كيرياليسون

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمد عبد النبي

لا أظن أن هناك عنوانا أكثر دلالة على عالم رواية هاني عبد المريد، الصادرة عن دار الدار، من عنوانها كيرياليسون والذى يعني ارحم يا رب. 

 بعد قليلٍ من تأمل وعي الشخصية الرئيسية – لا يمكننا اعتباره بطلاً – ذلك الوعى الذى يتحرك على السطور صانعاً عالمه و مستعيداً ذكرياته و مُسائلاً نفسه فى الأساس عن ذنبه. ما أن نتأمل قليلاً هذا الوعي حتى ندرك دون جهد كبير وطأة الكيان الميتافيزيقى، الغيبى و الخرافى، الذي ينوء تحته هذا الوعي، و عجزه عن تشكيل أفكاره و طموحات وجدانه بمعزل عنه.

من السطور الأولى للرواية ندرك اختفاء شخصيتنا الرئيسية، ناجح تيسير عبد الواحد، فى ظروف غامضة، و ندرك من خلال متابعة مونولوجه الداخلى، سواء بضمير المخاطب أو المتكلم اللذين لم يتميزا فى الأداء أو الدلالة على مدار السرد، أنه حبيس زنزانة محكمة الغلق، لا يرى من خلالها النور ويدخل إليه الطعام و الشراب فى كيس من طاقة صغيرة، وهي الطاقة نفسها التى يخرج منها فضلاته. و الأمر هنا لا يتعلق باعتقال مثقف مشاغب، ولا بأعداء أشرار قرروا تعذيبه بالعزل عن العالم لما لا نهاية، الأمر يتعلق بسؤال أو لغز، يبقى مطروحاً على ناجح حتى نهاية الرواية، و هو : ما سبب وجوده هنا؟ وما الذى فعله أو لم يفعله حتى ينتهي به الحال سجيناً وحده تماماً، لا يجد حتى أى مخلوق لتحدث إليه، إلا عنكبوت صغير طال انتظاره له قبل ظهوره؟ تتنوع الإجابات المقترحة على هذا السؤال الكبير، ويروح ناجح يستدعى كل الاحتمالات الممكنة لجرائمه أو ذنوبه، هنا نعود للميراث الميتافيزيقى الذى يثقل كاهل الشخصية، التى تدرك أنها مذنبة، من البداية، وأنها مسئولة بدرجة أو بأخرى عما يحدث لها بل ربما وما يحدث بالخارج لجميع الآخرين،  أنها لذلك لابد أن تعاقب وتكفر عما اقترفته، وإذ يمتد هذا التفكير حتى حدّه الأقصى فإن ناجح تيسير عبد الواحد لا يتردد، مع السطور الأخيرة للرواية، عن الصعود إلى صليبه، مُضحياً بنفسه من أجل خلاص البشرية، فى توكيد على فكرة الخطيئة والخلاص بالعذاب.

ولكن من هو ناجح هذا ليحمل مصير البشرية على كاهله ويدفع ثمن خطاياها؟ هذا سؤال آخر يطرحه عليه السجن، وبينما كان السجن فى حالته شديدة الغموض هنا، إطاراً مثالياً لطرح كل الأسئلة التى يفضل البعض بتسميتها بالوجودية من هذا القبيل، ولكن الرواية لم تستغرق فى مستنقع هذه الأسئلة وانطلقت فى البحث عن العالم الذى كان شرطا أساسيا لخلقها ومنحها شرعيتها.

لعبت الذاكرة ، بفوضاها المتماسكة على حد تعبير خوان جويتيسولو، دور المحطم لقيود ناجح، بوعيه الخرافى والغيبى، وحملته بجناحين صغيرين خفيفين لتنتقل به من مشهد إلى آخر من مشاهد حياته، ومن شخصية أثرت عليه إلى أخرى فى شريط حياته مرت مرور الكرام.

نلحظ، من ناحية السرد ولغته، أن الحيوية والتدفق يظهران ما أن يقترب السرد من المناطق التى تخص الآخرين بقدر ما تخص ناجح، سجين وعيه، أى تلك التجارب المشتركة التى لا مكان فيها إلا لتيار التجربة الحياتية الدافق، مكتسحاً فى غماره كل سؤال وجودى صغير لذاتٍ صغيرة مُنعزلة رغماً عنها أو بإرادتها.

