم الشعراء والكتاب لا يستطيعون نشر أعمالهم في ظل النظام الشيوعي فتحولوا إلى مترجمين. لذلك كانت لدينا ترجمات رائعة لشكسبير ودانتي وهوميروس وكل كاتب أمريكي عظيم، من فوكنر ومن بعده. كانت الترجمة الأولى لرواية «قوس قزح الجاذبية» لتوماس بينشن رائعة بحق.
ـ ودوستويفسكي؟
نعم، لعب دوستيفسكي دورا مهما بالنسبة لي، بسبب أبطاله، لا بسبب أسلوبه أو قصصه. هل تتذكر راوي «الليالي البيضاء»؟ في الشخصية الرئيسية بعض الشبه بميشكين في «الأبله»، هي تمهيد لميشكين. كنت مفتونا بذلك الراوي ثم بميشكين بعده، بقلة حيلتهما. شخصية ملائكية عديمة الحيلة. في كل رواية كتبتها يمكنك العثور على شخص كهذا، مثل إستيك في «تانجو الخراب» أو فالوسكا في «كآبة المقاومة»، الشخصيتين اللتين جرحهما العالم، وأحب فيهما أنهما يؤمنان بكون فيه كل شيء رائع، حتى الوجود البشري، وأحترم كثيرا كونهما مؤمنين. ولكن طريقة تفكيرهما في الكون، والدنيا، والإيمان بالبراءة، طريقة غير ملائمة لي.
بالنسبة لي، نحن أكثر انتماء إلى عالم الحيوانات. نحن حيوانات، محض حيوانات انتصرت. غير أننا نعيش في عالم مؤنسن للغاية، نعتقد أننا نعيش في عالم إنساني فيه جزء للحيوانات وآخر للنباتات وآخر للحجارة. وهذه ليست الحقيقة.
ـ تعني إذن أن فلسفتك الخاصة هي المادية المحضة؟
ـ أوه، لا، ميشكين أيضا حقيقي للغاية. أعتذر.
ـ زدني في هذا
ـ فرانز كافكا إنسان، هو فرانز كافكا، بقصة حياته، بكتبه. أما «ك» فموجود في فضاء سماوي في الكون، ولعل بعض شخصيات رواياتي تعيش هناك أيضا. إريمياس مثلا والطبيب في تانجو الخراب أو السيد إيستر وفالوسكا في «كآبة المقاومة» أو «البارون» في روايتي الجديدة. هؤلاء يعيشون، تماما. موجودون في مكان أبدي.
ـ هل يمكنك النزاع في أن ميشكين خيالي وحسب؟ 
بالطبع. لكن هذه ليست الحقيقة. لعل ميشكين دخل الواقع من خلال شخص آخر، عبر دوستويفسكي، لكن الآن، بالنسبة لنا، هو شخص حقيقي. كل شخصية في ما يعرف بالأدب الخالد جاءت عبر أشخاص عاديين. هذه عملية سرية، لكنني واثق تمام الثقة من أنها حقيقية. على سبيل المثال، بعد سنوات قليلة من كتابتي «تانجو الخراب»، كنت في حانة، ونقر أحدهم على كتفي. كان ذلك هو هاليكس من «تانجو الخراب». بصدق. أنا لا أمزح. لذلك أصبحت أشد حرصا في ما أكتب. فمثلا، النص الأصلي لـ«الحرب والحرب» كان شديد الاختلاف عن النسخة التي نشرتها. كانت الصفحات المائة الأولى تتناول في الأصل تدمير كورين لنفسه، لكنني خشيت أن أقابله بعد ذلك وهو في تلك الحالة فلا أكون قادرا على مساعدته. خشيت من إمكانية أنه قد لا يغادر بلدته الصغيرة. فرأيت أن أخرجه منها، برغبته في الذهاب مرة واحدة فقط، في نهاية حياته، إلى مركز العالم. لم أكن قد قررت بعد أن يكون ذلك المركز هو نيويورك، ولكنني بتلك الطريقة حررت نفسي من قصة أن يعيش إلى الأبد في ذلك المكان الريفي.
ـ أفكر في كلامك عن حياة البشر في عالم مؤنسن. يخطر لي أحيانا أن الروايات عالم مؤنسن ومطمئن إلى ذلك. فأين الأخطبوط؟ أين الطحالب؟ مما أحبه في رواياتك أنها تحاول ألا تكون إنسانية. لكن ذلك يبدو وكأنه تناقض لفظي. فما الذي يمكن أن تكونه عدا ذلك؟
هذا مهم للغاية. إطار الرواية قد يكون مؤنسنا أكثر مما ينبغي. ولذلك تكون مشكلة الراوي هي المشكلة الأولى، وتبقى كذلك إلى الأبد. فكيف تلغي الراوي من رواية؟ في أحدث رواياتي، في كل صفحة، ثمة أشخاص يكلمون بعضهم البعض ولا أكثر، وهذه طريقة لتفادي وجود الراوي، لكن هذا محض تكنيك. لأنني أتفق معك في أن إطار الرواية والعالم مؤنسن. لكن لو أن لي أن أختار بين كون بلا إطار وإنسانية ذات إطار، فسأختار الإنسانية.
