كيرياليسون.. رواية عن الهامش المنسي والأحلام الغاربة

كيرياليسون.. رواية عن الهامش المنسي والأحلام الغاربة
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

د . عمار علي حسن

ما إن تنتهي من رواية (كيرياليسون) لهاني عبد المريد حتى تشتعل رأسك بالأسئلة، ولا تجد إجابات قادرة على إطفائها، ولو أعدت قراءة المفتتح، والاستهلالات التي تتهادى إليك في هيئة (صدى الصوت) وعناوين المقاطع المتتابعة/ المتوازية في آن، وبعض الهوامش الراقدة على استحياء تحت المتن العامر بسرد لافت، فمهما ربطت بين البداية والنهاية، سيظل الكثير من بين اللوحات القصصية التي تشكل صلب هذه الرواية عصيا على الفهم التام، ليس فقط لأن النص ثري نسبيا ومفتوح على تأويلات عدة، ولا لشاعريته الجلية في بعض المواضع، لاسيما حين يلتحم الحلم بالواقع، لكن أيضا لأن الخيط الذي يربط التفاصيل ليس متينا بالقدر الكاف، والعمود الفقري للرواية أضعف من أن يحملك على الإلمام من الوهلة الأولى بالتفاصيل الضائعة وسط السطور والمعاني المضمرة بين ثناياها، وبين ضميري المخاطب والمتكلم.

 

لكن المؤلف استعاض عن المسار المعماري المعهود في بناء الرواية بامتلاك قدرة ظاهرة على جذب القارئ إلى نصه منذ السطر الأول وحتى الأخير، معتمدا على عدة عناصر، أولها وجود أسلوب مميز، يحتفي بصناعة العبارة، وينسج خيوطها على مهل، من دون حشو أو إشباع يصيب السرد بالترهل. والثاني هو استخدام المؤلف للغة بسيطة لا تخلو من شاعرية، أصيلة تارة ومستعارة طورا، تحملها بعض الجمل القليلة مثل “يقف الرجل على أحزانه” و”جسدي شمعة تذوب بمحبتك”، “كلما رأونا شاطت قلوبنا” “يدك المتصلبة تتلمس جدران وحدتك .. عيونك تحدق، فلا ترى سوى بؤسك وعزلتك” و “زرع الفرحة في صدورنا”، أما أغلب السرد فجاء بسيطا وعاديا، يمزج بين الفصحى المتيسرة والعامية الدارجة، في عبارات مباشرة تصل إلى المعنى من أقرب طريق، وتبدو محايدة في كثير من المواضع.

أما الثالث فهو التنقل بين أمكنة عدة، تدور حول المكان المركزي للرواية وهو منطقة “عشوائية” تتمثل في (حي الزرايب بمنشأة ناصر في القاهرة) لنجد أنفسنا نسافر مع الراوي إلى الصعيد حيث يلتحق البطل “ناجح تيسير عبد الواحد” بإحدى كتائب الجيش هناك، وإلى العراق حيث يسافر “الخال” للبحث عن عمل، ثم ننتقل معه إلى أحياء أخرى بالقاهرة، حيث المدرسة التي يعمل بها معلما بعد تخرجه من الجامعة، والعمارة التي عمل بها “فرد أمن/ بوابا” فترة مؤقتة بين التخرج وانتظار التجنيد. لكن كل هذه الأماكن تدور في فلك المكان الأساسي للرواية، ولا تشعر إلا في مواضع قليلة أنها تكاد أن تفلت منه.

والرابع هو السير ذهابا وجيئة في الزمان، فالرواية تبدأ من لحظة ما قبل الختام بإعلان عن تغيب ناجح منذ اليوم التالي لسقوط بغداد في يد الأمريكان، ثم تعود إلى السنوات القليلة التي سبقت ضياعه، وتغوص أكثر في أعماق الزمن لتسترجع طفولته، وتقفز إلى شبابه، وتراوح بين لحظات تمكنه، وهي قليلة، وأيام ضعفه واستكانته، وهي كثيرة. ويختصر الراوي مدد طويلة من الزمن في بعض المواضع بجملة قصيرة وهي “ومرت الأيام” الأمر الذي يتيح له أن ينتقل إلى فترة زمنية جديدة، من دون أن يشعر القارئ بأنه قد أغفل تفاصيل، أو قفز فوق مواقف وأحداث تستحق أن تروى. وبالطريقة نفسها اختصر الراوي مشاهد عدة في كلمات واحدة، مثل تلك التي يقول فيها “استلبها” والتي تأتي بعد مشهد محاولة اغتصاب، ليلخص بهذه الكلمة الدالة الموقف برمته، ويتخلص من تفاصيل معروفة، لم تكن تضيف شيئا إلى النص لو ذكرها.

