كشف هيئة

محمد فيض خالد
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

 

محمد فيض خالد

الكمساري

ها:الجو اليوم لا يطاق، الرطوبة تخنق الأنفاس، وتحجب جنين الشمس البرتقالي المتخلق من خلفها بقسوة، رائحتها تغمر الهواء في لزوجة وعطن منفرين، في بداية مقدمي للبلد كنت انزعج لهباتها، اتململ أكثر شيء للماء المنسكب دون مناسبة يغرق جسدي، لكن ومع مرور الوقت اعتدت عليها، هذا الصباح ركبت الأتوبيس رقم 18، الوحيد الذي يمر بالقرب من مكان عملي، انتظره في عذاب وسط حشد غفير من الموظفين ضاق بهم الرصيف، تخنقني الرائحة الطافرة من أجساد الهنود، خليط عفن يهب يزكم أنفي بنكهات حريفة تشبه التراب المندى، أو بالأحرى الأعشاب المطمورة، فوق كرسي وثير استراح جسدي أخيرا، استسلمت فورا لهبات المكيف الباردة، وعلى وقع دمدمة أصوات أسيوية غير مميزة، تركت رأسي المثقل وشأنه، غفوة قصيرة لن تضر، مرت دقائق قبل أن انتبه لصوت غليظ، بلكنة مصرية جنوبية، شاب أسمر نحيف فارع العود، يمرر سبابته في ضجر ينتح حبات العرق المتكومة فوق جبهته السمراء العريضة، من جوار السائق، ابتسم ابتسامة مرة كأنها عصارة قلبه، قائلا: تذاكر.. تيكيت ، لم يستغرق الأمر طويلا، سريعا انهى عمله ؛ ليلقي بنفسه للشارع حيث كان.

منذ عامين بالتمام، اشتهت نفسي هذه الوظيفة، قرأت خبرا في صحيفة يومية مطلوب مفتشين ، أضاءت وجهي الفرحة، وقد تزخر غدي بالآمال الجميلة، أشار عليَّ أبناء الحلال بالتقدم، هي أضمن من غيرها، مرتب منتظم، إقامة ثابتة، وحياة جديدة تنقذك من وطأة هذه الأيام الكئيبة، هذا ما اتقفت عليه الآراء، في صباح يوم فاتر لا تزال ذكراه الذابلة معلقة بخيالي المجهد، تأبطت حافظة أوراق حبلى بالمستندات، كانت خصلة من شعر الشمي صفراء ملتهبة ساقطة فوق الحيطان الظامئة، لا يزال الوقت مبكرا، لكن رائحة الطعمية الساخنة تتلاعب بأنفي، وكأني أشمها لأول مرة، لأول مرة اشعر بالحنين للوطن للبيت والأسرة، لأمي وأخوتي الصغار، اشعر بيد الغربة الغليظة تمسك بتلابيبي، تعتصر قلبي، ، تطاردني خيوط الرائحة محملة باللذة، في تشهي تتبعت مصدرها، لا اعلم لماذا رقص قلبي فرحا، وشعور غامر بأني لا زلت على قيد الحياة يشملني، التهمت في لمح البصر رغيفين، تجشأت على استحياء في ارتياح من لا تعدل الدنيا عنده جناح بعوضة، اكمل النشوة صوت السيدة أم كلثوم المنبعث من فجوة بالمطعم، تغرد بلحن شجي، هززت رأسي في تفاؤل، تجولت عيني في المبنى، حتى استقرت في ركن بعيد، طالعني موظف عجوز بعين باردة من خلف الزجاج، هرش ذقنه المغبرة وهو يتثاءب، ويده تدق أوراقا بيضاء بختم كبير، وقبل أن أسأله حدجني بغير اكتراث، لتغيم من بعدها الدنيا في وجهي، لم ينقذني من هذه الوحلة غير شخص، بدت ملامحه مصرية، ألقى إلي بابتسامة مهتزة، شجعتني على الاقتراب منه، لأقول بصوت متكسر: أريد التقديم في وظيفة المفتش ، نظر نحوي بإشفاق، ووجهه يكسوه الاهتمام، اجابني وهو يخفي ضحكته في صدره: بعد قليل، سيحضر الأستاذ ناصر يستلم منك الطلب، هو في شباك6 ، عندها اضطربت النظرات في عيني، بلعت ريقي بصعوبة بالغة، ليزداد ضجيج الأفكار في رأسي، وشيش مزعج، لا اعرف لماذا استدعيت صورة المفتش بزيه المميز، القميص الأصفر، البنطلون الكحلي، نظراته الواثقة، مشيته وسط الأتوبيس في استعلاء، يده الخشنة تمزق التذاكر بلا رحمة، استماع السائق لنصائحه في خشوع وسكينة، ليدب من بعدها النشاط في جسدي الهامد، تحركت في الممر اطالع في ونس مفاجئ وجوه الموظفين المثقلة ببقايا الأمس، نعاس وارهاق، وتحايا الصباح تلقي في اهمال فاترة، دقائق وضج المكان بالأصوات تهدر، اختلطت روائح الأكل، تناوب السعاة في تقليب الملاعق داخل أكواب الشاي، وضحكات تصدر من أفواه محشوة بالطعام من هنا وهناك.

