كيف تكونت التروما – بحث في أسباب الهزيمة – سعيد مرزوق وممدوح شكري

سعيد مرزوق
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

حسن سلامة*

الصدمة النفسية أو “التروما” بالمفهوم الشائع والمتداول – ببساطة هي عبارة عن صدمة ما في الماضي يستمر أثرها في حاضر الإنسان، تؤثر فيه، وتتمثل في ردود أفعال عصابية مفاجئة – نفسية وجسدية – نتيجة مواجهة موقف/ صدمة مشابهة لما حدث في الماضي.
ورجوعا إلى مدرسة التحليل النفسي في تعريف الصدمة، يبدأ فرويد من مرحلة الطفولة التي يبدأ عندها كل شيء، ويعرَف فرويد “العصاب” على أنه نتاج لل “كبت” المستمر، الذي ينشأ بسبب صراعات تراكمت لفترات طويلة بين كل من الرغبة والدفاع سواء بوعي أو بدون، وفي حالة عدم التسوية أي “التعبير” ينفجر الإنسان في لحظة ما، أو بشكل آخر ينتهي إلى كونه “عُصابي”.
وفي حين انتهى فرويد إلى فكرة “اللاوعي الفردي” وإلى أي مدى قد يؤثر على الإنسان وقراراته ذهب “كارل يونج” أبعد قليلا، فرأى أننا كبشر- خاصة في المجتمعات الصغيرة المرتبطة بحيز ما ثقافي- ديني محدود – نشترك في بضع صفات كما نتشارك أيضا نفس المخاوف – ،وأسمى يونج ذلك بال “اللاوعي الجمعي” أي جميع ما نتشارك فيه بدون وعي مسبق لماهيته..
وكتبسيط لما يسمى باللاوعي الجمعي – يتتبع “علم النفس التطوري” نفس خطى يونج- فيضرب “جيروم كاجان” مثالا متطرفا على ذلك بقوله أن الجيل الثالث لليهود بعد “المحرقة” قد  يعاني من تخوفات كثيرة حين مواجهته للنار:  النار الطبيعية تماما المتمثلة في نار البوتوجاز أو حتى قدَاحة، وذلك يعني بأن حفيد الشخص الذي شهد المحرقة وعاش بعدها وأنجب – قد يعاني من تخوفات وهلاوس تجاه النار لا يعلم مصدرها – وذلك ببساطة يرجع إلى أن جده قد عايش أحداث المحرقة.
وتعتبر “نكسة 67 ” من أبرز الأحداث في تاريخ مصر المعاصر، فلقد غيرت النكسة في تركيبة “الشخصية المصرية” تماما – للأسوأ بالطبع. ولذلك تصبح النكسة بمثابة “تروما أزلية” باقية في وجدان المواطن المصري- بمرارة – لمن عاشها في البدء، ثم للأجيال اللاحقة التي لم تعش تلك الأحداث بشكل مباشر بل وربما لم تعلم عنها حتى .
بعد الإفاقة من أثر النكسة لجأ السينمائيون لتوثيق تلك الخيبة وكيف انعكست على نفسية المواطن المصري، بداية من رجل الشارع حتى المثقف في برجه العاجي، كما اتجهوا أيضا للبحث في أسباب الهزيمة، بداية من محاكمة السلطة وصولا إلى محاسبة الذات وجلدها، ويتمثل كل ذلك بشكل واضح في أفلام مثل (الكرنك – ثرثرة فوق النيل – أغنية على الممر – احنا بتوع الأتوبيس. ثلاثية يوسف شاهين : الاختيار – العصفور – عودة الابن الضال) كل تلك الأفلام، بالطبع اهتمت برصد النكسة، وأسبابها وتداعياتها.
كما ظهرت على النقيض أفلام تحاول بدورها محو ذكرى الهزيمة على استحياء، وكان همها الأول هو شباك التذاكر وإسعاد الجمهور ولو كان ب “بيع الوهم”
 كأبي فوق الشجرة والأشهر بالطبع “خلي بالك من زوزو” ، وفيلم
 “أميرة حبي أنا ” الذي غنت فيه سعاد حسني “الحياة بقى لونها بمبي”
ليتعرض بعدها صلاح جاهين لنقد حاد أثر تلك الأغنية، فيقال أن صديقه الشاعر نجيب سرور وفور رجوعه سأله مستنكرا: “بمبي ياصلاح!”
 في إشارة للخيانة عبر محاولة تجميل واقع بعد الهزيمة.
في تلك الأثناء كانت تتشكل تجربة المخرج سعيد مرزوق منذ بداية السبعينيات، بدءا  بفيلمه الروائي الطويل الأول “زوجتي والكلب ” الذي عد كفيلم طليعي على مستوى السرد والصورة، ورغم أن تجربة سعيد مرزوق كانت في بداياتها ذلك الحين فإن هذا لم يمنع سعيد مرزوق – التي تجلت روحه المتمردة قبل ذلك في طبول – زوجتي والكلب – من تقديم رؤيته للنكسة وتداعياتها، تحديدا في أفلام مثل
(الخوف – المذنبون)
ورغم أن فيلم المذنبون يتبع إلى حد كبير نهج وتيمة فيلم الاختيار ليوسف شاهين (جريمة قتل لها رمزية سياسية ودوافع القاتل غير واضحة بشكل كبير) -بجانب اشتراك نجيب محفوظ في كتابة الفيلمين – إلا أن فيلم المذنبون لم يأخذ حقه من الاحتفاء مقارنة بفيلم الاختيار، وربما يرجع ذلك لصدور فيلم سعيد مرزوق بعد فيلم شاهين بحوالي خمس سنوات.
