كريم عبد السلام: الشاعر بالضرورة أعمى

كريم عبد السلام
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

حاوره: حسن عبد الموجود

الشاعر المصري كريم عبد السلام أحد أهم الأصوات الشعرية في قصيدة النثر المصرية والعربية في موجتها الحديثة. منذ بداياته الأولى يحفر لنفسه مساراً خاصاً داخل القصيدة يبدأ بالجماعة الإنسانية وهمومها ومعاناتها وتطلعاتها وينتهي بفتح المجال أمام الوعي الجمالي بقصيدة النثر باعتبارها أكبر وأعمق وأشمل من قصيدة الاعترافات اليومية ومتلازمة الأشياء المتناهية في الصغر.

القصيدة عند كريم عبد السلام عموماً هي قصيدة الحافة، حيث الشاعر معنيٌ بتلك الذات المعذبة ولحظاتها القصوى، التي تجسد تراجيديا الوجود الإنساني في جوهره، من خلال لقطات مختارة من الواقع الخشن، أشبه بلوحات من السينما الإيطالية، إلا أن التوقف عندها قليلاً سرعان ما يكشف أن الإحالات الواقعية ما هي إلا باب لعالم جديد بين العقل والجنون، أو بين الحلم والواقع، عالم فيه من الصوفية وفيه من الرومانسية وفية من الأسى على مصير الإنسان الكثير.

أصدر كريم عبد السلام ديوانه الأول “الأب وقصائد المطر” عام 1993، وبعده توالت الأعمال الشعرية حتى وصلت إلى سبعة عشر ديواناً “بين رجفة وأخرى”، “باتجاه ليلنا الأصلي”، “فتاة وصبي في المدافن”، “مريم المرحة”، “نائم في الجوراسيك بارك”، ” قصائد حب إلى ذئبة”، “كتاب الخبز”، “قنابل مسيلة للدموع”، “أكان لازماً يا سوزي أن تعتلي صهوة أبي الهول”، “مراثي الملاكة من حلب”، “وكان رأسي طافياً على النيل”، “الوفاة السابعة لصانع الأحلام”، “ألف ليل وليل”، “شاي مع الموت”، “محاولة لإنقاذ جيفارا”، هنا حوار معه عن ديوانه الأحدث “أنا جائع يا رب”، ورؤيته للشعر العربي.

لماذا خصصت تيمة “الجوع” لديوان كامل هو “أنا جائع يا رب”؟

لم أكن أسعى إلى أن تكون تيمة غالبة على الديوان، لكني عندما أكتب أستغرق في حال الكتابة حتى تنقضي ثم أنظر في النتاج، وفي هذا الديوان، كتبت أولاً المونولوج الطويل الذي يحمل عنوان الديوان، ثم وجدتني أكتب التفاتات ولقطات وتنويعات على تلك الحالة التي استغرقتني، وظلت معي ما يقارب الشهرين المتواصلين، كنت أكتب يومياً صفحات عديدة ولا أنظر فيها، أكتب وأراكم حتى انتهت تلك الدفقة الطويلة ولم يعد لديَّ هواجس أو التفاتات ضمن هذا القوس، وبعد أسابيع بدأت أنظر في الأوراق والملفات المكتوبة، واستخلصت المقاطع المكتملة فأصبح في يدي الديوان كما تراه.

الشعر ينبع في ديوانك من المفارقات بين الفقر والغنى ومناجاة (البطل) للرب ودعائه بأن يمنحه روح حيوان أو عصفور..كيف خططت لاصطياد الشعر من قلب السواد الحالك؟

أنا أحلم بإلياذة معاصرة يكون أبطالها – عكس إلياذة هوميروس- من العامة والفقراء والمهمشين والجوعى، هوميروس وغيره من الشعراء الكبار الذين عبَّدوا مسارات الشعر الأولى، كانوا يكتبون سير الأبطال والقادة والأمراء والمشاهير الملك مينلاوس ملك أسبرطة وهيلين زوجته التي أغواها الأمير التافه باريس وأجا ممنون أخو مينلاوس وأخيل بطل الطرواديين، لم يسجل هوميروس سيرة الجنود ولا المحاربين المتطوعين الذين تركوا حقولهم ومحالهم وأسرهم وذهبوا إلى الموت دون كلمة واحدة، وأنا أثق تماماً أن هناك عشرات القصص لجنود ماتوا في تلك الحرب التي خلدها هوميروس وتركوا قصصاً أبلغ في قيمتها الإنسانية من إغواء باريس لهيلين زوجة مينلاوس، لكنها لم تُدوَّن لأن الملاحم القديمة كانت تُعنى فقط بالملوك والمشاهير والقادة.

