عبدالمجيب رحمون*
لماذا نقرأ؟ وكيف نقرأ؟ هذان السؤالان الإشكاليان اللذان طرحهما الناقد الأمريكي “هارولد بلوم” لم يكن يريد من خلالهما إلا خلق الانسجام بين المؤلف والقارئ. هذا الانسجام عبر عنه “واين بوث” بالتوافق بين ذات المؤلف وذات المتلقي، ورواية “عقد المانوليا” لمؤلفتها “نعيمة السي أعراب” كانت واعية بأمر التوافق والانسجام، وقد عبرت عنه الساردة على لسان أحد شخوصها ب” التفاعل”. (ص226.) ولعل هذا المفهوم النقدي المعروف باستجابة القارئ وارتباطاته المعرفية بالسلوك، والوجدان، والإيديولوجيا، والمجتمع، سيكون مدخلنا لقراءة نقدية لهذه الرواية الصادرة مؤخرا عن الراصد الوطني في نونبر 2022، قراءة نضع خطوطها العريضة هنا على أن نتوسع في الموضوع في مقام آخر، بإذن الله.
هي رواية في الحب، في التفكك الأسري، في استقلالية المرأة، في عملها، في سفرها، في الأحداث السياسية الأخيرة بالمغرب، رواية تأخذك من حدث إلى آخر، أو هي رواية من داخل رواية، وهذا النوع من الأسلوب عرف من خلال حكايات “ألف ليلة وليلة” فيما اصطلح عليه “سعيد جبار” بالتوالد السردي، لكن عنصر “التبئير” في الرواية هو حكي الساردة لمذكراتها لرجل فاقد للوعي على أثر حادثة سير مروعة، إيمانا بقوة الحكي في استعادة الذاكرة، ووفاء لحب وعشرة جمعا الساردة بالرجل؛ هي طبيعة الأنثى، وطبيعة الحكاية التي تلتقي مع “شهرزاد” في الليالي، الحكي والقص من أجل الحياة، غير أن الساردة راهنت على حياة “نوري” لعله يرى النور.
أثناء هذه المذكرات تجول الساردة وتخوض في مواضيع كثيرة، فاستلمت لسلطة الواقع، وأضرت بخيط الحبكة الفنية، كما ركزت على حياتها الشخصية وهندامها بشكل متكرر، وأحيانا تخون مشاعرها وكأنها ترضي شعورا دفينا تجاه الرجال، “نوري” يقبع في ذاكرتها، لكن” عايدة” تعشق المغامرة وخوض تجارب عاطفية جديدة، وهنا تقابل لا وعيها أو مكبوتها الداخلي، مع حياة “نوري” / الرجال عموما، التي سنكتشفها في نهاية الحكاية.
“نوري” أحد أبطال القصة فاقد للوعي، وذاكرته مرتبطة بوعيه، والسرد كفيل بتنشيط السيالة العصبية. وإذا استعرنا مفهوم التقابل ل “محمد بازي” فإن الرواية في تقابل جزئي مع رواية اليابانية “يوكو أوكاوا” “مدبرة المنزل والأستاذ ” يتحقق التقابل من خلال فقدان الوعي لبطلي القصة الأول كليا، والثاني مرحليا لمدة معينة في اليوم قبل أن يستعيده في حدود ثمان ساعات، الأحداث مختلفة كليا، لكن فقدان الذاكرة /التذكر والرغبة في تقديم العون والعطاء، والمساعدة، من طرف الأنثى هو وجه التقابل هنا الذي يكتشفه القارئ قبل أن يتبادر إلى ذهن الكاتب.
تأخذ أحداث الرواية مسارا مشوقا خصوصا بعد نهاية درامية عندما سيكتب، أو سيروي نهاية قصة الحب “نوري” البطل نفسه، القصة التي عمرت طويلا عبر المخيلة ومن خلال المذكرات، لكنها ستنتهي باستعادة نوري لوعيه؛ بهذا التنويع السردي تعلن الساردة كبرياء الأنثى، كما توظف استراتيجية خلاقة مبدعة في بناء الرواية. يمكن أن نعتبرها حجة ضمنية للتعبير عن نظرتها للواقع، ونقده. لذلك يجوز لنا أن نعتبر السرد يستعين بالحجاج لخدمة الرؤية الفنية للقصة، كما يعبر عن ذلك “محمد مشبال” في تصوره لعلاقة الرواية بالبلاغة.
رواية “عقد المانوليا” ، أو عطر المانوليا كما أحب تسميتها وكما ورد في ص:(166)، هو حق للقارئ، بدليل وجود آلية تأوليلة هي ما أشرنا إليها آنفا بالتقابل. ارتأت المؤلفة أن يكون “عقدا” بدل العطر إشارة إلى تسلسل المذكرات، لكني أرى أن العطر لو استخدمته إلى جانب سرد المذكرات لفعل فعلته في وعي “نوري” واستعاد نشاط ذاكرته بسرعة، نستحضر في هذا الصدد رواية “العطر” للألماني “باتريك زوسكيند” وكيف ألهمت صناعة العطور بطل الرواية إلى القيام بأشياء غريبة، إلى درجة أنه صنع عطرا خاصا به من خلال جمع مكونات كثيرة عن طريق الشم، فشكل أنفه وحواسه تقنية تواصلية لا تقل عن الكلام وعن النظر. فالعطر يحل في الذوات ويسافر في الأمكنة ويخلق حميمية أو نفورا بحسب سياقاته. إن العطر ذكرى ثانية، ولحظة أخرى، قد تطرب، وتبتهج لها، وقد تنزعج منها.
إن “عقد المانوليا” رواية منفتحة، متحررة، مربكة أحيانا، تقتحم تفاعلك معها، وتشوش على تركيزك، لكنها وطدت مفهوم الأخلاق والعادات، والهوية، والوطنية، بشيء من الموضوعية ومن المبالغة، هي رواية لنقد الذكورة، والمجتمع، والدولة، لكنه نقد بأسلوب جميل راهن على الحكي من داخل الحكي لتحقيق الحياة.
……………………….
*أستاذ باحث مهتم بالبلاغة والنقد وتحليل الخطاب، رئيس المركز المغربي دراسات للثقافة والآداب والأبحاث التربوية بطنجة