يبدأ فيلم المذنبون بجريمة قتل الممثلة سناء كامل “سهير رمزي” ليتم بعدها التحقيق في مقتلها والبحث عن هوية القاتل، ومع تداعي الأحداث ورغم معرفة القاتل في النهاية، نستشف ضمنيا أن القاتل ليس واحدا فقط وإنما الجميع مشترك في تلك الجريمة بشكل أو بآخر، وهنا إدانة واضحة لجميع شخوص الحكاية لكونهم سمحوا لتلك الفاجعة بالحدوث.
إن ذلك النوع من الكشف يحدث بالتدريج لنكتشف أن الأزمة هي أزمة مجتمع في البدء، أو بشكل أدق هي أزمة بشرية وفطرية نبعت من اتباع الإنسان لغريزة الطمع والتطلب فوق الحاجة، متمثل ذلك في مكتسبات مادية مثل جمع المال والسعي للسلطة والجنس المشروط بتسليع الجسد والخيانة، وهنا يشير سعيد مرزوق بشكل واضح لأزمة مجتمع قبل وبعد النكسة، وإلى أي حد وصل ذلك المجتمع للانحطاط والوصولية، من خلال حساب مطول لذلك المجتمع.
كما ينتهي الفيلم بالإشارة للعقدة الفرويدية الواضح انطلاق سعيد مرزوق منها في أفلام أخرى له – ممثلا إياها تلك المرة في شخص القاتل المتعلق تماما بأمه، والتي تبدو كإقطاعية كبيرة في الماضي قد تم الاستيلاء على أغلب ثروتها، في إشارة لطبقة الاقطاعيين التي تحمل في داخلها غضب هو أشبه بقنبلة موقوتة قابلة للانفجار في أي لحظة.
الفيلم الذي سبق “المذنبون” لسعيد مرزوق  في إشارته للنكسة، تلك المرة بشكل واضح تماما- ويميل لطرح تداعيات النكسة بشكل مباشر هو فيلم “الخوف” بطولة سعاد حسني ونور الشريف، ويحكي فيلم الخوف عن لقاء يجمع أحمد وهو مصور يقيم بفندق ما – بفتاة وهي سعاد النازحة من السويس إلى القاهرة بعد موت أهلها في أحداث 67.
وفي سعاد نرى بوضوح آثار الصدمة النفسية;   مشاهد مفجعة متفرقة في كل مكان، الشارع في لحظة وكأنه انعكاس لحيها المقصوف في السويس، الجثث وأشلاء أهلها في كل ركن.
سعاد هي تجسُد لإنسان ممزق بالكامل، وذلك ما يجعل كل كلمة – نظرة بمثابة تهديد مباشر لها، كل فعل ولو كان عاديا هو انعكاس لذكرى سيئة محفورة في ذاكرتها البصرية، فتنتهي سعاد بأن تصبح متخوفة حتى من الحب الذي يتبدى كخلاص أحيانا.
كما يظهر أيضا أن نظرة سعاد ليست مشوهة بالكامل تجاه العالم المحيط بها، فذلك المجتمع الذي يعبر عنه سعيد مرزوق  بالفندق الذي يسكنه أحمد المصور ربما-  يبدو كبيت مملوء بالمسوخ والأشباح، وهو خير تجسيد لمجتمع ما بعد النكسة – ويتفق مع تلك الرؤية المخرج محمد شبل في فيلمه الطليعي أنياب- بعد مرور عشرة سنوات على صدور فيلم الخوف – فيرى شبل المجتمع المصري بعد النكسة والانفتاح بمثابة مجموعة من مصاصي الدماء.
يكشف سعيد مرزوق في فيلمه كيف أثرت النكسة على مجتمع كامل خاصة فئة الشباب، وكيف تحطمت تلك الأحلام فجأة وانعكست على نفسية جيل بأكمله مقموع حريته ومكبوت لا يقدر على التعبير، فيتحول الفيلم في لحظات معينة إلى فيلم يهاجم القمع في كل مكان، القمع بكل تمثلاته السياسية والاقتصادية والمجتمعية.
وينتهي الفيلم نهاية إشكالية كثيرا، بين كونها رومانسية توحي بالأمل حين انتصار أحمد على حارس العقار وحماية حبيبته سعاد وهي أقرب لنهاية تجارية، وبين احتمالية كونها دعوة ضمنية لتجاوز ذلك النوع من “التروما” المحفورة في تركيبة المواطن المصري- والتصالح معها- ولكن حتى تلك الرؤية تتجه إلى كونها رؤية حالمة لا تتسق مع واقع ما بعد النكسة، الذي يجب أن يدين ليكتشف مواطن العطب لا أن يتصالح ويتجاوز متجاهلا تلك الفجيعة.
نفس الخيط يتتبعه المخرج ممدوح شكري في فيلمه “زائر الفجر” – وممدوح شكري بجوار مدكور ثابت وناجي رياض هم أول دفعة تخرجت من المعهد العالي للسينما – ويتبنى فيلم زائر الفجر فكرة البحث وراء أسباب النكسة كما يوضح الأثر النفسي السلبي على الشخصية المصرية بعد الهزيمة.
يتمثل ذلك الأثر في شخصية ” نادية شريف” الصحفية اليسارية، وهي صحفية تم اعتقالها مسبقا إثر مجموعة نشاطات سياسية، ويبدأ الفيلم بتحقيق النيابة في مقتل نادية والبحث عن القاتل بينما يتبين أن نادية ماتت نتيجة سكتة قلبية.