هل الجوع هو أحد أصول المآسي الكبرى؟

الجوع كارثة إنسانية بكل المقاييس، ويشير إلى هزيمة اجتماعية وفردية، حال من الضعف والعجز، عجز في ما تقوم عليه النفس حتى تقدر على مكابدة الحياة ومشاقها وتجاربها، ولا يمكن أن تطالب إنساناً بأن يكون ملتزماً بأية قيمة أخلاقية أو اجتماعية أو قانونية وهو جائع، ولكن الديوان في نظري لا يتناول الجوع الفيزيقي الأولي فقط، هنا مستويات من الجوع الأولي والجوع الروحي، الهزيمة والانكسار وطلب الالتئام والجبر والعون، والدهشة أمام قدرة الإنسان على التكيف مع عناصر الواقع.

لماذا طالت قصيدة “أنا جائع يا رب”؟ هل تعتبرها صرخة الديوان؟

كما قلت لك، كانت هي البداية وكتبتها في ليلة واحدة دفقة واحدة، نَفَس واحد، ولم أنظر فيها إلا بعد فترة ولم أُضف إليها بل حذفت منها سطوراً وتركتها على حالها.

الساسة يحولون المجتمعات بسياساتهم إلى حفنة أغنياء وغالبية فقراء.. ما رؤيتك لحضور السياسة في الشعر؟

الشعراء الأصلاء لا يحتاجون لضبط الإحداثيات وقياس المسافة بين خيالهم وقضايا المجتمع الذي يعيشون فيه، ولا يحتاجون لمن يفرض عليهم أبوة من أسلافهم القريبين أو البعيدين، فالشعراء أمة وحدها بين الأمم تتلاقى عناصرها بعيداً عن الزمن ليتشاركوا شذرات المعنى واختراع اللغات وجواهر الخيال، دون انفصال بين تصنيفات السياسة والاجتماع والعلوم..

هل يحقق الشعر تأثيره من خلال إيلام الناس بالمشاهد القاسية كمشهد “العجوز بطرحتها السوداء”؟

الشاعر يقبض على مدخله للعالم فتتعين البديهيات من جديد، ويخترع لغة فتقوم ثورة ويتحرر بلد ويمتلك أطفال المدارس معنى الأمل، الشاعر لا يعرف السياسة لكنه غارق فيها لأن العناصر لا تنفصل، الشاعر بالضرورة أعمى يعرف أنه أعمى وسط عميان يخدعون أنفسهم، وهو ابن مجتمعه ومحيطه وليس عبداً لهما أو معلناً عنهما، وهو مطعون بحدسه وإدراكه وخياله وليس متباهياً بما يدرك، باختصار، الشاعر قصيدته مجتمعه وقضيته خياله ووطنه لغته المبتكرة.

صدَّرت الديوان بمقولة من كتاب التاو هي “السماء والأرض لا تعرفان الرحمة”.. لماذا؟

مست قلبي هذه العبارة، لأنها تلخص تراجيديا الشاعر على الأرض، الشاعر الذي يعرف أن الحياة تيار من القسوة والعنف والظلم، لكنه يندهش أمام كل جريمة ويصرخ: لماذا؟

تنتقد دائماً الدعوة إلى وصف قصيدة النثر الحديثة بأنها قصيدة التفاصيل الصغيرة.. لماذا؟

حتى هذه اللحظة التي نكتب فيها الكلمات، لم تتوقف الطريقة التي يتم بها إنتاج الأنماط المُتصوَّرة عن الشاعر والقصيدة الرائجة، ولعل سيادة نمط قصيدة النثر المعتمدة على اللغة التداولية وعلى التفاصيل والانطباعات الذاتية عن الذات الشاعرة في حركتها اليومية، يرشدنا إلى موضوع سيادة نمط الكتابة المشتركة في لحظة أو مرحلة معينة.

أخطر أشكال الوعي الزائف على الشعر والشعراء، سيادة النمط العام عن الشاعر وحركته ووعيه وسيادة النمط الجمالي عن القصيدة، والشاعر المعاصر يحتاج إلى الثورة على ذاته الغارقة في كليشيهات الشعر وعموميات القصيدة الرائجة، ولعل المحك الأساسي للشعراء الأصلاء يكون في تحدي النمط والخروج عليه واجتراح تصورهم الفردي عن القصيدة وجمالياتها، ومن ثم العمل على مشروع جمالي يخصهم وفردية خلاقة هي الباقية واللافتة وسط ركام الكتابات المتشابهة.