صدقني، حتى اللحظة لا اعرف مصير طلبي، لكن لا زالت تطوف برأسي ملامح الموظف الثلجية، وهو يغالب ابتسامة ساخرة، ولسان حاله يردد في خبث: مسكين، ستعلم أيها البائس ذات يوم، أن لا تصدق كل ما تراه .

*

الحاكم بأمره

في كنف هذا البيت الرحب، عاش الشيخ صبحي موفور الهيبة، تظلله النعمة، خمسة عشر فدانا، وطاحونة تزن ليل نهار، قطيع من المواشي تفيض الجدران بخلفتها، وأبناء ثلاثة من الرجال، وعزوة من الأهل لعائلة كبيرة، توفيت عنه سكينة زوجته الحبيبة وابنة خاله التي ارتبط بها عمرا، تركته في رعاية زوجات أبنائه، وماذا يحتاج شيخ طاعن مثله، غير أن يضمن، هدمة نظيفة، ولقمة هانئة، لكنه ورغم سنه، لم يفرط في قوامة بيته، ظلت بيده مقاليد الأمور يسوسها، عصاه مشرعة بحزم تؤدب كل عاص سيء الأدب، خاصة زوجات أولاده، فكل واحدة منهن يراودها إبليسها، أن تخرج عن الوصاية، تستقل بحياتها في دار بعيدة، لا تفتأ زكية زوجة ابنه الكبير عبدالغفار ، تشكو عدم الانصاف، تغلي متذمرة فزوجها افنى عمرا في رعاية شؤون البيت والغيط، فكيف يتساوى و سمير ذلك التلميذ المرفه.

صبت فوق الشيخ جام غضبها، وهي مع ذلك احالت حياة زوجها جحيما، تذكره ضعفه، تندب حقه المهضوم، كيف تحول لخادم أجير لقاء لقمة حقيرة، وفي كل يوم تطل الفتنة برأسها تطعم زكية جذوتها، حتى وإن تظاهرت بالسكينة، تقول بلهفة الحسير وهي تزفر: متى يتحقق الحلم، أن نخرج من بين حيطان هذا السجن المظلم؟! ، أما كلامها عن المستقبل فكفيل لأن يثير منابع الزهو في نفس زوجها، في ضعف ينساق خلفها دون روية، يجبر فكره على الإذعان، لكن تظل في قلبه ولولة، فهو أجبن من مواجهة والده صاحب النعمة، يهز رأسه مستهينا بالمخاوف، يجاهد في تعتعة، تتفجر كلماته في كمد: نعم، لابد وأن نتحرر، أن تصبح لنا حياة، أن يتحقق العدل في هذا البيت ، مرت الأيام والكلام يرتعش في الدار، تفوح رائحة ما تحيكه زكية ، عندها لم يجد الشيخ من بد، غير أن يقمع التمرد في مهده، وعلى العشاء، التف أهل البيت حول الطعام، هب الرجل واقفا، وقد علا شدقيه الزبد، وأشرقت عيناه، يتوهج فيهما ضياء الشباب، قال في حسم: عاشت هذه الدار يدا واحدة، تأتمر بأمري، وستظل، ومن لا يعجبه العيش فيها فبابها مفتوح ، اجتهد عبدالغفار كي يبدو متماسكا، يسيل على أطراف شفتيه ما يخامر قلبه من الفزع، بكى حظه، قال في خنوع: جميعنا طوع أمرك يا أبي، لا يجرؤ أحد على عصيانك، نحن نحيا في كنف نعمتك ، رمته لحظتها زكية من عين حمئة، بعد قليل ابتسمت ابتسامة مجهدة، تخفي نيران قلبها، انصرف الشيخ وسط فورته، ومن بعدها انغمس الزوجان في أسى مرير، يئنا سويا وقد توزع بالهما، قررت زكية بعد لأي التخلص من عقبتها الكؤود، اسلمت رأسها لشيطانها، فقادها لفكرة جهنمية، مشت الأيام في رتابتها، حتى كان ذات صباح لتستيقظ الدار على وقع صراخ كثيف..

*

كشف هيئة

اجتمع أكثر من رجل في مندرة الحج سعفان كبير عائلة المرازقة ، امتلأ بهم الكنب، أما سعدية فجلست ملتصقة بالجدار، افترشت الأرض مغمومة، لم يبق لها غير فتات الأمل، قد اعتمدت يدها تسند رأسها المثقل بالهموم التي تخوض أوحالها، توزعت العيون رمضان الدكش ابنها الوحيد، ساد صمت خانق، لكن ورغم جدية المشهد، فقد بلل الابتسام الوجوه المتصلبة، بعد قليل دارت كؤوس الشاي الفواح، انتهبت الأيدي الصينية في غمغمة، قبل أن يتناوب الجلوس غابة الجوزة يمتصون دخانها ثم يقذفونه في انتشاء، في الخارج، توقفت تماما حركة الزقاق، اغرق المكان في صمته، لملمت الكلاب أذيالها وانكمشت، وتربع النسوة أمام البيوت يأكلهن الفضول الجائع، وأسماعهن تلعق جدران المندرة.