إن “الأزمة القلبية” عند نادية شريف، هي معادل للهستيريا المتمثلة في “سعاد” في فيلم الخوف. ما يجمع بينهما هو أثر الصدمة المستمر، الارتباط شرطي بين دمار الشوارع وأشلاء الموتى وبين التعذيب الذي تعرضت له نادية في سجون السلطة.. كل منهما هو نتاج العنف، سواء خارجي أو داخلي، بالتالي فمن الطبيعي أن تتحلى تلك الشخصيات بطبيعة انهزامية، ونفسية مهزوزة تماما تظهر عند الاحتدام بشخصيات وأحداث خارج محيطها، لأنه وفي محيطها نفسه تكون الرؤية مشوشة.. ضبابية تماما..
بالتالي فإن الرعب في عيون نادية حين مشاهدتها للرجل القادم من بعيد قرب الفجر هو نفسه الرعب في عيون سعاد حين تتخيل نفسها فريسة لأحمد في الفندق المليء بالمسوخ.
وعليه فإن نهاية سعاد لم تكن لتختلف عن نهاية نادية، لولا الحب، الحب هو المنقذ في فيلم سعيد مرزوق، لكن عند ممدوح شكري فشخصية نادية هلكت باحثة عن الحب ولم تجده، ولذلك فموتها كان موتا معنويا أكثر.
ناديه لم تجد التقبل في من حولها، وهي تمثل للشخص الخائف، الذي لم يستطع تجاوز الصدمة، كما أنها تعاني من الوصم المجتمعي أيضا، وهنا إشارة إلى أن الأزمة لم تقتصر على السلطة الغاشمة فقط، بل هي مستفحلة في مجتمع فاشي وفاسد بطبعه، كما هو نفس الحال في فيلم المذنبون، وفي فيلم الخوف أيضا الذي يرى سلطة المجتمع وفاشيته متمثلة في بواب العمارة التي على وشك البناء ويهدد أمن أحمد وسعاد.
في تلك الأفلام يتضح إلى أي مدى حُمَلت الشخصية المصرية بالثقل والخوف من المستقبل نتيجة الهزيمة، كما تباينت أسباب الهزيمة بين سلطة غاشمة وعدو فاشي وفساد مجتمعي وذاتي.
وبذلك أتت نهاية زائر الفجر كنهاية مثالية تجسد الحال حينها، فرغم كونها تصنف كنهاية تشاؤمية إلا أنها كانت واقعية تماما – تشير بالإدانة للجميع، لا أحد بعينه.

……………….

*سيناريست وناقد مصري

مقالات من نفس القسم