نحن لا نعرف مطلقا ماذا يكون الكون. وطالما أنبأنا الحكماء بأن هذه دليل على أننا لا ينبغي أن نفكر، لأن التفكير لا يفضي بنا إلى شيء. كل ما يفعله المرء هو أنه يؤسس على هذا البناء الهائل من سوء الفهم، أي الثقافة. تاريخ الثقافة هو تاريخ سوء فهم كبار المفكرين. لذلك علينا أن نرجع دائما إلى الصفر، لنبدأ على نحو مختلف. وقد تسنح بتلك الطريقة فرصة لا للفهم وإنما على الأقل لعدم امتلاك المزيد من سوء الفهم. لأن هذا هو الجانب الآخر للسؤال: هل لديَّ من الجرأة ما يجعلني ألغي كل الثقافة البشرية؟ أن أوقف الإعجاب بجمال النتاج البشري؟ يصعب فعلا قول لا.
ـ ومع ذلك لا تزال تكتب الروايات
نعم، لكن لعلها غلطة. إنني أحترم ثقافتنا. أحترم التعبير الإنساني في كل قالب. لكن جذر هذه الثقافة زائف. وإذا لم نفعل شيا، فكل شيء يستمر على أي حال. ولعل هذا هو أهم شيء. لا بد لكل شيء أن يستمر دونما تفكير في جوهره، في ماهيته، وفي مثل تلك الأسئلة. 
ـ وكأن الكتابة، وكل أشكال الفن، ينبغي أن تكون شعائر بلا لاهوت؟
لعل بالإمكان أن نفكر في الكتابة باعتبارها شعيرة تؤدَّى، شيئا يتكرر، كلمة تلو كلمة، وجملة بعد جملة. لا بمعنى الطليعية الكلاسيكية في مستهل القرن العشرين، من قبيل الدادية مثلا التي مضت بفنانين عظماء إلى اللاشيء لأنهم أهملوا المضمون فكانت تلك غلطتهم، أولئك العباقرة البائسين. أما حينما تفكر في الكتابة باعتبارها شعيرة تؤديها، ولو أنك قادر على رؤية نفسك في الوقت نفسه، رؤية أنك على الأرض تكتب الكلمة بعد الكلمة…فيصير لديك كتاب. فتتوقف. وتغلق الكتاب. وتفتح غيره، فارغ الصفحات. وتكتب من جديد، وتكتب من جديد، وتكتب من جديد. كلمة بعد كلمة. جملة بعد جملة. وتغلق الكتاب. والتالي له… هذا شعائريّ. قد لا يكون هذا تصورك عن الكتابة، لكن لعله هو عين ما تفعله.
لكن هذه هي النقطة التي يجدر بنا عندها أن نتذكر قراءنا. لأن القراء في ما أرجو يحتاجون إلى كتاباتنا. وفي هذا المكان الصغير ـ الذي نؤلف فيه الكتب والروايات والقصائد ـ ثمة أيضا مكان لقرائنا. هذا التعاطف، هذا الإحساس شديد الأهمية، العثور على جوهر مشترك بين الكتاب الذين ينشئون القالب والقراء الذين يحتاجون إلى ما نفعله. يضفي هذا بعض المعنى على هذا الفضاء الصغير، الذي نراه من مستوى أعلى هراءً محضا. فلعل الكون مليء بالفضاءات الصغيرة، ولكل زمنه وجوهره وشخصياته وإبداعه وأحداثه وما إلى ذلك. أفكار مختلفة عن الزمن في فضاءات مختلفة. تماما كما أننا هنا، داخل فضائنا البشري الصغير.
ـ كيف وصلت إلى أسلوبك ـ هذه الجمل الشاسعة الضخمة؟
لم يكن العثور على أسلوب صعبا قط عليّ لأنني لم أبحث عنه قط. لقد عشت العزلة. كان لي دائما أصدقاء، صديق واحد في الفترة الواحدة. ومع كل صديق، كانت العلاقة تقوم على أن نتكلم عبر مونولوجات فقط. ففي يوم ما، أو ليلة ما، أتكلم أنا. وفي اليوم التالي أو الليلة التالية، يتكلم هو. أما الحوار فيختلف، لأننا نريد أن نقول شيئا شديد الأهمية لشخص آخر، ولو أنك تريد أن تقول شيئا شديد الأهمية، ولو أنك تريد إقناع شريكك بأن هذا شديد الأهمية، فأنت لا تحتاج إلى نقاط في نهايات الجمل، بل إلى توقفات وإيقاع، إيقاع ونبرة ونغمة. وهذا ليس خيارا واعيا، فهذا النوع من الإيقاع والنغم وبناء الجملة جاء من رغبة في إقناع شخص آخر.
ـ لم يكن أدبيا مطلقا؟ أو متصلا بأساليب أخرى، مثل أسلوب بروست أو بيكيت؟
ربما حدث وأنا مراهق، ولكن ذلك كان تقليدا لحياتيهما، وليس للغتيهما، أو أسلوبيهما. عندي علاقة خاصة بكافكا، لأنني بدأت قراءته مبكرا جدا، مبكرا لدرجة أنني لم أكن أفهم عن أي شيء تدور «القلعة» مثلا. كنت صغيرا للغاية. وكان لي أخ يكبرني، وأردت أن أكون مثله، فكنت أسرق كتبه وأقرؤها. لذلك كان كافكا كاتبي الأول، الذي لم أستطع أن أفهمه، لكنه أيضا الكاتب الذي تساءلت عنه إنسانا. من الكتب المفضلة لدي وأنا في الثانية عشرة من العمر أو الثالثة عشرة كتاب «أحاديث مع كافكا» لجوستاف جانوش. بهذا الكتاب كانت لي قناة ـ ـ ـخاصة إلى كافكا.
