إبراهيم ماين
تروي “أسطورة الكهف” في كتاب “الجمهورية” لأفلاطون قصة مجموعة من الأشخاص الذين، منذ طفولتهم، يعيشون في مسكن تحت الأرض، يشبه كهفاً، مقيدين من أرجلهم وأعناقهم، بحيث يجبرون على رؤية ظلال الأشياء التي تسقط أمامهم بواسطة نار مشتعلة خلفهم. وبسبب هذه التجربة، يظلون طيلة حياتهم يتحدثون عن هذه الظلال باعتبارها حقائق.
إذا افترضنا أن أحدهم تحرر من قيوده واستدار نحو مخرج الكهف ليواجه الضوء، فإن عينيه المعتادتين على الظلام ستتألمان من الضوء المفاجئ، وسيشعر برغبة في العودة إلى الظلال التي يعتبرها أكثر واقعية. وإذا جُرّ بالقوة إلى ضوء الشمس، فسيحتاج إلى وقت للتكيف، بدءاً برؤية الظلال والأشكال في الليل، حتى يتمكن من رؤية انعكاسات الأشياء في الماء، ثم الأشياء نفسها، وأخيراً، فهم تعاقب الفصول والسنوات، واستيعاب الأسباب العميقة وراء الأشياء، حينها سيشعر بالسعادة لحكمته الجديدة ويفضل تحمل أي شيء على العودة لحياة الظلال.
إذا عاد هذا الشخص إلى الكهف، فإن عينيه، المعتادتين الآن على الضوء، ستكافحان لرؤية الظلال بوضوح، مما سيجعل الآخرين يعتقدون أنه فقد بصره، وبالتالي ليس هناك جدوى من الخروج إلى الضوء، بل وقد يعتبرونه خطيراً ويحاولون قتله إن حاول تحريرهم وجذبهم إلى النور.
لنحاول الآن مقاربة هذا الأسطورة بمصطلحات عصرنا.
يمكننا القول إننا بفضل التكنولوجيا المتقدمة صنعنا حلقات وأغلالا غير مرئية تثبتنا منذ طفولتنا في كهف رقمي، حيث تُقيّد أرجلنا وتوجه رؤوسنا حصراً إلى الصور الافتراضية التي تُسقط أمامنا بواسطة أبحاث تسويقية موجهة، حتى نعتاد على اعتبارها حقائق، فكّروا في مدى غرابة أن يعود شخص من العالم الحقيقي إلى أولئك الذين اعتادوا منذ طفولتهم على فهم العالم من خلال هذه الصور فقط، وكيف سيعتبرونه غريباً وخطيراً على مجتمعهم.
لنفهم ما قد تعنيه كل هذه الأمور بالنسبة لوجود الإنسان، علينا أن ندرك أن هناك فعلاً ضوء وظلام، وأن الاتجاه الذي نختاره سيحدد في النهاية خلاصنا.
وهذا هو الحكم: أن النور جاء إلى العالم، ولكن الناس أحبوا الظلمة أكثر من النور.
تختتم أسطورة الكهف عند أفلاطون بأهمية توجه الروح نحو فكرة الخير، و أن أهم عمل يمكن أن تقوم به الدولة هو مساعدة أولئك الذين يمتلكون الطبيعة المناسبة على الارتقاء والوصول إلى هذه المعرفة العليا، ليس ليبقوا هناك، بل ليعودوا ويعتنوا بالمدينة، بعد أن يروا الحقيقة والجمال والعدل والخير، ويعيشوا حياة حقيقية بدلاً من الصراع على الظلال.
من المهم أن نفهم ماذا يعني هذا في سياق التربية، حيث أن التعليم ليس كما يدعي البعض الذين يمارسونه كحرفة، بأنه يزرع المعرفة في النفوس كمن يزرع البصر في عيون عمياء، بل هو استدارة الروح نحو ما هو حقيقي، بما يجعلها قادرة على مواجهة الكينونة والنور الأسمى، الذي هو الخير.
لذا، فالتربية هي فن تحويل الروح بشكل يجعلها تتجه نحو الخير، وليس زراعة القدرة على الرؤية، وإنما تحويل النظر إلى الاتجاه الصحيح، بحيث تصبح الروح قادرة على رؤية الحقيقة.
بخلاف ذلك، فإن الأشخاص الأشرار الأذكياء، إذا كانت رؤيتهم موجهة نحو الشر، فسوف يخدمون الشر، وكلما ازدادت حدة رؤيتهم، زاد الشر الذي سيفعلونه.
«إذا كان أحدهم قادراً على قطع أجزاء من الروح التي تتصل بعالم الظواهر من خلال الإفراط في الطعام والشهوات والملذات الأخرى، وجعلها خفيفة وقادرة على رؤية الحقائق، فإنه سيصبح قادراً على رؤية الأشياء الحقيقية بنفس الوضوح.»
باعتبار التعليم كتوجيه الروح نحو الاتجاه الصحيح لفهم الخير، يجب أن نعمل كما تعلمنا الحروف الأبجدية، حيث كنا نشعر بالتقدم عندما نتمكن من تمييز الحروف في كل الكلمات، كذلك يجب أن نفعل مع الفضائل مثل الشجاعة والعدالة والنبل.
بمراجعة الأشكال التي تُعرض في كهفنا الرقمي الحديث، نجد أنها بعيدة عن الخير، وتعرضنا لقصف مستمر من الصور الافتراضية التي تضعف رؤية الروح وتغترب عن طبيعتها. لفهم هذا بشكل أفضل، يكفي النظر إلى ما قيل قبل قرون عن التربية الفنية للأطفال، حيث يجب أن تكون «غير محاطة بصور الشر مثل حقول سيئة، تلتقط منها كل يوم القليل، حتى يتراكم الشر في نفوسهم دون أن يدركوا».
لنتساءل بجدية وصراحة، كم هو متقدم العصر الذي يفعل العكس تماماً؟ عن أي قفزات تقدم نتحدث ونحن نلغي إنسانية الإنسان ونحقنه بجرعات متكررة من الشر والغباء؟
مع تسارع الإيقاع المناسب للآلات، وليس لنبض الروح، نجد أنفسنا في مجتمع أزال فكرة ومعرفة الخير وأبعد الإنسان. إن نزع القدسية عن الطبيعة وطبيعتنا، وتسليم حريتنا لأشكال تفسد الوجه الإنساني وتدمر الخليقة، هو التهديد الأكبر لوجودنا.
نحن بحاجة إلى العودة إلى الطريقة التي يمكن بها للخير أن يصبح حركتنا الطبيعية.
«إن هذه الوضعية غير الطبيعية تجعلنا، على عكس تعليمات أفلاطون في كتابه (فيدروس)، نحافظ على حالات نكتسب فيها المعرفة من الخارج وليس من الداخل، ولا تمنحنا الحكمة الحقيقية، بل صورة منها، فقط.»