رواية “طيور صفر” صاغها باورز ببراعة، ويمكن أن يكون تأثيرها عميقا لدى القراء، فهي تروي عن حكاية مروعة جمعت بين شابين كانا يعملان في صفوف القوات الأمريكية لدى غزوها العراق 2003، وكيف كانا يحاولان البقاء على قيد الحياة في ساحات المعركة هناك، المؤلف وهو يغوص بنا في أتون هذه الحرب التي يفقد الجنود فيها براءتهم مع أول دوي انفجار، لا ينسى أن يدخل الى ذهن القارئ صورا شاعرية حالمة عنهم، مع تعبيرات سريالية تختلف في رؤاها عن رواية السيد أوبراين، كونها تجمع صورا ولمحات من الحياة العادية لهم، وحتى وهم يعيشون لحظات عملهم المحفوفة بالمخاطر، ومشاهد الرعب التي تسكن الأزقة والبساتين الممتدة خارج المدينة، والحدائق الصغيرة المتناثرة هنا وهناك والتي يختبئ الموت خلف أشجارها، فقد تنفجر قنبلة مزروعة على أحد الجنود فيهرع المسعفون لنجدته، أو يفقد آخر أحد أعضائه كإحدى أذنيه أو أنفه من برج للحراسة بفعل قنبلة أخرى زرعت بالقرب منه .
الجندي “جون بارتل” الذي جعله باورز راويا لأحداث روايته، يحكي كيف بقي وزملائه الجنود في إحدى واجباتهم الليلية مستيقظين حتى ساعات الصباح الأولى، متأهبين نتيجة الخوف من أن يفقدوا حياتهم في كل لحظة، وقد تناول الجميع حبوبا تساعدهم على مقاومة النعاس، مع أن هناك وسائل أخرى فنية أعدت لحمايتهم لا يعترفون بها لأنهم غير متأكدين من نجاحها.
بارتل في كل هذه المشاهد يوحي لنا، وكأنه يمسك بدفتر اليوميات ليدون عليه تلك الأحداث المتسارعة لهذه الحرب التي طال أمدها فيقول :
– كنا نعود مرارا الى المدن التي سبق وقاتلنا على أرضها بمواكب بطيئة لأننا لا نعلم في أي لحظة يتم اطلاق النار علينا ، مع أننا قد طردنا منها أكثر المسلحين أو قتلناهم ، ليختفوا بعدها في أزقتها أو القرى الملحقة بها وكأن شيئا لم يحدث بتاتا هناك ، لكن ثمة رجال نراهم يلوحون لنا يدعوننا لشرب الشاي أمام محلاتهم ، بينما نعود ثانية الى دورياتنا في الشوارع نوزع اثناءها الحلوى على أطفالهم ! .
وفي احدى دورياتنا الاعتيادية – يروي بارتل :
– تعرضت واحدة من عجلات الدورية الى هجوم بقذائف المورتر أثناء مرورنا بأحد البساتين ما تسبب بإصابة طاقمها بحروق شديدة ، بينما فقد صديقي مورفي البالغ من العمر ثمانية عشر عاما إحدى عينيه وظلت والدته في رسائلها له تسال عن أحواله لتتأكد من عدم حدوث أي شيئ لابنها ، فهي تحبه بجنون وكثيرا ما كان يقول لنا عنها أنها عاطفية الى أبعد الحدود وسوف تنهار حتما حينما يعود الى المنزل بإصابته تلك .
الصديقان بارتل ومورفي هما من قرية صغيرة بولاية فرجينيا جمعتهما صداقة منذ الطفولة أيام كانا يلعبان سوية في دروب تلك المدينة الترابية ولم يكن يحلمان أبدا أن يكونا سوية كذلك في الجيش حيث يقول بارتل :
– عندما كنا ننتهي من لهونا نذهب الى النوم بهدوء ، خالية أحلامنا من كل ما يعكر صفو حياتنا ، كان هذا واقعنا قبل ذهابنا الى العراق ، الحرب هناك لاتمنحنا سوى كوابيس دائمة ، تتحدى يقيننا كوننا جميعا بشر وتزيد من عقدنا النفسية ومصير وعشوائية الحياة التي نعيشها .
الرواية وهي تنقل للقارئ صورا مختلفة لأبطالها الشباب الذين وجدوا أنفسهم أمام حرب لم يكونوا ليتوقعونها بهذا العنف بعد أن كانوا يتطلعون الى العودة سريعا الى مدنهم دون أن تنهكهم وتطحن عظامهم ، فحالة بارتل قد لا تختلف عن باقي حالات المجندين الآخرين وهم يعيشون أوضاعا نفسية سيئة ، هذا ما تمكن باورز من كتابته عن تأثير تلك الحرب بعد معايشته أوضاعها والتي تعلم وبسرعة كما يقول آليات البقاء في مواجهة العنف المستمر فيها من ضرب وركل واستخدام للكلاب وعمليات التفتيش الوحشية التي تبقينا أحياء كما صور لنا ذلك آمروا وحداتنا .
الجندي بارتل منحه باورز فرصة أخرى للبقاء وهي اعتماده على الحظ والصدفة بعد أن سلم نفسه للقضاء والقدر بسبب يأسه من هذه الحرب يقول :
– العبوات الناسفة التي كانت توضع في طريق دورياتنا يبدو أنها تريد قتل أسماء معينة منا وإلا لماذا يكون الفرق دائما بينها وبيننا ساعة تنقص أو تزيد ، واتساءل أحيانا عن تلك البوصة التي تفصلني عنها الى اليمين أو اليسار من رأسي ، أو الثلاثة أميال نمر منها بسلام لتنفجر بعدئذ على دورية أخرى قادمة !
الرواية هذه غير عادية فهي تكشف خطأ تلك الحروب كما يقول بارتل في نهايتها :
إـ ن أولئك الذين يعرضون حياتهم للخطر في خدمة بلادهم يقبعون بعد ذلك في زاوية مجهولة من العالم ، هم ليسوا إلا أرقاما ، لكنهم لن ينسوا أبدا رفاقهم في ساحات المعركة سواء منهم الأحياء أو الأموات .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ميتشيكو كاكاتيان
عن صحيفة: نيويورك تايمز – 6 سبتمبر 2012
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أحمد فاضل
مترجم وناقد – العراق
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
خاص الكتابة