ولعلي لهذا درست القانون، لأكون مثل كافكا. فوجئ أبي بعض الشيء. كان يريد أن ألتحق بمدرسة القانون لكنه كان على يقين من أنني سأرفض لأنني لم أكن مهتما إلا بالفن، بالأدب والموسيقى واللوحات والفلسفة وكل ما عدا القانون. لكنني وافقت، وذلك جزئيا، في ما أعتقد، لأنني كنت أريد أن أدرس علم نفس الجريمة. في ذلك الوقت، في مطلع السبعينيات، كان علما ممنوعا في المجر. فقد كان غربيا ومن ثم مشبوها. لكن السبب الأساسي في ظني هو كافكا. بالطبع، بعد ثلاثة أسابع لم أستطع احتمال المناخ، فرحلت، لا عن كلية الحقوق فقط وإنما عن المدينة كلها.
ـ أي مدينة تلك؟
مدينة سيجيد. بسبب نظام الخدمة العسكرية لم يكن الرحيل سهلا. فلو رحلت، يكون لزاما عليّ الرجوع لأداء الخدمة العسكرية. والطبيعي أن الخدمة العسكرية كانت سنتين، وإذا تخرجت تكون عاما واحدا فقط. أما إذا تركت الجامعة مبكرا يكون عليك أن ترجع لأداء السنة الثانية. لذلك طلبت تأجيل الدراسة وعشت لفترة في بودابست أدرس الدين وفقه اللغة. وواصلت دراساتي لليونانية واللاتينية، لكن الامتحانات كانت صعبة لأنني لم أكن ملتحقا فعليا بالجامعة. وأخيرا، بعد سنتين، أنجبت. وإنجاب الأطفال حل تلك المشكلة، لأن من ينجب أطفالا يكون قد تخلص من هذا الالتزام الرهيب.
كانت الخدمة العسكرية بالنسبة لي أقرب إلى الموت. فعلى مدار السنة كلها لم أحصل على تصريح بمغادرة المعسكر. لم أكن بطلا أو داعية سلام، ولكن من يجد نفسه في برج مراقبة، وعليه أن يبقى فيه بالسلاح دون أن يفعل أي شيء. وفي بعض الأحيان يأتي ضابط لمراقبتي، فإن وجدني أقرأ كافكا، ولم أكن أملك التوقف، لأن كافكا كان أشد إثارة للانتباه من أي ضابط أبله، فكنت أتعرض دائما للعقاب في سجن المعسكر. ولم يكن ذلك شديد البشاعة، لكنه كان يعني دائما ألا أحصل على تصريح بمغادرة المعسكر. وذلك كان الأمر الرهيب، أن أظل هناك على الدوام.
كانت بداية خدمتي العسكرية هي الأشد صعوبة. حينما ركبت قطار الليل، مع بقية الجنود المستجدين، وأنا محطم تماما. لم أستطع الحديث مع أحد. الجميع كانوا يريدون المزاح، في ما عداي أنا.
اكتشفت شخصا آخر، شابا، كان من ولايتي نفسها، فتكلمنا قليلا. واتفقنا أن يزور أحدنا الآخر إذا ما سنحت الفرصة. وبعد قرابة أسبوع، حينما توفر لي قليل من وقت الفراغ، ذهبت إلى المبنى الذي يعمل فيه وسألت أين أعثر على الشخص الفلاني؟ فقال لي أحدهم، بالطابق الثالث. وفي الطابق الثالث، سألت مجددا أين أعثر على هذا الشخص؟ وقال لي أحدهم إنه في مخزن الذخيرة معاقبا. كان ينظف البنادق، وفيما أفتح الباب، أطلق رصاصة في فمه. في اللحظة نفسها. فتحت الباب وأطلق صديقي الرصاصة على نفسه. كنت طفلا. كنا أطفالا. كنا في الثامنة عشرة لا أكثر.
قل لي، عن أي شيء كان سؤالك؟
أحاول فقط الوصول إلى ترتيب زمني ما. لقد ولدتَ في جيولا، ثم أتممت خدمتك العسكرية ودراساتك في سيجيد، ثم مرحلة التجوال، بعد ذلك نشرت «تانجو الخراب». وجئت إلى برلين سنة 1987 ورجعت إلى المجر سنة 1989.
ـ ودائما أعاود الرجوع إلى ألمانيا.
في أوائل التسعينيات، بدأت «الحرب والحرب»، كنت في الأصل أريد أن أعرف ما معنى الحدود للإمبراطورية الرومانية. ذهبت مثلا إلى الدنمارك، وبريطانيا العظمى، وفرنسا، وإيطاليا، وأسبانيا، وكريت، محاولا العثور على الأطلال، وآثار الدفاعات العسكرية. ظللت دائما على الطريق، ولم يحدث إلا في عام 1996 في ما أعتقد أن بدأت فعلا كتابة «الحرب والحرب»، بينما كنت في نيويورك، في شقة آلن جينسبرج.   
ـ كيف التقيت بجينسبرج؟
كان لنا صديق مشترك. وآلن كان شخصا شديد الود. في شقته، لم يكن للباب والقفل أي ضرورة. كان الناس يأتون ويذهبون، يأتون ويذهبون. كان الوجود هناك رائعا ومع ذلك، فإنه أمر مزعج أيضا أن تكون جزءا من ثلة جينسبرج. في النهار كان بوسعي أن أعمل، وبالليل، وهو الوقت الذي يبعث فيه جينسبرج إلى الحياة، أشارك في الحفلات والحوار وتأليف الموسيقى. لم أخبرهم قط أنني من جيولا، ولكنني لم أنس ذلك قط، تفهمني؟ أنني في الحقيقة ذلك الولد الريفي، عديم الشَعر، ذو السن المفقود، الجالس مبهورا إلى مائدة المطبخ بجانب آلن بينما يتوافد أولئك الموسيقيون والشعراء والرسامون ـ أولئك الخالدون.