وعلى عكس ما يفترضه ويوحي به جو الحبس و العزلة التامة من إمكانية التريث و التأنى عند بعض التجارب و الخبرات التى تزودنا بها الذاكرة، فإن الراوي كان يتقافز من منطقة فى الذاكرة إلى أخرى، مُضيعاً عليه وعلينا فرص تكوين صور أكثر صفاءً وعمقاً لبعض هذه العوالم، من قبيل فترة خدمته العسكرية ومستوى الفساد الذى بلغه هذا الجيش وطبيعة العلاقات التى تحكمه، وكذلك عالم منطقة الزرايب بشخصياته وقوانينه وأسراره.

 بالطبع لا نطلب من الرواية دليل إرشادى لهذه العوالم، ولا استغراقاً تاماً فى واحدٍ منها، بما أنه كان طرفاً واحداً فقط فى تجربة الرواي وسط أطراف عدة، لكن المشكلة أن كثيرا من هذه الأطراف العديدة كانت مُتوقعة ومُتشابهة مع الكثير غيرها من التجارب و الخبرات، وخصوصا الجزء الخاص بسنوات النشأة والتكوّن والمراهقة، التى لم تخرج عن نطاق المعتاد، ولم ينقذها فى حقيقة الأمر إلا لغة السرد الرشيقة التى استفادت من العامية دون تردد أو تحرّج، واعتمدت أساساً على الوصف المشهدى والحوار، لذلك لن نجد من بقايا البلاغة التقليدية ووصفاتها الشعرية المعروفة إلا أقل القليل، وهو غالباً ما ارتبط بفقرات السرد التى تنداح عن وعى ناجح، سجين لغته وبلاغته.

من الواضح أننا نلف و ندور حول ثنائية الخارج و الداخل، تلك الثنائية القديمة والتى لعلها خالدة بمعنى من المعاني، حيث يتكوّر الداخل مستغلقاً على نفسه راصداً ما يفعله شقيقه الخارج بعين سحرية مستريبة.

فى كيرياليسون فرض الخارج نفسه على شقيقه الضعيف والمريض، بل ونجح فى حبسه بين أربعة جدران، هذا الحبس الوجدانى الذى تجسّد درامياً فى أحداث الرواية، والذى لم يتحرّر منه ناجح  إلا باستعادته تلك التجارب والذكريات الحية، واستدعاء الشخوص والأجواء.

رغم رفض ناجح لمظاهر وطقوس الدين المفرغة من المحتوى والمعنى، وهو ما يفعله أبوه الشيخ تيسير، فهو ليس لديه ما يضيفه إلى الخارج إلا هذا الوعي الغيبي المريض ذاته، الإدانة لنفسه وللآخرين، وهي إدانة أخلاقية بالأساس، ومحاولة إلقاء اللوم على طرف بعينه، والبحث المعذّب عن ذنب يمكن أن يطمئن له حتى يرضى بمصيره و يتقبل عقوبته.

تعدُ الرواية بإمكانيات سردية متميزة، تحقّق بعضها بالفعل بين صفحاتها، وإن كان ما بقى وعداً كامناً لا يُستهان به. ولعلّ حكمتها الخاصة هى كشفها عن ضعفٍ ما لدى ناجح ليقوله، فى مقابل قوةٍ ما لدى الآخرين، أى تأكيد شحوب ذلك النمط الروائى الذى مازلنا ننتجه و نعيد إنتاجه، ربما منذ كمال عبد الجواد فى الثلاثية، وربما لما لا نهاية، أي نمط المثقف المنعزل والمهزوم، الذى يذوب الروائيون فيه غراماً، ربما لأنه مرآة صافية لصورهم، وربما  لأنه فى المتناول، فى متناول أحاسيسهم وأفكارهم وهواجسهم.

تبدأ المغامرة، فى رواية كيرياليسون، باقتحام للعالم الخارجى، الذى تفجر عن ينابيع و جداول عملَ السرد الرشيق على الإحاطة بها بكل الوسائل، وهي مغامرة تحسب لكاتبها. وأعتقد أنه هكذا تبدأ كل مغامرة، على الورق أو بعيداً عنه. 

مقالات من نفس القسم