أما رمضان فقد تلهى بكوب الشاي الكبير، يدسه بين شفتيه العراض، يتتابع مصه متلذذا في بله، كتم الرجال ضحكاتهم بين تلافيف ثيابهم، بدت المرأة وقد توشحت بحيرتها، تعلق قلبها بالوجوه من حولها، تطالعهم في ترجي وانكسار، تعود سريعا تغرق ابنها في اشفاق، حدد الحاج سعفان هذه الجلسة الطارئة، واختار لها من أبناء العائلة أرشدهم، أرادت المرأة أن تفرح بوحيدها، تقول في هالة من الانشراح، تخايل وجهها الأسمر: لا شيء يجلو عقله ويعدل مزاجه، ويمنحه النباهة غير الزواج ، جلس الحاج سعفان يشيع صاحبنا بعين كليلة، عدل ياقة جلبابه الكشمير، قائلا في رزانة: تقدر تعد الفلوس كويس يا ولد ، مد يده إلى جيبه واخرج حفنة من الفكة، وضعها في يده وبدأ يقلبها في صرامة، قبل أن ينثرها في حجر صاحبنا الذي زاغت عيناه مع كثافة الرنين، شرع في تقليبها ضاحكا، أخذ الصمت بأعناق الرجال، عاود رمضان النظر لوالدته مرارا، حينها جعلت المرأة تجمع طرف ثيابها، تحكمها من حول قدميها، هزت رأسها مشجعة إياه، وهي تقول: يلا وري أعمامك ، هرش شعره الهائش، ابتلع ريقه، يستعد لمهمته العسيرة، أطرق طويلا يحدق في النقود المتناثرة في حجره، مسها بيده المعروقة مسا خفيفا، وفي حماس شرع يعد: عشرة….عشرين…تلاتين.. ، غاب في حسابه، تهللت أساريره أخيرا بالفرح، ليردد صارخا: أربعة وخمسين جنيه وتلاتين قرش ، شاغبت ابتسامة دافئة وجه الشيخ، تحركت على إثرها حبات مسبحته الكهرمان في رضا، توالت الأسئلة من أعمامه، لم تخرج في أغلبها عن ذكر أسماء قرى الزمام وترتيبها، أخفت المرأة وجهها داخل حرامها الصوف، وقد نبتت في عينيها الدموع، آن لها أن تطمئن على المسكين قبل أن ترحل، ليرزق بابنة الحلال التي ترعاه من بعدها، وتهبه الذرية، قفزت المرأة في همة، دست يدها في عبها واخرجت منديلا، حلت عقدته بأسنانها، فردته أمام الشيخ، تدحرجت لفافة كبيرة من الورق لفئات كبيرة من العملة، عاجلتها في انكماش: تحويشة العمر، ادخرتها مهرا لهذا المسكين ، ثم غابت في نهنهة مفتعلة، جعلت تتعثر في دموعها، نظر الجميع إليها وابتسامة تتجمد فوق الشفاه، إنهم يعرفون الدكش ويدرون مصائبه، و انفلات خلقه، لدرجة لم تسلم منها امرأة أو فتاة، ولولا شوكة عائلته، لأصابه ما يصيب كل متفسخ.

ابتسم رمضان ابتسامة لزجة وهو يردد في انتشاء: اريد عائشة ابنة شيخ الخفر سباعي ، عاود الابتسام يندي الوجوه، أما هي فظلت عيناها لا تطرفان عنه، كان كلامه كفيلا لأن يدير الرؤوس إليه، لازم الحاج سعفان صمته، وعشرات الأسئلة تنتهب رأسه، بعد أسبوع بالتمام فاضت الدار بالزغاريد، زفت إليه الفتاة، وافق شيخ الخفر دون تفكير، كيف له أن يضيع من يده عشرة أفدنة من أجود الأراضي، وخمس بقرات، خلاف المال المكنوز، عما قريب سيصبح هذا الأخرق عجينة سهلة في يده ابنته صفية تشكلها كيف شاءت.

مرت الأيام رتيبة، ليعود من بعدها الدكش سيرته الأولى ملء السمع والبصر، يقضي سحابة نهاره عند الموردة، يتغزل في المارة، فشلت صفية في ترويضه، وها هي سعدية وقد عادت من جديد تفترش مندرة الحاج سعفان تنثر بين يديه منديلها، وها هو الاختبار ينعقد، وكبير العائلة ينفض غضبه، والمرأة تجلس في استسلامها، ووجوه القوم تشيعها وولدها بابتسامة مرة، تلى الرجل سؤاله بصوت متحشرج: واد يا رمضان تعرف السنة فيها كم شهر، والشهر إللي قبل رمضان اسمه إيه؟ .

 

 

مقالات من نفس القسم

عبد الرحمن أقريش
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

ألم