أصدرت أول ديوان وهو “الأبُ وقصائدُ المطر” عام 1993.. ما الذي تغيَّر في شعرك وفيك كشاعر طوال واحد وثلاثين عاماً؟

لا أدري، هل مر واحد وثلاثون عاماً حقاً؟ هل عشنا هذه السنوات التي مرت بنا؟ أشعر أنني في اللحظة نفسها التي كنت أستعد فيها لإصدار أول دواويني، لكني أدركت فقط أنه لا أحد يستطيع منع شاعرٍ من قول كلمته أو يستطيع الإضافة إليه، كما أدركت أني أبني لوحة فسيفسائية أو “بازل” من الأعمال الشعرية متواصلة ومتلاحقة تكمل بعضها بعضاً وتُشكِّل ملامح حلمي بكتابة إلياذة معاصرة أبطالها من العوام البسطاء المجاهدين في مواجهة أقدارهم ببسالة ودون أوهام.

ربما أنت أغزر شاعر في جيلك فقد أصدرت 17 ديواناً.. ما الذي تشير إليه الغزارة في أعمالك؟ هل هي هبة أم نتاج لتنظيم الوقت؟

الغزارة لا تشير إلا إلى أحلام صاحبها وهواجسه ومخاوفه وسعيه وغاياته، لديَّ الكثير من الصور والكلمات التي تضغط على رأسي، وأشعر أني أسابق الزمن لأضعها على الورق، أتمنى أن أفرغ منها، أتمنى أن أقول كلمتي، لديَّ أطنان من الكتابة ومشاريع دواوين ومخطوطات جاهزة للنشر ولا تزال الصور والأحلام تطاردني وتضغط على أعصابي بالكتابة ولا أجد مفراً إلا بالاستسلام للكلمات حتى أستطيع النوم.

لماذا تعتبر أن بيسوا أستاذك الأثير؟ ومن هم أساتذتك الآخرون؟

أحب عدداً كبيراً من الشعراء بدرجات متفاوتة.. أودن، بريخت، ريلكه، سيوران، هنري ميشو، نيكانور بارا، ويتمان، بوكوفسكي، تيد هيوز، فروغ فرخزاد. هم أصدقائي وخصومي المباشرين، سبقوني ووضعوا كلماتهم في موضعها، لكن فرناندو بيسوا أعطاني شيئاً آخر، يتعلق بالإخلاص الكامل للفن ومراجعة هذا الإخلاص بتجرد راهب بوذي، أنت تعرف أنك لن تنال أي شيء من وراء الشعر، لا شهرة ولا مكانة ولا مال ولكنك تعمل كالمحموم، كأن مصير العالم يتوقف على كلماته الحبيسة في خياله، لا بد أن تعطي كامل نفسك للشعر من أجل أن توجد، من أجل أن تحيا في سلام، هذه الأشجار التي تزرعها على جانبي الطريق أنت لن تعيش حتى تراها قوية وارفة مثمرة لكنك تفعل ذلك بحماس وجدية، دون أن تفكر للحظة، هل يمكن أن يتذكر أحد الشخص الذي غرس هذه الأشجار؟

من الشعراء العرب الذين تعتبرهم رواد قصيدة النثر؟

المفكر الفرنسي جاستون باشلار الرائد الأول لقصيدة النثر العربية، وكل الشعراء الكبار نهلوا من معينه الجمالي، وأعماله عن جماليات المكان والتحليل النفسي للنار وشاعرية أحلام اليقظة وعلاقة الماء بالأحلام وجماليات الصورة، كلها ذات منطق وتكوين شعري ويمنح الشعراء أفقاً جمالياً رحباً للإبداع ونظرة مختلفة للعالم.

من الشعراء الذين يعجبونك عربياً ولماذا؟

أحب صلاح عبد الصبور وبدر شاكر السياب وأنسي الحاج من الجيل الرائد وأحب سركون بولص وأمجد ناصر ورياض الصالح الحسين وزكريا محمد وبسام حجار من الجيل التالي وأقدر بشكل خاص محمد عفيفي مطر وحلمي سالم.

منذ سنوات طويلة نسمع عن صدور مختاراتك الشعرية “يا صورتي لدى الأعمى”.. أين هذه المختارات ولماذا لم تصدر؟

في عام 2003، قررت أن أُصدِر مختارات شعرية بمناسبة مرور عشر سنوات على مجموعتي الشعرية الأولى، التي صدرت في طبعتين الأولى بعنوان “استئناس الفراغ” والثانية في العام نفسه مزيدة بنصوص وقصائد جديدة بعنوان “الأب وقصائد المطر”، وتلاها دواوين “بين رجفة وأخرى”، “باتجاه ليلنا الأصلي”، “فتاة وصبي في المدافن” و”مريم المرحة”.