والعنصر الرابع هو إلقاء اسم أحد الشخصيات عرضا وسابقا على أي شيء يتعلق به، أو يوضح من هو؟ وماذا فعل؟ لكن دون أن ينفصل عن خيط السرد انفصالا بينا، فيلقي في نفس القارئ نوعا من التشوق إلى الإجابة على هذين السؤالين، وهو ما يفعله المؤلف فيما بعد. وقد حدث هذا مع كثير من شخصيات الرواية مثل شربات ويحيي والشيخ ثابت.

وهنا يأتي العنصر الخامس وهو التشويق، فالرواية رغم بينتها التي تزاوج بين المتتالي والمتوازي وتتكئ إلى لوحات قصصية متتابعة أحيانا ومتجاورة أحيانا، يحمل كل منها عنوانا منفصلا، فإنها تهتم باصطياد القارئ، فما إن يبدأ في قراءتها حتى يجد لديه رغبة في أن يعرف ما يجري وما سيحدث وما ستنتهي إليه هذه الأحداث.

 

والعنصر السادس هو وحدة البداية والنهاية، وحالة الوجع التي تصيب بطل الرواية المأزوم دوما، والتي تنعكس على كافة التفاصيل، وتلقي ظلالا كثيفا على أجواء الرواية، وتصرفات شخصياتها، ما يمنحها قدرة على الجمع بين أجزائها، ولم شمل أشتاتها، وعدم الإحساس بأن هناك شخصيات مقحمة عليها، أو مواقف يمكن الاستغناء عنها.

وبطل الرواية ناجح تيسير عبد الواحد، البالغ من العمر 29 عاما، يبدو شخصية ضعيفة وانسحابية، يميل بسرعة إلى الاكتئاب، ويواجه الحياة بسلبية ظاهرة، تتجلى في حالات عدة يسردها المؤلف من بينها، ندمه على مواجهة الخرافات التي تلبس ثوب الدين، حين قال الناس عنه: “يخلق من ظهر العالم فاسد” قاصدين أنه الابن الفاسق لرجل الدين الشيخ تيسير، فساعتها يسأل ناجح نفسه: “هل كنت مخطئا .. غبيا؟” ثم يجب على السؤال: “بالتأكيد كنت غبيا. لماذا أشذ عن المجموع؟ لماذا أعارض؟!!!”. وتطفح هذه السلبية بشكل لافت أثناء تأدية ناجح خدمته العسكرية كضابط احتياط، حيث كان ينفذ الأوامر في طاعة عمياء حتى لو كانت مخالفة للقوانين والشرائع وما يفرضه الضمير، مكتفيا بصمت أبله، وشعور شامل بالضياع والتفاهة، إذ يقول: “أنا مجرد أداة، حولوني قبل كل شيء لجماد يوضع حيث يريد القائد الأعلى”، ويصف حاله: ” كنت ضائعا .. غريقا يستنجد بقشة”. وحين يحضه زميله أيمن، ابن اللواء السابق، على التمرد قائلا له: “إنت احتياط مستقبلك مش في إديهم”، يرتكن إلى خنوعه، ويقتنع بالتبريرات التي يقدمها له أخوه يحي حين يحكي له أثناء الإجازات: “يابا دا عمره ما خد قفا من أمين شرطة، ولا حد سب أمه، خليك في حالك يا عم إحنا غلابة”.

ونعرف من الرواية أن بذرة الخنوع التي نمت في نفس ناجح قد زرعها جبروت أبيه، وهو رجل غشوم، يذل والدته ويقهرها ويخونها، ولا تملك أن ترده أو تخرج عن طوعه قيد أنملة. ورغم أن الجدة تطالبه دوما بأن يعتد بنفسه: “الراجل يمشي فارد ضهره”، فإن تعزيزها له وحدبها عليه لا ينفع في قتل هذه البذرة، التي تكبر إلى درجة أن يقبل ناجح دور “القواد” أثناء عمله بوابا، حيث يغض الطرف عن الداعرات الصاعدات إلى “أسياده” وينتظر المكافأة أثناء هبوطهن: “أصبحت آخذ بثقة .. دون خجل، أخذ وأعرف أنني أعطي أكثر. أقبض وأنا ألاغي”.

ولا يفلح السياق الاجتماعي الذي يحيط بناجح في انتشاله من الاكتئاب والسلبية، بل يعمق وحدته وشعوره بالضياع، فالحي الذي يعيش فيه يفوح بعفن القمامة، التي تأتي إليه من بيوت المدينة المتوحشة، لتتجمع هنا، وتنشط بينها الخنازير والأطفال الذين يقومون بفرزها على مهل بأيادي قذرة ونفوس كسيرة. والشخصيات التي يراها عن كثب أو يتفاعل معها، تعيش حالات من السقوط الدائم، فالأب يتاجر بالدين ويسقط في الرزيلة، والأم مقهورة، والأخ باحث عن الثراء بأي ثمن، والخال مسلوب الإرادة أمام زوجة متسلطة، والولد الوسيم ابن منطاوي صاحب محل تصليح الساعات والذي يظفر بأجمل بنات الحي ليس أكثر من شاذ جنسيا، وسلوى الجميلة انتهت بها الحال إلى تسليم نفسها لكل من يشتهيها، وابنتا أبو عامر صاحب المقهى تبيعان الهوى والمخدرات، ومخيمر الفقير المعدم يمارس الكذب والنصب الفاضح كي يستدر عطف الناس فيعطونه أكثر مما يستحق، والضابط أيمن يكفر بالوطن والوطنية.