ـ أتذكر أنك تحدثت مرة عن إحساس اللازمنية الذي تشعر به دائما وتروي أنه يرتبط بالنشأة في الإمبراطورية السوفييتية التي أبطلت التاريخ.
كان مجتمعا قائما خارج الزمن، لأنهم أرادوا أن يحملونا على الظن بأن الأمور لن تتغير أبدا. فدائما السماء الرمادية نفسها والشجر عديم الألوان والحدائق والشوارع والبنايات والمدن والبلدات، والأشربة الرهيبة في الحانات والفقر وما يمتنع عليك الجهر به. كانت حياة في أبدية. مقبضة للغاية. لم يكن جيلي فقط أول هو من كفر بالنظرية الشيوعية والماركسية وإنما استسخفهما، ووجد فيهما حرجا. حينما عشت نهاية هذا النظام السياسي، كانت معجزة. لن أنسى مذاق الحرية السياسية. ولذلك لدي الآن جنسية ألمانية، لأن الاتحاد الأوروبي يعني لي في المقام الأول حرية سياسية في مواجهة الغباء العدواني الذي بات الآن معبود أوروبا الشرقية.
لقد جئت من عالم برجوازي، لم تلعب النظرية الشيوعية أي دور فيه. كانت أسرتي من الديمقراطيين الاجتماعيين. أبي كان محاميا، يعين الفقراء. ذلك واقع حياتي، أن يأتي إلينا الفقراء في المساء، مرتين أو ثلاثا كل أسبوع، ليساعدهم أبي بلا مقابل. وفي اليوم التالي، في الصباح المبكر، يأتون ويتركون على بابنا شيئا، دجاجتين مثلا أو أي شيء.
..ووالداك كانا يهوديين، صح؟
كانت لأبي جذور يهودية. لكنه لم يكشف لنا سره إلا حينما بلغت الحادية عشرة. قبل ذلك، لم أكن أعرف. في الحقبة الاشتراكية، كان ذلك محظورا. فأنا إذن نصف يهودي، لكن في حال استمرار الأمور في المجر على النحو الذي تبدو عليه، عما قريب سأصبح يهوديا بالكامل.
ـ كيف نجا والدك من الحرب؟
اسمنا الأصلي كورين، وهو اسم يهودي. بهذا الاسم ما كان لينجو مطلقا. لكن جدي كان شديد الفطنة، فغيَّر اسمنا إلى كراسناهوركي الذي يوحي بشخص (انضمامي)، فبعد الحرب العالمية الأولى، فقدت المجر ثلثي أرضها، وكان الخط السياسي الأساسي في ما بعد الحرب لدى الحكومة القومية المحافظة هو استرداد الأرض الضائعة وضمها. واشتهرت أغنية، أغنية عاطفية لا تطاق، عن قلعة كراسناهوركا. بعد الحرب، باتت جزءا من تشيكوسلوفاكيا. جوهر الأغنية أن قلعة كراسناهوركا حزينة للغاية ومعتمة وكل شيء فيها عديم الأمل. ربما لذلك السبب اختار جدي الاسم. لا أعرف. ولا أحد يعرف، لأنه كان رجلا كتوما للغاية. كان هذا في عام 1931، قبل أولى القوانين اليهودية المجرية.
ـ لنتكلم أكثر عن الكتابة. مما يأسرني أنك تبدو شديد الوضوح إزاء أنك لم تكتب غير أربع روايات. عندك «تانجو الخراب» و«كآبة المقاومة» و«الحرب والحرب» و«عودة البارون ويكهايم إلى الوطن». أين تضع مثلا نصا من قبيل «حيوان الداخل»؟
هو رواية، وإن لم يكن بالمعنى الصارم للرواية. ولكن تصنيف شيء ما إلى رواية أو قصة لا يتعلق كثيرا بعدد الصفحات. فقد كتبت بعض القصص في بداية مسيرتي، في كتاب «علاقات النعيم» (1986)، وهذه القصص تدور في حيز صغير للغاية، ومدى زمني محدود جدا، وفيه شخصية واحدة. الرواية تحتوي بناء، كالجسر، كالقوس، من البداية وحتى النهاية. في حالة القصة، ما من حاجة إلى قوس. فالقصة صندوق أسود لا يعرف أحد فيه ماذا حدث.
ـ وإذن ماذا عن الرواية الجديدة، عودة البارون إلى الوطن؟ أهي أوديسة ما؟
نعم، بالنسبة لهذه الشخصية الرئيسية، هي عودة إلى الوطن في نهاية حياته. هو شيخ طاعن في السن يعيش في بوينس أيريس. وهو شديد الحساسية، فارع القامة، شأن جيولا كرودي. لكنه شقي تماما، ودائما يقع في أخطاء.
ـ هو إذن ميشكينك، الشخصية قليلة الحيلة؟
نعم، مثل إستيك. لأن هذه الرواية هي في واقع الأمر تلخيصي لجميع رواياتي، يمكنك العثور على كثير من التماثلات مع شخصيات أخرى، وقصص أخرى. أسخر مثلا من تعبير «تانجو الخراب» وما إلى ذلك. هذه أطرف رواياتي. لا تمتلئ برسائل نهاية العالم. بل هي نهاية العالم. نهاية العالم وقد وقعت بالفعل.
ـ ولكنني أشعر، في جميع كتبك، أن نهاية العالم وقعت بالفعل، حلت سرًّا. أتساءل لو أن لدينا نوعين من الروائيين. الذين يرون كل رواية شيئا منفصلا، والذين يعتقدون أنهم يكتبون رواية واحدة، وأن جميع رواياتهم تتناغم معا.
ـ قلت ألف مرة إنني أردت دائما أن أكتب كتابا واحدا. لم أرض عن كتابي الأول، فكتبت الثاني. ولم أرض عن الثاني، فكتبت الثالث، وهكذا. والآن مع «البارون» يمكن أن أغلق هذه القصة. بهذه الرواية يمكن أن أثبت أنني كتبت بالفعل كتابا واحدا في حياتي. والكتاب هو: تانجو الخراب كآبة الحرب والحرب البارون. هذا هو كتابي الواحد.
هل ترغب في تأليف شيء خارج تماما عن شروط هذه الروايات؟
لا، لا يضايقني أن يوهان سيباستيان باخ يظل هو نفسه طوال حياته.
ـ أنت كثير الرجوع إلى باخ، وغيره من موسيقيي الباروك من أمثال راميو. ما أهمية الباروك لديك؟
موسيقى باخ معقدة بنائيا بسبب الهارموني، ولذلك لا أحتمل الموسيقى الرومنتيكية. بعد أواخر الباروك، مضت الموسيقى تزداد ابتذالا، وتحققت ذروة الابتذال في عصر الرومنتيكيين. ثمة استثناءات من قبيل سترافينسكي أو شوستاكوفيتش أو بارتوك أو كورتاج، الذين أحبهم حبا عظيما، لكنني أراهم جميعا استثناءات. بالنسبة لي، تاريخ الموسيقى انحدار. وبعد ألفي عام، هذا ما يحدث أيضا في الأدب. ولكن من الصعب تحليل عملية الابتذال هذه. فالثورة الرهيبة التي كانت دائما موشكة على الحدوث في المجتمعات الحديثة قد حدثت بالفعل. لا بمعنى أن الثقافة الجماهيرية انتصرت، وإنما النقود. يحدث أحيانا لعمل أدبي رفيع المستوى أن يقول شيئا وسطا فيصل إلى مزيد من القراء، ولعل هذا هو مصير كثير من الكتاب المعاصرين.
ـ ماذا عن رواياتك؟
لا، رواياتي لا تنجح مطلقا في المستوى المتوسط لأنني لا أهادن أبدا. الكتابة عندي فعل شخصي تماما. يخجلني أن أتكلم عن أدبي، فذلك كأن تسألني عن أخصّ أسراري. لم أكن قط جزءا من الحياة الأدبية لأنني لم أستطع قط أن أتقبل كوني كاتبا بالمعنى الاجتماعي. ليس بوسع أحد أن يتكلم معي عن الأدب، إلا أنت وقلة غيرك. ولا أجد سعادة في الحديث عن الأدب وبخاصة أدبي. الأدب شخصي تماما.
حينما أكتب كتابا، يكون جاهزا في رأسي. وهذه طريقتي في العمل منذ صغري. في طفولتي كانت لي ذاكرة غير طبيعية تماما. فوتوغرافية. فكنت أعثر على القالب الدقيق، والجملة، وبعض الجمل، في رأسي، وحينما أجد نفسي مستعداـ أكتب.
ـ ولا تراجع؟
أعمل كل دقيقة تقريبا، طاحونة لا تكف عن الدوران. وإذا مرضت لا أستطيع. وحينما كنت أسكر أيضا. لكن بعيدا عن هذين الاستثناءين، أعمل وأعمل، لأن جملة تبدأ وبعد الجملة مائة ألف جملة أخرى، مثل خيوط بالغة الرهافة تنطلق من عنكبوت. ومنها، بطريقة ما، خيط يكون أهم قليلا من البقية. فأستخلصه، حتى يمكنني أن أعمل على الجملة، فأصححها. ولذلك، برغم وجود ترجمات رائعة لكتبي، فإنني أتمنى أن تقرأها في الأصل، لأنني حينما أعمل، أول ما أفعله في الجملة في رأسي هو أن أجعل عنصرها الإيقاعي مثاليا. وحينما أعمل أستعمل آلية مشتركة بين تأليف الموسيقى وتأليف الأدب. للموسيقى والأدب والفنون البصرية جذر مشترك، يتمثل في بنى الإيقاع، وأنا أعمل انطلاقا من هذا الجذر. المضمون مختلف تماما بين الموسيقى والروايات. لكنهما في الجوهر، بالنسبة لي، متماثلان.
ـ برعت في موسيقى الجاز، أليس كذلك؟ وعزفت في فرق الجاز وأنت شاب؟
كنت موسيقيا محترفا من الرابعة عشرة وحتى بلغت الثامنة عشرة.
ـ وكان ثيلنيوس مونك بطلك العظيم في عزف البيانو. فلماذا مونك؟
دائما أطرح على نفسي هذا السؤال. إنني أرجع النظر فيصعب علي تفسير أن ذوقنا الموسيقي في ظل النظام السوفييتي كان مثاليا. أحاول ألا أكون مغرورا. أنا لم أعزف في فرقة جاز فقط ولكن في فرقة روك بانتظام. كانت حفلاتنا تقام للطبقة العاملة. وقد عثرت أخيرا على قصاصة ورق بعناوين للأغنيات التي كنا نعزفها، وكانت لنا بلا شك أفضل ذائقة. لا أعني ذائقتي، وإنما ذائقة جيلي. في ذلك الوقت، كانت مصادر موسيقى الجاز والروك شحيحة للغاية. كانت لدينا محطتان إذاعيتان: إذاعة أوروبا الحرة من ميونيخ وإذاعة لوكسمبرج. وكانت تسجيلاتنا شديدة الرداءة، إذ كنا نسجلها من المذياع مباشرة، وفي السر طبعا، فقد كانت ممنوعة. كنت أعرف شخصا، طبيبا في مستشفى جيولا لديه مجموعة أسطوانات ضخمة، وسمح لي أن أسجل من مجموعته. لكن كيف كنت أختار أفضل الموسيقى، لا أعرف. كنا نعزف لـ كريم، ثيم، بلايند فيث، جيمي هندريكس، أريثا فرانكلين، داستن سبرينجفيلد. أكثر الفرق تقليدية مما كنا نعزفه هي كينكس. وماذا أيضا؟ تروجس، أنيمالز، إريك بوردن. ذي رولنج ستونز طبعا. البيتلز لا. لا أعرف السبب، لكن البيتلز لا. والكثير من البلوز.
في ثلاثي الجاز، كنت أعزف مع عازف درامز في الخمسين وعازف باص ربما كان في الخمسين أيضا. وكنت في الرابعة عشرة. كنا نعزف للجميع من جارنر إلى ثيلونيوس مونك. وليس لدي تفسير لكون مونك هو المفضل عندي. لأنني الآن شيخ وما أزال على رأيي.
ـ وكنت تغني أيضا؟
في فرقة الروك، نعم. كان صوتي عاليا للغاية، مثل صوت الكونتر تينور. لذلك كنت أغني فقط أغنيات النساء، داستن سبرينجفيلد وأريثا فرانكلين.
ماذا عن المشهد الفني؟ هل كنت تستمع إلى باوي، وفريق ذا فيلفيت أندرجراوند؟
انضممت إلى محبي باوي متأخرا، بعد أن أصبحت صديقا لبيلا تار. بيلا كان يعيش في شقة صغيرة في وسط بودابست. وكان يسير في غرفة طيلة اليوم، مستمعا دائما إلى الموسيقى، ديفيد باوي، ولاو ريد، ونيكو…
ـ بدأت تعمل مع بيلا تار في فيلم «اللعن»، بعد فترة قصيرة من نشر «تانجو الخراب» سنة 1985، هل هذا صحيح؟ ثم مضيت فحولت روايتين لك إلى فيلمين، هما «تانجو الخراب» سنة 1994 وفيلم «أنغام فيركمايستر» المأخوذ عن «كآبة المقاومة» سنة 2000.
ـ في البداية، عملنا في فيلم «اللعن»، في ظل الشيوعيين، وكان ممنوعا علينا العمل على «تانجو». بدأت هذه القصة كلها سنة 1985، بعد نشر الرواية. كنت أنا وبيلا وزوجته أجنيس نريد تحويل «تانجو» إلى فيلم، لكن بيلا كان مكروها في الوسط السينمائي المجري. فذهب إلى شركة إنتاج تلو الأخرى. وأخيرا قيل لنا أن «تانجو الخراب» ممنوعة. فقلت لبيلا، أوكي، أنت ترجع إلى بيتك، وأنا إلى بيتي، الأمر انتهى. وبعد أسبوعين تقريبا، جاءتني أجنيس وتوسلت إلي أن أكتب سيناريو جديدا، وإلا سينتحر بيلا. قالت: أنا أعرفه، سينتحر إذا لم يعمل معك في فيلم. بالطبع، كان ذلك فخا، قصة مختلقة لحملي على العمل معه.
هل تار هو المخرج الوحيد الذي عملت معه؟
لم أعمل إلا مع بيلا. معه، كان الأمر أكثر من تعاون. كنت أعطيه كل شيء، وكان يأخذ كل شيء. عملنا معا دائما بعد انتهائي من كتابة السيناريو، لكنها أفلامه. السينما فن لا يعرف العدل. لو أنك كاتب والمخرج يريد تحويل نصك إلى السينما، فعليك أن تقبل أنه المدير/المخرج. سيكون الفيلم فيلمه. وإلا، فإنك ترتكب خطأ.
كانت سيناريوهاتي دائما أعمالا أدبية. كنت أستعمل قالبا، وأستعمل حوارا، ولكن حينما كنت أكتب عن شخصية أساسية كنت أكتب «إنه يفكر في عالم بلا إله» فيقول بيلا إن هذا ليس سيناريو، كيف أصور هذا؟
لذلك كان ينتابني بعض الخوف في تلك المشاريع. فمثلا، عند ذهاب استيك إلى السماء، سألني بيلا، كيف آخذ هذه اللقطة؟ وفي النهاية، كان الاحتمال الوحيد هو وضع الكاميرا ربما على مسافة ثمانين سنتيمترا من وجه إيريماس. وإذا أمكن في الفيلم أن نرى على وجه إيريماس ما حدث لإستيك، فقد انتصرنا. وإذا لم يحدث، فهو الفشل. في حين أن بوسعي أن أكتب هذا في كتاب ويكون مثيرا وذا خلفية فلسفية. ما الحقيقي؟ هل شبح إستيك حقيقي؟ بالنسبة للكاميرا، لا.
لكن بالنسبة للغة، نعم.
بالضبط. ومعنى هذا أنه إذا كان لديك سؤال عن الكون، تكون خياراتك دائما قليلة، وهي بخاصة في اللغة. فقوة الكلمة، بالنسبة لي، هي السبيل الوحيد للاقتراب من الحقيقة المخبأة. كل شخص هو شخص خيالي، وهو في الوقت نفسه شخص حقيقي. فأنا أنتمي إلى العالم الخيالي والعالم الواقعي، أنا موجود في كلا الإمبراطوريتين. وأنت. وكل من في هذا المطعم. وحتى هذا الشيء وكل شيء ندركه بل وكل ما لا ندركه، لأننا نعلم أن جزءا من هذا الواقع لا يمكن إدراكه بحواسنا الخمس. وليس في هذا مغالاة. الواقع مهم عندي بما يجعلني على الدوام راغبا في أن أعي بكل الاحتمالات.
ـ أتساءل عما لو أن هذا هو السبب في أن الترجمة شديدة الغرابة. إذ كيف لواقع اخترعته النسخة المجرية من «تانجو الخراب» أو «عودة البارون إلى الوطن» أن تتماثل مع واقع اخترعته كلمات إنجليزية أو فرنسية؟ ما من مشكلة مكافئة في أشكال الفن الأخرى. فباخ يؤلف كنتاتا لتكون في رأيه تعبيرا عن مثال متسام ما …
ـ لا، لا. باخ موسيقار وحسب. حينما بدأ مسيرته وبدأ بتأليف الكانتات، لم يعالج غير أسئلة موسيقية، كالبناء وقالب الفوجا، والمقدمة، والفالسوبوردون. ونحن نستمع إلى موسيقاه فتنشأ لدينا صورة باخ بوصفه رجلا مقدسا، دائم النظر إلى السماء. لكن الحقيقة، أن جميع العباقرة مهتمون بالمادي، بالتكنيك. لو أنك نظرت إلى تورينجيا، التي جاء منها باخ، تجد الموسيقيين جيلا بعد جيل. باخ كان نموذجا حقيقيا للموسيقي الجيد.
حينما كنت في اليابان، ذهبت إلى ورشة يعمل فيها متخصصون على ترميم تماثيل بوذا. كانوا عمالا مبدعين، عباقرة، فنانين حقيقيين، لكنهم منغمسون كلية في المسألة التقنية: كيف أصلح هذا النحت المكسور. ثم إنه عند إعادة بوذا إلى موضعه، ترجع إليه القداسة، ويصبح بوسع شخص أن يصلي له. يمكنك القول بأن هذا تناقض، لكن بالنسبة لهم ما من تناقض. النحات والمرمِّم شيء واحد. ومن يكن شاعرا حقيقيا، فهو يعلم أن للكلمة قوة حقيقية، ويمكنه أن يستعمل الكلمة. لو أن لديك هذه المقدرة، فكل ما تحتاج إليه هو التعامل مع المسائل التقنية.
تقصد إذن أن المسائل الفنية الحقيقية هي مسائل التكنيك؟
ليست للفنان غير مهمة واحدة، أن يواصل الشعيرة. والشعيرة تكنيك محض.
ـ أشعر أننا يجب أن نختار عملا واحدا لمزيد من التحليل التقني…
ـ أعتقد أن الأمر يتعلق بسؤال آخر. لو أننا نتكلم عن هوميروس أو شكسبير أو دوستويفسكي أو ستاندال أو كافكا، وهؤلاء جميعا في إمبراطورية سماوية. ولا يكاد شخص يجتاز الحدود، حتى يمتنع القول بأن رواية الأبله رائعة لكن الليالي البيضاء ليست جيدة للغاية. وليس مسموحا لنا أن نقول في حق ثيلنيوس مونك إن عزفه ليس جيدا للغاية في موضع، أو إنه متنافر في موضع آخر. هؤلاء مقدسون. لا ينبغي أن نتكلم في تفاصيل وإنما في كلية العمل أو الشخص. فإذا أثبتَّ مرة، مرة واحدة، بعمل أنك عبقري، بعد ذلك تكون لك في رأيي الحرية. يمكنك أن تصنع هراء. وستبقى تماما الشخص المقدس نفسه، ويصبح هراؤك هراء مقدسا لأن المرء باجتيازه هذا الحد يكتسب المنعة.
أنا مقتنع بأن فرانز كافكا حقيقةٌ في إمبراطورية لا يمكنني أنا إلا أن أشخص إليها من بعيد في وله. وإنني أشعر بالبهجة لكون هذه الإمبراطورية موجودة وأن أشخاصا مثل دانتي وجوته وبيكيت وهوميروس موجودون، وموجودون الآن، من أجلنا. وأنا واثق من أن جميع الأفكار المتعلقة بهؤلاء الأشخاص، هؤلاء الأشخاص المقدسين، تشترك جميعا في أمر ما. فصورة كافكا عندي لن تكون عظيمة الاختلاف عن صورة كافكا عندك. هل هذا يجيب سؤالك؟
يعني، في حدود أنه رفض لإجابة سؤالي! هل لي أن أصوغه بشكل مختلف؟ ما تقوله عن باخ يبدو متصلا بفكرتك عن أن الوصول إلى المعنى في عمل إنما يكون من خلال التركيز المحض على التكنيك. وأنت كتبت مرة أن «العالم، في حال وجوده، يجب أن يكمن في التفاصيل». ولعل العمل في حال وجوده يجب أن يوجد في التفاصيل أيضا، وكأنها أوجه مختلفة للشيء نفسه؟
التفاصيل عندي هي الأهم، نعم. أصغر التفاصيل مسألة حياة أو موت. خطأ في جملة يقتلني. لذلك لا أحتمل قراءة كتبي، لأن من المستحيل تأليف كتاب من ثلاثمائة صفحة دونما غلطة إيقاعية ما. ولعل هذه ليست مسألة كمال وإنما رغبة في مراعاة أدق التفاصيل، لأنه لا فارق في الأهمية بين أدق التفاصيل والعمل الكلي. فما الفرق بين قطرة من المحيط، والمحيط كله؟ لا شيء. لا شيء.
