خالد البقالي القاسمي
صدر عن المركز الثقافي للكتاب بمدينة الدار البيضاء بالمملكة المغربية كتاب “أنا أوسيلفي إذا أنا موجود”، ترجمة وتقديم المبدع المغربي “سعيد بنكراد”، الطبعة الأولى 2019، بمائتين وست عشرة صفحة، والكتاب في الأصل كان قد صدر سنة 2016 وهو للمؤلفة والفيلسوفة الفرنسية “Elsa Godart “، وعنوانه الأصلي Je selfie donc je suis”.
يحتوي الكتاب على ثمانية فصول وهو يتطرق إلى موضوع السيلفي، أو الصورة الذاتية التي أصبحت عنوانا بارزا وعلامة رائجة في تمرير العلاقات عبر صور متنوعة داخل الفضاء الأزرق، وهذه الصور في مجملها أصبحت تشكل شغفا لعدد كبير من الناس عبر العالم، وهي صور في أصلها في حالة وجود عائم، وبما أنها تنشر في الفايسبوك فإن وجودها يظل افتراضيا، بمعنى أنها راحلة، متنقلة، وغير مستقرة، لذلك فهي غير ثابتة، وقابلة للفناء عن طريق اكتساحها من طرف مثيلاتها، حيث إن توالي السيلفي بصيغ مختلفة، وأوضاع متباينة يحول تلك الصور إلى وجود مؤقت، وتظل تحمل في عمقها عناصر فنائها المستمر. ويوحي عنوان الكتاب بأنه يحاكي الوجود من خلال استلهام الكوجيتو الديكارتي، رغم أن خلفية هذا الكوجيتو الجديد هي افتراضية وقابلة للتواجد في العدم واللاشيء، فإنها تحقق على الأقل نوعا من الوجود في الزمن، ولكنه زمن عابر ومنفلت ويظل الوجود فيه عديم الرسوخ. واستلهام الكوجيتو الديكارتي هو فقط عبارة عن محاولة التواجد في دائرة الوهم الأنطولوجي. بينما الكوجيتو الديكارتي كان يراهن منذ البداية على إعادة بناء الوعي الذاتي بالوجود من خلال إعادة النظر في أدوات وشروط البرهنة عليه، إنه عبارة عن كوجيتو راسخ في الوجود عن طريق استناده إلى خلفية فكرية فلسفية رياضية متينة، ومبنية على صرح من الخبرة الإنسانية الشامخة. ” أنا أوسيلفي إذا أنا موجود ” محاولة لإعادة الاعتبار للذات عن طريق رسم معالم طريق واهية للصورة الذاتية، وقد قدمت المؤلفة ” إلزا كودار ” كتابها هذا بواسطة ثمانية فصول، كل فصل يتلمس سبيلا لتوضيح وتحليل الأنا وهي تتمظهر في صور السيلفي.
1- سبع قطائع كبرى:
تلاحظ المؤلفة تراجعا كبيرا في الاعتماد على الوسائط التقليدية في مقابل الإقبال المفرط على الانترنيت وغيره من الوسائط الحديثة، ثم انتفاء الفواصل بين الواقعي والافتراضي، وقد بدأت الوسائط الحديثة في بسط سلطتها على الجميع، وتحول المجتمع إلى شفافية تامة بسبب التواصل المفرط، وما زالت هذه الوسائط الحديثة تتطور بسرعة قصوى، حتى أصبح التقدم المعلوماتي محسوسا، وبات بإمكان الإنسان الآلي أن يخاطبنا ويتواصل معنا. يبدو لنا أن هذا العالم الذي أصبحنا فيه عبارة عن معادلة افتراضية يوجهنا نحو عوالم لا يمكننا بتاتا أن نتكهن بها أو بتأثيراتها على حياتنا الواقعية الفعلية.
2- ثورة إنسانية – إبدالات جديدة:
لقد أصبحت علاقتنا بالزمان والفضاء موضع تساؤل، وتؤكد المؤلفة على أن الشاشات التي نستعملها في التواصل بيننا هي التي سوف تباشر التصرف في تحديد عناصر علاقاتنا وشروط حياتنا. وهذا بدهي للغاية حيث نلاحظ أن الوسائل التي أصبحنا نوظفها في الاتصالات تخترق شفافيتنا وعمق حميميتنا.