اخترت “يا صورتي لدى الأعمى”، عنواناً لمختاراتي الشعرية، وأعجبني جرس الكلمات وبناء العبارة واكتفاؤها بنفسها وتدرجات المعنى الذي استقر في خيالي وذهني، لكن المختارات ظلت في إحدى دور النشر ثلاث سنوات دون نشر، وفي عام 2013 تجددت رغبتي في صدور المختارات بمناسبة مرور عشرين عاماً على صدور مجموعتي الشعرية الأولى، لكن المختارات المغدورة ظلت في دار النشر الحكومية سنوات ولم تصدر، ودشنت صفحة على فيس بوك، بديلاً للمختارات بالعنوان نفسه “يا صورتي لدى الأعمى”، وضعت عليها دواويني الشعرية بصيغة الـPDF قابلة للتنزيل لمن أراد أن يطالعها أو يحتفظ بصورة منها.

وفي عام 2023، وبمناسبة ثلاثين عاماً على صدور ديواني الأول تغير الحلم وأصبح أكثر صعوبة لأني أردت إصدار الأعمال الشعرية في مجلدين، وكنت أمام خيارين إما إصدار الدواوين الجديدة أو مجلدات الأعمال الشعرية، واخترت إصدار ديوان “أنا جائع يا رب”، مع العمل على صدور مجلدات الأعمال الشعرية بأكثر من صيغة ورقية وإلكترونية وعلى مراحل.

أنت من الشعراء الذين لا يفصلون بين الشعر والهموم الاجتماعية والسياسية.. ما دور الشاعر في اللحظة الراهنة؟

العالم المجنون العدمي فاقد الإنسانية في أمسِّ الحاجة إلى الشعراء حراس الأحلام وصانعي المعنى، والحضارة الغربية أفلست تماماً وقيمها المادية وصلت إلى موت الإنسان والقبول بالبربرية والأشكال الهجينة والمسوخ واحتقار المعنى والعدوان عليه بكل أشكال التشوه والاختلال، كما أنها حضارة صراعية تعتمد العدوان قيمة حاكمة للحياة، ولذلك لا بد للغرب السياسي المهيمن على العالم من عدو، وإن لم يجد العدو يسارع إلى خلق عدو وشيطنته ثم إعلان الحرب عليه وتدميره واحتلال أراضيه واغتصاب ثرواته، وعلى الشعراء في هذه اللحظة الراهنة المقاومة بالكلمات والأحلام وتذكير الإنسانية بقيمها الحاكمة الأساسية وفي مقدمتها الحق والعدل والخير والمساواة والتسامح، اللحظة الراهنة تحتاج إلى جسارة الشعراء ليأكدوا إنسانية الإنسان في مواجهة الدمار الشامل.

هل تخشى على الشعر من الذكاء الاصطناعي.. وهل تستطيع الروبوتات كتابة شعر جيد؟

لا أظن أن الروبوتات يمكنها إنتج شعر جيد، الشعر الجيد ينبع من ذات إنسانية، والروبوت لا ولن يمتلك هذه الذات أبداً، مفهوم الذات الإنسانية شغل الفلاسفة وعلماء النفس منذ العصور القديمة، ولا تخلو فلسفة أو حكمة شرقية أو غربية من تعريفات متنوعة ومتباينة للذات، تتفق على مكونات ثلاثة، هي الإرادة والوعي والحس، باختصار، الذات الإنسانية هي تلخيص الكون والتاريخ والزمان، الذات الواحدة تضم جينوم البشرية وأحلامها وصراعاتها ومسار تطورها وانهياراتها ولحظات انتصارها وتحققها، ومن ثم فإن الذات الإنسانية هي الكون، وهي الوعي الكلي بالزمن بعيداً عن الاعتبارات النسبية من ماضٍ وحاضر ومستقبل.

وإذا كانت الذات الإنسانية بهذه الشساعة والاتساع، وإذا كانت بالمعظم لا تزال مجهولة بالنسبة إلينا، فهل يمكن مقارنتها بآلة من صنعنا، ندرك جميع تفاصيلها ومقدار المعلومات المخزنة فيها ومجمل حركاتها وسكناتها، واحتمالات التصرف المتاحة أمامها قياساً على ما خزناه فيها من برمجيات ومعلومات وأدوات للتحرك؟

هل الشعر مظلوم مقارنة بالرواية؟

الشعر مزدهر مصرياً وعربياً لكن الحركة النقدية لا تستطيع مواكبة الإبداعات الجديدة، وهناك اتجاه متوارث بالوقوف عند الرواد فيما يشبه السباحة في المياه الآمنة.

أخيراً.. هل فكرت في كتابة رواية أو سيرتك الذاتية؟

أنا لا أنشر إلا دواويني الشعرية ولا أجد نفسي ميالاً إلى كتابة رواية لأن كتابة هذا النوع الأدبي تحتاج إلى احتشاد من نوع خاص وإلى بناء وصبر وتوجه نفسي يختلف في ظني عن التوجه النفسي للشاعر.
 

مقالات من نفس القسم