صلاح باديس
بدأت مؤخرًا أهتم بالتخييم في الطبيعة، غالبًا في الغابات والشواطئ، في انتظار أن أجرّب الصحراء. أما التخييم فهو نصب الخيمة وإشعال النار والبقاء في مكان معيّن، وترافقه نُزهةٌ في المكان لجمع الحطب وربما بعض الأعشاب وملء المياه إذا ما كان هناك غدير، وغالبًا فقط لغرض المشي وفتح الرئتين على هواء الغابة وعطرها.
قبل هذا كنت شخصًا تربى في ضواحي المدينة، لا يتنقّل ولا يهتم بما هو خارجها، يعيش مثل أي صرصار من الطبقة الوسطى يحمي مسكنه ووسيلة تنقله بين الأماكن المغلقة. وكانت الغابة بالنسبة لي مكانًا بعيدًا يزوره الناس فقط عند تساقط الثلج، بما أن أغلب الغابات في الجبال.
ثم، وهذا سبب رئيسي، الغابة تنتمي للحقل اللغوي الواسع لفترة الحرب الأهلية في الجزائر. من يقول الغابة فهو يقول الإرهاب. وهذا ما فكّرت فيه عندما عرض عليّ أصدقاء أن نُخيّم للمرة الأولى، وهذا ما سمعته من أصدقاء آخرين عندما عرضت عليهم بدوري التخييم.
بدأ التخييم ربما، كهواية وممارسة، لدى الشباب في الجزائر منذ سنوات قليلة فقط، دعنا نقول منذ عقد من الزمان، أي بعد سنة 2010. الأكيد أن التخييم في الشواطئ، في فصل الصيف، لم يتوقف، لكن العودة إلى الغابة أخذت وقتًا.
*
يفتح “المنظر” أمام الكاتب فرصًا ومساحات واسعة للكتابة. تلاقي الزمن بالفضاء الخارجي، الهروب نحو التضاريس طبيعيةً كانت أم عمرانيةً، مُساءلة الأفُق في بلاد أغلب من يعيشون فيها نظرتهم مُعلّقة بالأفق.. كل هذا يمنح من يكتُب فرصةً ومسافةً كافيةً للتجريب. الاقتراب من الجغرافيا والخريطة خلال الكتابة لا يعني بالضرورة تكريس الكتابة لوصف المناظر، فنحن لا نكتُب دليلًا سياحيًا ولا نُروّج للحياة في منطقة ما، بالعكس.. هنالك قصص وأشعار تحدث بالكامل في الطبيعة ولكننا لن نقرأ سوى عن “مناظر داخلية” للشخصيات، تُحيلها إليها الطبيعة.
ليست الغابة، وحياة التخييم الآخذة في الانتشار مؤخرًا بالجزائر، سوى مثالًا من بين عشرات الأمثلة لمواضيع المتروكة جانبًا، بل وغير المرئية في بعض الحالات، لصالح مواضيع “تاريخية” تُعني بترتيب أوراق مكتبة الرواية الرسمية للسلطة، بدل ما تحرقها.
*
ليست كل كتابة أدبية تاريخية سيئة بالضرورة، لكن الروايات التاريخية التنقيحية والتحريفية، التي تزوّر الماضي لتأكيد السردية الوطنية وما شابه، ليست سوى فقاعات حكائية لا طائل منها.
لا تكاد تحضر الجغرافيا في الأدب الجزائري، المكتوب بالعربية أو الفرنسية، سوى كاستعارات وتشابيه لغوية فارغة تعبّر عن الجمال أو البؤس. فهناك القرية المهمّشة، والشاطئ الساحر، والصحراء التي يهرب إليها الأبطال لينسوا، والجبل حيث الذاكرة البعيدة، والوديان التي لا نعرف لماذا هي هنا. ولا يعني غياب الطبيعة أن المدينة حاضرة، فشخصيات أغلب القصص والروايات القادمة من الجزائر لا اسم للحيز الذي تتحرّك فيه.
*
مثل السينما والصحافة، وُلِد الأدب في الجزائر كردِ فعل ضدّ الاستعمار، كثورة سبقت الثورة الكُبرى بسنوات قليلة. وُلِد بلغة المستعمر، يحمل مشاكله معه ونبوءاته بما سيكون عليه الحال في المستقبل. من الصعب إلى اليوم على النّاس قراءة أشياء لا “نضال” فيها، بعد أن عوّضت هذه الكلمة كلمة “الكفاح”. من الصعب على أغلب من يكتُب اليوم، في هذه البلاد، ألاّ يشعر بإلحاح خلق سردية جديدة لتاريخ البلاد، مُهمِلا في سبيل إنجاز مهمته النبيلة هذه أن يُساءل ويفكّر في اللغة والشكل والمواضيع الأخرى، مُهمِلًا أن يتروّى ويُفكّر قليلا في تقدّم القطارات أو تراجع موجة البحر.
*
درس شوقي عمّاري الجيولوجيا قبل أن يلتحق بالصحافة المُفرنسة ليصير رسّام كاريكاتير وكاتب تحقيقات وأعمدة ساخرة. أول كتاب قرأته لشوقي، الذي ألّف في القصة والرحلة والرواية والربورتاج الصحفي، هو الطريق الوطني 1 (2007). كل نصوص شوقي تنطلق من رحلة أو سؤال فيزيائي، شخصياته هيئات ساخرة أكثر منها تمثيلات لأشخاص من لحم ودم. لغته الفرنسية المعروكة بالكتابة اليومية في الصحافة أوْجَدَتْ سلالة وركاكة قبل ظهور شبكات التواصل الاجتماعي، لتسرُد غرابة وعبث جزء كبير من الحياة في الجزائر. في الطريق الوطني 1 يسافر شوقي مع صديقه من العاصمة إلى حدود النيجر مع الجزائر، في أطول طريق في البلاد (2335 كيلومتر) ويسرد لنا المناظر واللقاءات.
أما في الحمار الميت (2014)، التي تستلهم عنوانها من أول رواية جزائرية وربما عالمية الحمار الذهبي لـأبوليوس أو أفولاي باللغة البونيقية، القرن الثاني قبل الميلاد، حيث تُنطق بالفرنسي لان دور L’Âne d’or، وعند شوقي تصير لان مور L’Âne mort، نسافر مع شخصيات شوقي الهاربين من العاصمة إلى جبال منطقة القبائل بسيارة تمشي ساعة وتتوقف ساعة، وفي صندوقها حمار ميّت يجب دفنه. تتساءل الشخصيات، في طريقها نحو القمم، عن الجاذبية والحُب وما هو أقرب طريق لتحصيل المال في الجزائر.
*
تكاد مسألة الشكل الأدبي تكون غير حاضرة في الجزائر. ففي غياب “حقل أدبي” بكل ما يتضمنه من سوق نشر وصحافة مُرافقة ونقّاد، يجدُ الجزائريون والجزائريات أنفسهم يتسوّلون النشر، لمن لا يريد أن ينشر في دور نشر جزائرية مغمورة لا تُوزّع، في المشرق عند من يكتبون بالعربية وفي فرنسا عند من يكتبون بالفرنسية. كل هذه الرحلات التي يقوم بها الكاتب للوصول إلى “موائد الآخرين” تجعله يتنازل عن كثير من الأشياء وإنتاج نصوص مسطّحة: يتنازل عن لغة تخصّه، بل لا يعمل حتى على إنتاجها، فإمّا عربية فصحى مشتركة كي يفهمها الجميع أو فرنسية بيضاء من غير تفاصيل وتراكيب قد تخرج من ازدواجية لغته. ومن حيث الشكل، ينشر الجزائريون بشكل حصري، تقريبا، روايات لا تُزاحمها إلاّ فيما ندر القصص والقصائد والنصوص الحرّة؛ بل لا تكاد تجد أسئلة عن الـFiction والـNon-Fiction، أي الكتابات التخييلية وغير التخييلية. الكثير من التفاصيل المهمّة تضيع في طريقك كي تنشر عند الآخر، كي يستقبلك في حقله الأدبي، مُفردًا لك سريرًا في غرفة الضيوف. لذلك لا “ينجح” الجزائريون سوى بروايات مسطّحة اللغة والشكل، عربيًا وفرنسيًا، وكل مواضيعها تقع في إطار “التاريخ السياسي” للبلاد.
*
الأفُق في اللغة هو خط دائري يرى فيه المشاهد السّماء كأنها ملتقية بالأرض، ويبدو مُتعرّجا على اليابس ومكوّنا دائرة كاملة على الماء. وعودةً إلى فكرة تلامس المنظر الخارجي مع دواخل الإنسان، والشخصيات الأدبية، تقول الآية القرآنية: “سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم”. أمّا في اللغة اللاتينية فيعني فعل horizein “تحديد”، وجاء من كلمة horos وتعني “حد”. ومنها جاءت الكلمة الحديثة horizon التي لم يكُن لها معنى في علم الفلك القديم سوى: ما يحدُّ الرؤية.
*
قبل سنوات، بدأت مع صديقتي المترجمة والشاعرة لميس سعيدي، بترجمة عدد من الشاعرات والشعراء الجزائريين الذين كتبوا بالفرنسية، من الستينيات إلى التسعينيات. كانت ترجمة آلية، دفعنا إليها اكتشافنا لهاته القبيلة الواقعة في منزلة بين المنزلتين، بين الجزائر التي لا تقرأ شعرهم، ولا تطبعه في أغلب الأحيان، وفرنسا الحل والمشكل في الوقت نفسه، حيث إنها تطبع كتبهم وتمنح بعضهم اللجوء والخلود المؤقت بعد الموت ولكنها، لأنها هي، تجعل لهم عظامًا في ألسنتهم التي يقولون بها الشعر.
الفكرة التي توضّحت مع الوقت، وواصلت فيها لميس لاحقا بدأبٍ وذوقٍ عالي تُجاه اللغة، هي نقل الحساسية الشعرية التي صنعها شعراء بلدٍ، لم تكُن نُخبه التقدمية وقتها تُتقن اللغة العربية، إلى اللغة العربية التي نكتب فيها هي وأنا وأغلب الأجيال الجديدة اليوم.
مُحاولين الإشارة إلى دروب موجودة، ولكن قليلين جدًا من اهتموا بها وقلّة منهم مشوا فيها، ترجمت لميس آنا جريكي المجهولة، ورابح بلعمري ويوسف سبتي ويامينة مشاكرة ومالك علولة، في حين اهتممتُ أنا بـجان سِناك وحميد سكيف وآخرين.
جان سِناك، ابن العاملة الإسبانية من وهران والولد الذي لا يعرف أباه ويصاحب العرب، كان في قصائده الغزيرة، خاصة تلك التي كتبها بعد الاستقلال، يُسمّي كل ما تقع عليه عينه، من اللامرئي إلى الملموس، من المشاعر والحركات إلى التضاريس والجغرافيا.
تقول الباحثة الفرنسية هيلين بْلي، في كتابها سرابات الخريطة: اختراع الجزائر الكولونيالية، إن الطوبوغرافيين الذين رافقوا الحملة الفرنسية بعد 1830 إلى الجزائر، كانوا متأثرين بالتغييرات التي حملتها الثورة الفرنسية إلى مجالهم: تسمية تضاريس الإقليم حسب ما فيه من وديان وعيون وجبال إلخ لتعويض أسماء النبلاء والدوقات والأمراء التي شاعت لقرون. وكذلك فعلوا مع إقليم لا يعرفون له شكلًا ولا اسمًا، وقضوا عقودًا يخترقونه ويرسمونه ويطلقون عليه أسماء أجنبية أو أسماء تتعلّق بالوديان والجبال القريبة بعد أن حطموا نظام القبائل والعروش ليجرّدوهم من أراضيهم.
سِناك كان يُدرك كل هذا، ولذلك كان مُهمًا بالنسبة إليه أن يُعيد تسمية الأماكن في قصائده، ولأنّ الشعر ليس صورة واسما فقد كان سِناك الشاعر الجزائري ذي الخط الفرنسي، كما سمّى كل من يكتب بالفرنسية، يصفُ لنا بهاء الألوان والطبيعة في كل أكثر من مكان، من “الحاجز الحجري لشاطئ بولوجين” وحتى “الآن ولأجل أولادنا أقول لون طولقة/ ذاك الأزرق الذي جاء يدُقّ على نافذتنا/ ليس أزرق البحر ولكنه سرير أعمق/ لأجل تسالي الروح البسيطة/ وقلبنا، مثل لحاف، فرشناه على هذا الأزرق/ (انظري، إنه يلمع !)/ الابتسامة الزرقاء لطولقة من بين أطلالها ونخيلها“.
*
ورغم الحضور الجغرافي لفعل “نزع الاستعمار” منذ عقود، على المستويين الجماعي والفردي، لكنه شبه غائب تقريبًا عن أي خطاب أدبي. وحتى أنصار مذهب “كفانا حديثًا عن الاستعمار ولنلتفت إلى حاضرنا ومشاكله”، لا نجدهم يهتمون بالجغرافيا التي يعيش فيها الإنسان، بقدر اهتمامهم بتحليل توجهاته وأسئلته ومُسلّماته. فمثلا: الجميع يتحدّث عن ثنائية الدين والعلمانية ولكن لا أحد تقريبًا يذكر الحيّز العام الذي يلتقي فيه المتديّن والعلماني. الجميع يتحدّث عن حرية التعبير والديمقراطية ولكن قلّة من تذكر سياسات الفضاء العام والقوانين المقيّدة له. الجميع يتحدّث عن كيف أن الجزائريين غير متحضّرين ولا يستحقون مدنهم الهوسمانية في حين قلّة من تطرح للنقاش سياسات الإسكان. الجميع يتبارى في السبق للقول من هو الشرير ومن هو الطيب: الدولة ظالمة ومرتشية أم الشعب مش متربّي ولا متحضّر؟ ثورة ثقافية أم ثورة سياسية؟ أبيض أم أسود؟ ولا أحد ينظر إلى الأرض التي نقف عليها.
*
تُعتبر الجزائر بلدًا ريعيًا، يعتمد في اقتصاده ومنذ عقود، على تصدير المحروقات بشكل أساسي. الغاز والبترول هما الضرع الذي ترضع منه الدولة. تقع آبار البترول والغاز في الجنوب، على بُعد مئات الكيلومترات، والآلاف في بعض الأحيان، من الساحل والمدن الكبرى في الشمال. لكن لأسباب تتعلّق ببنية المجتمع وطبيعة الدولة وطريقة توزيع الثروة، لا تُعتبر الجزائر بلدًا نِفطيا (يجب القول، أيضا، إنها لا تُنتج بقدر ما تُنتج دولة كالسعودية) ولكن رغم هذا تبقى كلمة البترول من أكثر الكلمات ترديدًا وشيوعًا في المخيّلة الجمعية. لكن لن نجِد أثرًا لكل هذا في الأدب، هذا ما نبّهتني له زميلتي في الكتابة منى كريم خلال نقاش حول الجغرافيا والكتابة. لن تجد أثرا للبترول في الأدب، لا كواقعية اشتراكية تُرسل أبطال الروايات للعمل في آبار البترول حيث تدور مكائد الشركة الوطنية الكبرى والشركات الأجنبية، ولا كرواية انطباعية تُرسل البطل للعيش في “قواعد الحياة” المعزولة عن العالم، ولا كخيال علمي يُحقّق الجملة الشهيرة للجزائريين عن حاسي مسعود عاصمة النفط “هل تعلم أنّ حاسي مسعود، من كثرة استخراج البترول من تحتها، صارت مدينة تقف على الفراغ”.
*
عن ماذا يكتب الجزائريون إذا لم يحاولوا، مع كل كتاب وفيلم، إعادة رسم تاريخ البلاد القصير نسبيا والتنافس في تكذيب هذه النسخة أو تلك؟ هل يستسلمون لشساعة خريطة بلادهم، ويكتب كل واحدٍ عن مدينته أو ضاحيته؟ يخاف الجزائريون من كلمة “الجهوية”، رغم وجودها في كل مظاهر حياتهم من الموسيقى إلى الأكل واللباس، لكنها على مستوى الخطاب الرسمي منبوذة، على الجميع أن يكون مثل الجميع، ولا مجال للاختلاف أو التفاوت. ربما لهذا يعجز الكثيرون عن تخيّل أدبٍ جهوي، يخرج من تشابه المنشأ والجغرافيا والثقافة السائدة في جهة ما.
*
هنالك نظرة معلولة مفادها أن الجزائر العاصمة هي المركز، وبقية البلاد أطراف وهامش ومناطق ظل كما تسمّيها الحكومة التي وُلِد نظامها منذ الاستقلال إدارة يعقوبية، تراكم المال والسلاح وسلطة اتخاذ القرار في العاصمة، ويتجاهل الكثيرون أن كل هامش هو مركز له هوامشه وهكذا.. وكان لي الحظ أن أتناقش مع أصدقاء وقرّاء لقصصي وقصائدي، حول تفريقي بين وسط العاصمة وضواحي هذه الأخيرة التي أنتمي إليها، حيث لم يفهم البعض لماذا أرسم خريطة كل مرّة أقصّ فيها قصة، في حين أنّ الأغلبية تعتبر كل ما يدخل في لوحة ترقيم 16 عاصمة ومركزًا.
*
“ليس التفكير خيطًا ممدودًا بين الموضوع والشيء، ولا ثورة لأحدهما على الآخر. يحدث التفكير في العلاقة بين الإقليم والأرض (…) هما مركبان، الإقليم والأرض، بمنطقتين لا يمكن تمييزهما، نزعُ توطين الإقليم من الأرض، وإعادة توطين الأرض في الإقليم. لا يمكننا الجزم بمن يأتي أولًا“. هذا ما كتبه كل من جيل دولوز وفيلكس جواتاري في كتابهما ما الفلسفة؟ (1991).
“نزع التوطين” مصطلح صاغاه معًا، سنوات قبل نشر كتابهما هذا، ويعني نزع مفهوم من سياقه وإعادة توطينه في سياق آخر بشكل يسمح بتفعيل السياق الجديد. وباختصار مُعيب، يمكننا وصف استعمال أداة من الزراعة في مجال الطب، أو مفهوم من الفلسفة في مجال السينما، كنزع وإعادة توطين. ويُمكن القول، في حالتنا الجزائرية، إن الأرض (أو ثامورت كما تُنطق بأمازيغية القبائل) لها حضور كبير ورمزي عند الناس، لكن الإقليم، والحركة فيه، يخضع بالكامل لسيطرة الدولة وريثة جبهة التحرير التي حرّرت الأرض وصادرت الإقليم. وهنالك هُوّة كبيرة في الواقع، وفي تمثيله الفني، بين الأرض والإقليم.. ونحن، ربما، في انتظار حدوث شيء في “المنطقة التي لا يُمكن تمييزها”: إعادة توطين الأرض في الإقليم.
*
يُنبّهني صديقي الموسيقي والباحث أن “الصّح” حول المختلف عليه في تاريخ موسيقى بلاد المغرب، والعالم عمومًا، تجده في تعليقات يوتيوب. ذلك الهامش، الذي يُذيّل الأغاني ويُثني فيه، غالبًا، المعلّقون السمّيعة على المغني ويذكرون بلدهم ويوجهون تحية إلى فلان، هناك تُطرح الأسئلة والأجوبة وتختلط حتى يخرج “الصّح”. وما عدا المعارك الطاحنة بين الجزائريين والمغاربة حول أصول أغنية راي أو مغنٍّ ما، وجد صديقي الكثير من المعلومات الصحيحة حول حياة مغنٍّ مغمور، أو حول واقعة ما كُتِبت بسببها القصيدة الفلانية.
دائما على يوتيوب.. وفي الكثير من أغاني الرّاي، نجدُ أصحاب الحسابات غير الموثّقة، المولعين الهُوّاة، يحمّلون الأغاني النادرة والقديمة بصيغة MP3 ثم يستعملون خيالهم لتصويرها. هنالك مثلا قناة تسمّى Dubisababa تضع خريطة وهران كصورة لنصف فيديوهات أغاني الرّاي. خريطة بلون زهري فاتح، مكتوبة بالفرنسية وتصوّر الطرق والأحياء، خريطة عامّة وليست خاصّة بالموسيقى، بل تصوّر الإقليم الذي خرجت منه الموسيقى. وهنالك آلاف القنوات الأخرى التي تُصوّر الإقليم نفسه، صورٌ كثيرة ليست لمدينة وهران فقط، بل لباديتها كلّها حيث نرى مساحات خلاء ترعى في الأغنام أو أكياس البلاستيك التي تلوّث الطبيعة ونرى أيضا شوارع القرى البائسة والمقفرة، نرى صورًا لمركبات يعشقها سكان الأرياف غرب الجزائر: بيجو 505 طويلة صفراء، شاحنات K66، دراجات نارية بيجو 103. نرى أيضا ديارًا تشارف على الانهيار وطبعا عمارات السكنات الاجتماعية التي تبيعها الدولة بالكراء وتُمثّل لوحدها قمّة “جماليات المعمار الجزائري” في القرن الـ 21.
لطالما حملت أغاني الرّاي تضاريس مؤدييها والإقليم الذي تدور فيه. فإذا لم يذكر المغني الحيّ الفلاني، أو قهوة فلان على الشارع الرئيسي لمدينة كذا، لن يفوته توجيه التحية لثُلّة من الأصدقاء والأحباب في القرب وفي البُعد. سواء من ناحية النصوص وذِكر الناس وأشياءهم وخريطتهم التي يتحركون فيها، أو من خلال الموسيقى نفسها التي يُسمّى أحد مقاماتها: التراب، دائمًا ما يرسم الرّاي خريطته.
هل يعني هذا أن كل من يكتب عليه أن يستعمل الجغرافيا ويحدّد خريطته المطابقة للإقليم ليحصل على اعتراف ما؟ لا، هناك خرائط متخيّلة وعوالم لا وجود لها ولا تحتاج إلى خريطة. الأدب ليس تأكيدًا وهمزة وصل بين الإقليم والخريطة. لكن الجغرافيا تعلّمنا التحرّر من فكرة النوع أولًا.
*
هل تكون الجغرافيا بديلا للتاريخ؟ ليس بالضرورة.
*
يُمكن للجغرافيا أن تُكذّب التاريخ، أو تفضحه، أو تصحّحه وفي أفضل الأحوال تتجاوزه.. كما يحدث دائما في أفلام التشيلي باتريسيو جوزمان، ثلاثيته نوستالجيا إلى الضوء (2010)، زرّ اللؤلؤة (2015)، جبال الأحلام (2019) تدور في مساحات سردية شائكة ومتوقّعة من مخرج في بلد كالشيلي.
فهذا البلد الهانئ منذ بداية القرن العشرين، بعد قرون من المجازر في حق السكان الأصليين، غالبًا ما يُلخّص تاريخه الحديث في محاور رئيسية: ثورة اشتراكية فوصول سلفادور آليندي للحكم ثم الانقلاب عليه سنة 1973 وبداية دكتاتورية عسكرية يقودها بينوشيه ومن خلفه أمريكا والـشيكاجو بويز، ثم مجيء الديمقراطية، ثم فتح ملفات المخطوفين والتعذيب وتحويل الجنة إلى جهنم ثم مقولة “الشيلي هي جنة النيوليبرالية”.
زخمُ حياة كامل، تختصره العين الأجنبية في ثلاثة أسطر.
نفس الشيء مع الجزائر مثلًا، احتلال فرنسي ثم الثورة فالاستقلال ففشل التجربة الاشتراكية فصعود الإسلاميين والحرب الأهلية ثم سنوات الركود وتحت كل هذه الأحداث يجري نهرا الدم والبترول. عودة إلى جوزمان، ولنفترض أنه لاعب كرة قدم، ليس يختار ملعبه، وكرته هي ذكريات الطفولة الهانئة ثم الشباب الثوري قبل بينوشيه ليس لديه الكثير ليعجنه في هذا التقاطع بين الخاص والعام، ولكن جوزمان فنان شاطر، رسم في أعماله كلها وبالخصوص في هذه الثلاثية أجمل خطوط انفلات في السينما اليوم، وقام بأجمل التسديدات. الفيلم الأول عن صحراء أماكاتا في شمال البلاد، الثاني عن المحيط الهادئ، الثالث عن سلسلة الجبال التي تفصل البلاد عن القارة.
*
هنالك كاتب لا يُسهِبُ في وصفِ منظر خارجي، ولكنّ ما يُقدمه من كلام مُقتضب يكفي لإشاعة حالة الجو في القصة، كما توجد كاتبة لا يُمكن رؤية شخوصها كأشخاص بل كمجموعة من المشاعر المكثفّة، هيئات مُلوّنة أكثر منها ذواتًا، ولكن من خلال الاقتضاب واللاّ وصف وعن طريق الهيئة لا الذات، نشعرُ كقرّاء بخريطة وجغرافيا كاملة تكمُن تحت اللغة وفي عمل هؤلاء الكُتّاب؛ هنا تظهر الجغرافيا والخريطة كورشة أدبية كُبرى.
الخريطة بشكل خاص، والجغرافيا بشكل عام، ليست تسجيلًا دقيقًا وأمينًا لتضاريس طبيعة أو مدينة فقط. الكتابة كخريطة هي بحثٌ فيما هو أعمق، قد تسكُن الخريطة اللغة. أو قد تكون تسجيلا أمينًا لواقع ما ولكن إسقاطه يكون في الفانتازيا أو في الجحيم.
وفي نهاية القرن 16 حَسَب الفلكي جاليليو مساحة الجحيم في ملحمة دانتي الإلهية مُعتمِدًا على إشارة هذا الأخير لنصف قُطر الجحيم في قصيدته، ليجد أن مساحة جحيم دانتي هي نفسها مساحة فلورنسا، مدينة دانتي التي نُفِي منها.
*تنتمي هذه الشذرات لمشروع، قيد الكتابة، عن الأدب والجغرافيا في الجزائر.