3- ثورة ذاتية – تحولات الأنا:
تفسر المؤلفة كيف أن النظر إلى الأنا أصبح مغايرا لصيغه التي أثبتتها كثير من النظريات النفسية والاجتماعية، لأن الوسائط الحديثة غيرت طريقة إثبات الأنا وتحقيقها. ويبدو لنا أن الأمر قد أصبح ينظر إليه على أنه طبيعي للغاية أمام الاكتساح الذي تحققه وسائط الكينونة الافتراضية، ولذلك فإن الموضوع أصبح بحاجة ماسة إلى رؤية جديدة لماهية الأنا والوعي بالذات.
4- ثورة اجتماعية وثقافية – الهوية المتكلسة:
تقول المؤلفة: ” إن ظهور السيلفي… قذف بالمجتمع داخل مرحلة انتقالية شبيهة بتحول يمكن مقارنته بأزمة مراهقة مجتمعية ” ( الكتاب – ص.109 ). نقول نحن إن الهوية التي يمكن البحث عنها في الواقع الافتراضي تظل هوية ملتبسة بسبب أزمة الأنا المرتبطة بالكوجيتو الافتراضي الكسيح، ثم إن هذا الالتباس لا يشمل فقط علاقة الذات بذاتها، بل يتعدى ذلك إلى مساءلة علاقة الذات بالآخر القريب والبعيد، الافتراضي والواقعي، ومن شأن فتح هذه الزاوية في التفكير أن يدفع للجوء إلى تأسيس خلفية نظرية جديدة كفيلة بالالتفاف حول مجمل هذه الثقوب النرجسية.
5- ثورة إيروسية – إيروس في الممارسة:
تشير المؤلفة إلى أن السيلفي هو تعبير شبابي خاص بمجموعة يطلق عليها اسم جيل حرف Z الذي ولد بعد سنة 1995، وهو جيل سيبراني غارق في قلب تطورات تكنولوجيا المعلومات والتواصل، إنه جيل النيتية ( Net ) والافتراضي. هذا الجيل الذي تتحدث عنه المؤلفة هو جيل مقبل على متع الحياة بشتى أصنافها، جيل لم يعرف الحاجة أو الحرمان، ولذلك فهو منفتح على الحياة بجميع تلاوينها، ويسكنه الليبيدو حتى النخاع، ولذلك فإن كل سلوكاته يمكن إحالتها على الإيروس، لأنها كلها متعة غير منتهية، والسيلفي في جميع صيغه هو بالنسبة لهذا الجيل ولغيره في الحقيقة متعة إيروسية متجذرة، وتصل هذه المتعة ذروتها عندما يتم تقاسم صور السيلفي في الفضاء الأزرق، وكلما تقاسم السيلفي عدد كبير من الناس كلما كان الإيروس أقوى، والمتعة أشد.
6- ثورة باتولوجية – تاناتوس متوتر:
تقول المؤلفة: ” هناك الكثير من السيلفيات التي التقطت بجانب ميت، أو بجانب شخص بدون مأوى…. “. ( الكتاب – ص.151 ). إن الصورة المرضية التي تخفي في دهاليزها إعاقة نفسية تدل على تمظهر السلوكات المرضية من خلال السيلفي المضاف أو المركب، أي السيلفي الذي لا يكتفي صاحبه بالتأريخ لذاته أو أناه بل يقوم بمزج أناه بهوية غيرية تجعله يبدو في حالة سوية أمام مقربيه ومعارفه. إن التمييز في السيلفي بين السوي والمرضي شديد الهشاشة في حدوده، حيث السيلفي يظل أسير الذات، وبما أنه كذلك فإن المناطق الخفية في الذات لا تفصح دائما عن النوايا الحقيقية وراء السيلفي، حتما لن تكون المتعة هي باستمرار هدفا لمنتجي السيلفي، إن الشخص المصاب بإعاقة نفسية كيفما كان نوعها عصابا أو ذهانا سوف تكون سيلفياته بالتأكيد موبوءة، ويجب الحذر منها.