ولا يقدم لنا النص طريقة للتمرد على هذا السياق المقبض سوى الاستخدام المفرط للقوة الغاشمة والخارجة على القانون، وذلك عبر اثنين من البلطجية الأول هو الضابط سامر زميله في الجيش الذي يدمن المخدرات، ويخيف كل من حوله، وتبلغ به الجرأة إلى درجة تهريبه لفتاة إلى داخل الكتيبة ومكوثها في حجرته ثلاث ليال. والثاني هو عكرش بلطجي الزرايب “الذي لا يتردد، إذا ضاق صدره بك، في أن يعلم وجهك بخط من مطواته الأثيرة ـ قرن غزال ـ التي يتفنن في أساليب فتحها، استعراضا للرهبة”.

وتحاول الرواية أن تفلت من إسار الذاتي، الذي يغلب على المشهد الروائي لجيل الشباب، من خلال تبينها لقضيتين كبيرتين، الأولى سياسية، شغلت وتشغل العالم كله، وهي قضية احتلال العراق، وهنا يستعين الراوي/ البطل ببعض مانشيتات الصحف ليلة الحرب وفي أيامها الأولى، لكنه لا يلبث أن ينطوي على ذاته ويبدأ يفكر فيما إذا كانت مصر ذكرا أم أنثى، ليهوي إلى حزن دفين، يضعه على أبواب الانتحار بعد معاناة. والثانية هي التماهي في الذات الإلهية، وهي مسألة يستذكرها البطل من خلال الشيخ ثابت، ذلك المتصوف الذي يردد دوما “من ذاق عرف” ويسعى إلى أن يكون عبدا ربانيا، يقول للشيء كن فيكون، وكذلك حكاية سمعان الخراز الذي تمكن من نقل جبل المقطم من مكانه بعد ترديد كلمة “كيرياليسون” التي تعني “ارحم يا رب” ليثبت لليهودي يعقوب بن كلس وزير المعز لدين الله الفاطمي أن لدى المسيحيين إيمان راسخ بالله. ويتماهي البطل في هذه الأسطورة ويبحث فيها عما يشبع رغبته في الانعتاق فيقول لنفسه: “سأرددها ألف مرة لو ينجني الله من عزلتي هذه، فتندك الأسوار جميعها، وأخرج سالما .. سأرددها طول عمرى لو أرى النور كيرياليسون .. كيرياليسون ..”

لكن بين الإحساس بالذنب الذي يسيطر على البطل في بداية الرواية نتيجة إهماله ورقة تحمل “دعوة دينية إسلامية إلى الإيمان” وإيعازه كل ما لاقاه من مشاكل إلى هذا التصرف، وبين استلهامه في نهايتها معجزة الخراز، لا يجد شيئا يهدئ من روعه، ويخفف عنه وطأة الاكتئاب، والشعور القاتل بالوحدة، سوى الغرق التام في الأحلام، والرغبة في أن يفدي الآخرين: “يقف، يستشعر حريته، ما دام السجن سيمنح الحرية للآخرين، فهو حر”.

ورغم أن هاني عبد المريد لم يتعمق كثيرا في رسم ملامح المكان الذي تدور فيه أحداث الرواية، وهي المسألة التي طالما جذبت كثيرين من الروائيين للغرق في تفاصيلها المثيرة، ومع أنه أبدى حرصا مصطنعا في بعض المواضع على كسر التابوهات الثلاث “الدين والسياسة والجنس”، واستهوته أحيانا الطرق الجديدة للسرد مثل رسم الأشكال الهندسية، والتي يراها بعض النقاد مجرد تقاليع طالما لم تكن هناك حاجة ملحة إليها في بناء النص، فإن “كيرياليسون” رواية جذابة وجريئة، ينطوي مضمونها على معاني كبرى ممتزجة بتجربة إنسانية ذاتية متداولة. كما لا تخلو الرواية من محاولة تجديد في الشكل، من خلال تدوير الأزمنة والأمكنة وتبادل الأدوار بين الشخصيات وإيجاد مساحة مقصودة من الغموض والتحام المتن بالهامش والمقتبس بالنص الأصلي ،وهي في خاتمة المطاف، تبدو واحدة من أفضل الروايات التي أنتجها الشباب في الآونة الأخيرة، وتنم عن روائي يمتلك أدواته، وباستطاعته أن يبدع لنا في المستقبل نصوصا أصلب عودا، وأثرى مضمونا، وأسلس لغة، وأمتع سردا.

 

عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم