تخطيت الحواجز المعدنية واندلقت إلى المترو فأغلق أبوابه ورائي على الفور وانطلق. حاولت التنفس. أخذت أنوار العربة تتذبذب فقلت إني أتصور ذلك، لا يمكن أن تأتي العين الخرطومية الكبيرة إلى هنا لتبحث عني، عني أنا بالذات. قلت لنفسي سأتنفس كما تتنفس السيدات المشرفات على الولادة: يكوّرن أفواههن وينفخن، سأنفخ كأني سأطفئ شمعًا، نعم نعم، الشمع، شمع عيد الميلاد، أنا اتذكر عيد ميلادي الأخير، كان الجو حارًا لكن أصدقائي اجتمعوا حول تورتة صنعتها والدة أحدهم وأخذنا نغني ونضحك ونمسح عرقنا، لا، العرق لا، التورتة. نعم، كانت عادية الطعم، لكني أتوق إليها بشدة الآن، أتوق للصحبة، أتوق للحياة العادية.
توقف المترو في رمسيس فطلعت جريًا، لم يهدأ قلبي أو تستقر ركبتاي، وانزلق العرق الآن الذي أصبح ساخنًا إلى مؤخرتي، دائمًا ما أضع الفانلة داخل السروال، هذا مقيت جدًا، الآن كل مؤخرتي غرقى بعرق دافئ، ياععع، أريد أن أخلع ملابسي كلها وأضع نفسي تحت التكييف الخرب للمحطة التحت أرضية، حتى أجف، أجفّ، وأكفّ عن الارتعاش.
خرجت، وجدت ميكروباص ينادي على معرض الكتاب. القوم هنا لم تصلهم المظاهرات. القوم هنا لاهون. الحياة ليست طبيعية، فعربات العدو المصفحة منتشرة في كل مكان، والطيور تحلّق زاعقة فوقنا، والسماء رمادية، وأنا خائف. ركبت في المقعد الأمامي ووضعت الحقيبة بجواري بحركة عنيفة. ما زالت ذراعي اليسرى غير موجودة، وأنا أُبعد هذه الفكرة عن عقلي. قلت سأركز، قلت سأحاول التفكير في الكتب التي أريدها.
غرقت في مستنقع فكرة أن لا كتب جديدة، وأننا جميعنا مُلاحقون. سيراقبون ما نقرأ، سيضعون جهازًا في قفاي يراقب أفكاري، ويلتهم كل إحساس بالسعادة أو الاطمئنان. هدأ تنفسي قليلاً فبدأ شعور بالغضب يتصاعد: ركّز بالله عليك، هناك كتب حلوة بالتأكيد. سطعت في ذهني مقولة مريد البرغوتي أنه حينما تستغلق الأمور عليه وينحصر مُطاردًا داخل نفسه، يقرأ الأساطير اليونانية. نعم نعم، احتاج للخيال، أحتاج لهراء آلهة اليونان والإغريق، سأبحث عن الإلياذة.
تحمست للفكرة حتى أنني لم أخف من السرعة المحدقة بالخطر التي يركض بها الميكروباص. “يركض” .. تخيلت الفِعل في رأسي: ميكروباص كبير مهيب وله أربع قوائم بركب لا تتخلخل، ومعرفة فرس بيضاء.. لا لا، سوداء، ويركض بسرعة جدًا، لذلك نتخضخض يمينًا ويسارًا ولا نهتم. عاد قلبي المخلوع إلى مكانه فقلت لا بأس ببعض الهزّات.
وصلت، دفعت التذكرة وحثثت الخطى نحو سور الأزبكية. تجاهلت سوادهم المنتشر في مؤخرة الصالات التي أصبحت من الخيام البيضاء الآن، تجاهلت كونهم حطموا المعرض كله في محاولة خرقاء للتجديد، والآن نحن من يدفع الثمن. توجهت. خارت قواي فجأة أمام انعطافة سراي أربعة، ما كانت دار المعارف قديمًا، فرميت جسدي على أول مقعد ذي ظهر صادفته. أخذت ارتجف، اشهق وأبكي بعنف وارتجف.
تقيأت إلى جواري. خجلت من نفسي بشدة، ثم هززت كتفي ومسحت فمي بمنديل، وفتحت الحقيبة بيد واحدة وأخرجت زجاجة الماء. الآن، كيف سأفتح غطاءها؟ وضعتها بين وركيّ وقبضت عليها بشدة، ثم حاولت فتح الغطاء. لم أستطع. نظرت حولي بعينين عليهما غمامة فظننت أني أصبت بالسحابة البيضاء أخيرًا. رغم أني صغير جدًا.
جاءت فتاة كانت تتمشى منتظرة شخصًا ما، تقريبًا، وجلست بجواري. استدرت نحوها وأنا لا أراها، وأشرت نحو الزجاجة. اقتربت مني وفتحتها لي وهي تتكلم، سمعت همهمة خافتة للغاية ولم أعرف كيف أردّ. لم أعرف أصلاً أن السحابة زارت أذنيّ أيضًا. شربت بيد مرتجفة، ووضعت الزجاجة بجواري، وبكيت.
ربتت الفتاة على كتفي ومسحت على ظهري. خجلت من عرقي ومما لا بد رائحتي. مدّت يدها بمنديل ومسحت لي جبيني. ابتسمت، زالت سحابة عينيّ.
رأيتها الآن، جميلة، محجبة في غير إفراط، وحقيبة ظهرها على المقعد بيننا. ابتسمت لها فمدّت نفس المنديل ومسحت ركن فمي، لابد أن كان هناك شيء مزعج. عاد لقلبي دقاته وإن كان صوته مرتفعًا بداخلي. تكلمت فلم أسمعها، أشرت لأذنيّ فهزت رأسها.
الآن جاء صديقها. تهللت لمرآه وتقافزت، ثم لفّت ذراعيها حول كتفيه واحتضنته. كان أسمر بشعر ناعم، متوسط الطول فجاءت رأسه على كتفها. أراحها وأخذ يبكي. أمالت رأسها على جبينه، وعرفت من حركة يدها الصاعدة والنازلة أنها تربت على ظهره. هدأ فابتعد. جاء يجلس إلى جوارنا. وضعت ذراعها حول كتفيه وابتسمت له. صرت أسمعهما الآن.
مضيت. قلت لنفسي يكفي هذا ويجب أن أعود للمنزل. جررت قدميّ وركبت تاكسيًا ودفعت له مبلغًا كبيرًا عليّ، لكنه أوصلني حتى الباب. نمت، بكامل ملابسي وعرقي ورائحتي، استلقيت على السرير.
صحوت في اليوم التالي وكان النهار ساطعًا والشمس حانية، والغيوم بيضاء منوّرة. قلت سأذهب لمعرض الكتاب. ما زالت ذراعي اليسرى خدرة لكني أحركها بصعوبة. غيّرت ملابسي وخطرت على بالي فكرة حسبتها طريفة. قلت سأستحمّ. خلعت ثيابي بيد واحدة، فكان الأمر صعبًا قليلاً، ودخلت تحت الماء بعدما أسلته كثيرًا ليصبح دافئًا. كانت رغوة الصابون مبهجة، لكني لاحظت انسداد أذن عن الأخرى، ولم اهتمّ.
قلت سأشتري الإلياذة والأوديسة معًا. طبعة سميكة مليئة بالرسوم، كنت قد اشتريتها منذ زمن بعيد لكني أرجعتها للبائع في اليوم التالي لأني خفت من عثور أبويّ عليها، وكانا دائمي التفتيش في حاجياتي. قلت سيعاقبانني على الرسوم والآلهة الكثيرة، فآثرت السلامة.
اتجهت للمعرض في خطوات تحجل قليلاً، وقطعت التذكرة ودخلت. كان هناك ألم في ركبتي اليمنى ومكان آخر، هل هو وركي؟ هل ما فوق الركبة مباشرة؟ هل هي منتصف الساق؟ لم أدري، فقط حوّلت انتباهي. وصلت لنفس المنعطف ووجدت الفتاة، نفس فتاة الليلة الماضية، تجلس على نفس المقعد وتقرأ. ألقيت نظرة سريعة فوجدت آثار الليلة الماضية لم تزل موجودة،، استبشعت ضمير عمال النظافة لدى المعرض الذين لا يقومون بواجبهم. جلست إلى جوارها وابتسمت. لم ترفع عينيها عن الكتاب.
بعد دقيقة جاء ولد، طويل وعريض، بنّي الشعر والذقن والعينين، وصغيرهما، يرتدي نظارة شفافة بلا إطار، ويبتسم ابتسامة خفيفة، ابتسامة من عرف فلم يعد يندهش. هللت أيضًا لمرآه وحاولت لفّ ذراعيها حوله، لكنها أسقطتهما إلى جوارها على طول. صمتت قليلاً ثم قالت له أن يقترب من الكرسي جدًا، صعدت فوقه مستندة على الظهر، وقفت أعلى منه، ثم مالت لتحتضن كتفيه ورأسه. تمامًا مثل الليلة الماضية، وضع رأسه على كتفها وبكى. رأيت دموعه فبكيت. مسحت وجهي في كمي لأن مناديلي نفدت. حاولت تحريك ذراعي اليسرى فخذلتني فازداد بكائي.
جلست بجوارهما أسمعهما. تكلم الولد قليلاً بينما كانت تعدّ شطائر الجبنة بالخبز الفرنسي الرفيع والطويل. أعطته واحدًا ثم أعطتني أنا أيضًا وابتسمت في وجهي. أشرت لأنفي أني أريد منديلاً فأعطتني واحدًا، وربتت على رأسي.
أخذنا نأكل في صمت، ثم قامت ووزعت علينا عصيرًا. شربنا، والتفتا نحوي. قلت لهما اسمي وعنواني، قلت إني تائه وإني أريد الإلياذة. ضحكت البنت خفيفًا وقالت اشمعنى. حاولت أن اشرح لها، فلاحظت انطلاق لساني وخفوت ضربات قليبي المتسارعة. كنت استخدم يدي اليمنى في الكلام، فجاءت ناحية يدي اليسرى ورفعتها. امتننت لهذه الحركة جدًا. سلّمت عليها مبتسمة، وراحت تخاطبها: ازيك؟ عاملة ايه؟ أنا إيناس – اسم لن أنساه – إنتي مالك؟ وراحت تحركها للأمام والخلف. ثم وضعتها برفق بالغ على المقعد بجواري، وابتسمت لوجهي وذهبت لتجلس في مكانها.
وأنا أحسست أن فرصتي بدأت تضيع. سألتها لماذا تحتضن فتيين؟ لم أفهم. نهضت ثانية من مكانها بذات الابتسامة ووقفت أمامي. قالت إنهما عائدين من معارك مميتة، مع أنفسهما بالأساس. قالت إنهما لم ينتصرا بعد، لكنهما نجحا في البقاء أحياء، وهذا يستحق الاحتفال. قالت إن حضنها شافٍ، وأنه يحمي من الرصاصات المتلاحقة والقطن والشاش والبيتادين، وأن ركن الجبين على عظمة الكتف ينقل الملائكة الصغيرة جدًا التي تعيش هناك لداخل الرأس فتهدئ من الحمّى وفوران التساؤلات المندلع. قالت إن الموت لا يزور المتحاضنين.
وأنا دمعت عينيّ. فلما رأتني هكذا فتحت ذراعيها وأمالت رأسها إلى جانب وقالت وإنت كمان؟ وأنا كمان. قلت. جاءت نحوي فأحطت كتفها بذراعي اليمنى، وركنت رأسي على كتفها. أغمضت عينيّ كيلا أرى الملائكة الصغيرة جدًا، لا أبد أنها لا تحب أن تُرى. لا بد أنها تعمل في صمت وإنكار للذات. ابتسمت لها خفيفًا كفرح مؤلف من سطرين، شممت رائحة البنت فوجدتها ياسمينا أو فلاً، أو هما معًا. انسابت دموعي لكن برفق هذه المرة. شعرت بأني سأكون على ما يرام. أن كل همٍّ زائل، كل حزن سيسيل من بين ضلوعي ليتركني خفيفًا ووحيدًا. شعرت بشيء جديد ينطلق نحو كتفي اليسرى، فذراعي، فأصابعي. حركتها فتحركت. ضحكت، فشددت البنت ضغط رأسها على رأسي. مسحت دموعي. نمت.
مايو 2014
خاص الكتابة