يرتبط الأمر أيضا بما كنت تقوله سابقا، عن كونك تملك الكتاب كاملا في رأسك قبل أن تبدأ في عملية كتابته الفعلية؟
نعم، لكن هناك شيئا آخر. من الذي يؤلف الكتب؟ لو أن لديك إحساسا بأنك قادر على أن تقرر أمرا في منتصف العمل، فأنت لست في العمل، ولكنك خارجه. لو أن لديك الإحساس بأنك من يؤلف الكتاب، فأنت خارج الكتاب نفسه.
هل لذلك أثر على تفسير العمل، على النقد الأدبي؟ لو كان لي أن أسأل عن معنى «كآبة المقاومة»، أيكون سؤالا غبيا؟
غبي؟ لا. الأمر يتوقف على السائل. الحديث معك حديث مختلف. فأنا أحترمك. وليس مصادفة أننا جالسان هنا، لأن الطبيعي أنني لا أجلس مرتين أو ثلاثا، ليومين أو ثلاث، مع شخص. وبالطبع، هناك افتراضي بأن لديك أنت أيضا اهتماما بإجابة سؤالك، هذا السؤال عن المعنى. وهو يرجع دائما إلى مشكلة الكل والتفصيل، وكيف أن التفاصيل تصبح الكل.
هل تقول إن الاثنين ـ أي التفاصيل والكل ـ يعتمد أحدهما على الآخر فلا يمكن التفكير في أحدهما دون التفكير في الآخر؟ وبذلك، بمعنى ما، يكون العمل شيئا ثالثا، ما هو بالتفاصيل وما هو بالكل؟
ما كان بوذا يسمح مطلقا لشخص بالحديث عن الكل وكأنه شيء مجرد لأن الكل يفتقر إلى الحقيقة. علينا أن نتحلى بحذر بالغ ونحن نستعمل كلمة الكل. فمثلا، نحن نؤمن أن العالم، الكون، مطلق. هذا هراء، فلو أن العالم بالفعل مطلق، فهذا الشيء «أي كوب الشاي الذي أشار إليه» غير موجود.
ولم؟
لأن كل ما يمكن أن تعرف وجوده يكون محدودا. في هذا الكوب أجزاء صغيرة محدودة، عناصر دون ذرية، وما إلى ذلك. غير محسوسة بالنسبة لنا لكنها غير مطلقة.
في نهاية «تانجو الخراب» لحظة ندرك فيها أن الرواية تدور في حلقة وأن سطور الرواية الأخيرة هي سطورها الأولى وقد كتبتها شخصية من شخصيات الرواية. أعتقد أن هذه هي اللحظة الميتاروائية الوحيدة في رواياتك، النكوص المطلق الوحيد. هل كان واضحا لك منذ البداية أن الكتاب سيأتي على هذه البنية الدائرية؟
إطلاقا. حينما أعمل، أبدأ من البداية، ولا أعرف مطلقا أكثر مما تعرف الشخصيات. في بداية «تانجو الخراب»، لم تكن لدي فكرة عن النهاية، وأن هذا البناء كله، شأن القالب الموسيقي، سيرجع ليبدأ مرة أخرى من البداية، لكن على مستوى آخر، لأنك حينما تقرأ الكتاب مرة أخرى، تقرأ وأنت تعرف أن من كتبته شخصية في الرواية. لا، لم أعمل قط وفق هذا المفهوم.
لأنه يجعل الرواية مطلقة.
ـ لا، لا. أنا لا أفكر بهذه الطريقة. لا يمكن أن يوجد إلا ما هو محدود قابل للعدد.
ـ أقصد أن من الممكن، نظريا، قراءة الرواية مطلقا، بلا نهاية، في دائرة.
هل تتذكر ما أخبرنا به بوذا عن الدائرة؟
لا..
لو أنك تتبعت دائرة، فبعد حين ستفهم أنه ما من دائرة. هي محض نقطة لا وجود لها. ثمة فارق كبير بين المطلق والمحدود اللامعدود. في النهاية، ما رأيك في ما يحدث حينما يذوب راقص صوفي في اللاشيء؟
لكن، ولكي نختتم بسؤال النهايات، قلت إن «عودة البارون إلى وطنه» ستكون آخر رواية لك. لكنني أعلم أنك لا تزال تكتب. هل يعني هذا أن ما تكتبه الآن ليس رواية؟
هي أشياء صغيرة، لا بناء ضخم. لقد كتبت بالفعل ثلاثة كتب صغيرة منذ الرواية الأخيرة. الأول «مشروع منهاتن» (2017)، وهو مقدمة للعمل الثاني، كتابي عن نيويورك. عنوانه المبدئي قد يكون من قبيل «أعمال تمهيدية لقصر». وانتهيت أيضا من كتاب أردت أن أكتبه منذ البداية الأولى، لأنني عشقت هوميروس منذ شبابي. قمت برحلة في الخريف الماضي إلى دلماتيا على الساحل الأدرياتيكي، وقادتني هذه الرحلة إلى جزيرة في البحر الأدرياتيكي، فإذا بإحدى أساطير الأوديسة ترجع بغتة، فكتبت عنها كتابا. كتابا صغيرا أقرب إلى نوفيلا.
وحقا لا تعتقد أنك سوف تكتب رواية أخرى بعد «عودة البارون إلى وطنه»؟
روايات؟ لا. وحين تقرأ ستفهم. لا بد أن تكون «عودة البارون إلى وطنه» هي الأخيرة.

…………………..
*نشر الحوار أصلا في مجلة ذي باريس رفيو الأمريكية، عدد 225 ـ صيف 2018ـ وهو الحوار رقم 240 في سلسلة حوارات (فن القص)

*نقلا عن “عمان”

مقالات من نفس القسم