7- ثورة جمالية – من المرئي إلى الرائي:
تطرح المؤلفة ” إلزا كودار ” سؤالا: ” هل يمكن للسيلفي أن يندرج هو أيضا ضمن البحث عن الجميل ؟ ” ( الكتاب – ص.171 )، يعتبر هذا السؤال مثيرا لنا، فعندما نعود إلى العالم الواقعي، ونركز بالضبط على المجال الفلسفي حيث مبحث الجمال أو ” الأكسيولوجيا ” فإننا لا يمكن أن نعثر على أن هذه الوسائط الحديثة هي من جملة المعطيات الطبيعية أو الفنية التي تنتج الجمال، وهذا أمر عادي و لا يستحق البحث الطويل، لأن هذه الوسائط لم تكن في دائرة المتداول بالنسبة لمبحث الجمال في الفلسفة، فالجميل يمكن أن يظهر في الطبيعة بسهولة حسب الرائي، وعندئذ يصبح المرئي متجليا بجماليته أمام الجميع فيكون بذلك مقنعا. ثم إن الجميع لا يتساوون دائما في الحكم على الجمال الفني، إذ الحس الجمالي الفني عبارة عن ثقافة وإدراك وذوق، ولذلك فإن الرائي في الجمال الفني نسبي للغاية، والمرئي يظهر كفاياته الفنية الجمالية بدون مواربة، لكنه يبقى غير مقنع بالنسبة للجميع. والسيلفي يعتبر بالنسبة للذوات المنصهرة في ثناياه حاملا للبعد الجمالي طبيعيا وفنيا معا، حيث المرئي الذي يرى ذاته في السيلفي لا يكاد يميز بين النسخة والأصل، والرائي هو كذلك مثقل بالذات مجرور بحملها هو أيضا لا يكاد يميز بين الفراغ والامتلاء.
8- ثورة إيتيقية – الأنا في كل بدائلها:
تشير المؤلفة في الكتاب بقولها: ” إن الثورات التي عرفها العالم أحدثت تحولات جذرية في الأنا….. وتقتضي هذه الخلخلة التي قد لا تكون سوى في بداياتها، التفكير العميق في تبعات ممكنة على نمط كينونتنا وسلوكنا. نحن هنا بالضبط في حاجة إلى الاستعانة بالإيتيقا….. ” ( الكتاب – ص.187 ). نقول إن الصورة المنشورة في الفضاء الأزرق عندما تصبح معترفا بها بين الجميع بأنها عبارة عن سيلفي فعلي فإنها تصبح في العالم الافتراضي ذاتا جديدة محايثة للذات الفعلية، وكأن الذات أصبحت هنا ذاتا ببعد تركيبي، فهي ذات في العالم الواقعي، وفي العالم الافتراضي ذات أخرى، وكأنها انشطرت إلى نصفين، وتعيش ضمن عالمين، وتصدر في أفعالها وسلوكاتها عن إطارين قانونيين، واحد في الواقع وآخر في الافتراض، هنا بالضبط يبرز دور ” الإيتيقا “، لقد سبق أن أشرنا أعلاه إلى الحاجة الملحة إلى إنتاج قواعد جديدة للسلوك، إلى معايير أخلاقية تكون مؤطرة لأنواع السلوك الجديدة، بالإضافة إلى التفكير الدؤوب في إنتاج نظريات علمية ونفسية وفلسفية مختلفة للتعامل مع الواقع الجديد الذي فتحه الافتراض، لقد أصبح هذا الافتراض واقعا جديدا في حياتنا، وقريبا سوف يختلط علينا التمييز بين الواقع الواقعي، والواقع الافتراضي.
محاولة تحصيل:
يعتبر هذا الكتاب الذي عقبنا باقتضاب شديد على أهم مكوناته مساهمة جادة في مجال فهم السليفي، ومن خلاله سبر أغوار هذا العالم الجديد الذي أنتجته لنا الوسائط الحديثة، ومهما بلغت درجة الحرص على التزام الخصوصية والابتعاد عن هذا العالم فإن الجميع منغمس في مكوناته، حيث في اللحظة التي نعتقد أننا قمنا بتأمين أنفسنا من تداعياته المتنوعة نكتشف أننا أسرى إغراءاته الكثيرة، وأننا بوعي أو بدونه نغشى فضاءه الجذاب. وقد كان المبدع المغربي ” سعيد بنكراد ” موفقا للغاية في ترجمة هذا الكتاب ونقله إلى اللغة العربية والتقديم له، وقد فتح بذلك بابا ثقافيا معرفيا تواصليا ثمينا من شأنه أن يدفع شبابنا إلى تنظيم تعاملهم مع السيلفي والعوالم الافتراضية التي من المنتظر أن تترى في عالمنا وتنزع جميع خصوصياتنا، وتحقق بذلك أقصى درجات عولمة العالم بشقيه الواقعي والافتراضي.