محمد نجيب
غلاف الرواية الكورية
” غابة مظلمة . لا يوجد أحد . أوراق الشجر مدببة الأطراف , قدمي مشققة . أكاد أتذكر هذا المكان لكن أنا تائهة الآن . مرعوبة . أحس بالبرد . عبر الوادي المتجمد أرى مبنى أحمراً يشبه الكوخ . تنسدل حصيرة من القش على الباب . لففتها إلى أعلى و دخلت . في الداخل , كانت عصا طويلة من البامبو مُلطخة بدماء غزيرة تقطر منها و تتناثر قطع من اللحم من أعلى . حاولت التراجع إلى الوراء لكن لا نهاية لقطع اللحم و لا سبيل إلى الخروج . الدماء تملأ فمي و تلطخ ثيابي و تنفذ منها إلى مسامي . “
لا تحذير يمكن أن يجهز القارئ للصدمة التي ستنتابه عندما يقرأ رواية هان كانغ ” النباتية ” الرواية التي فازت بجائزة المان بوكر الدولية عام 2016 . عندما تُمسك بالرواية و تقرأ العنوان و تلقي نظرة سريعة على السطر الأول منها ” قبل أن تصبح زوجتي نباتية , كانت إنسانة عادية تماماً في كل شيء . ” قد تعتقد أن أقصى ما يمكن أن تناقشه الرواية هو تحول الشخصية الرئيسية للنباتية msinairategeV . لكن ستفاجئ بأن لا نهاية للأفكار المرعبة التي تطرحها هذه الرواية الغريبة و المخيفة .
تبدأ قصة فرانز كافكا الأشهر على الأطلاق ” التحول sishpromateM و قد طرأ التحول بالفعل على الشخصية الرئيسية للقصة . يسيتيقظ جريجور سامسا من كابوس ليجد نفسه و قد صار حشرة عملاقة . هذا التشوه الجسدي مثَّل مجازاً للمرض و الإعاقة و رفض أسرته له . تقرر الأسرة أن تحبسه في حجرته حتى يموت وحيداً منبوذا مشوهاً و عديم القيمة . في قصة كافكا السودادوية , التحول المثيير لا يؤثر فقط على جريجور بل تمتد أثاره على العائلة ككل و الحشرة العملاقة التي تحول إليها لم تكن الوحش الحقيقي في القصة .
التحول قصة قصيرة تتحدث عن تحول شاب إلى حشرة كبيرة
جدير بالذكر هنا أن بالإضافة لقصة التحول و علاقتها الواضحة برواية النباتية , فأن أسلوب الرواية يذكرنا بقصة الفنان الجائع لكافكا فيما يتعلق بإجبار الذات على رفض الطعام لدوافع ذاتية و نفسية . كما أن كافكا نفسه قد يكون أشهر نباتي في تاريخ الأدب فهنالك قصة شهيرة تحكى عن أن كافكا قد وقف أمام حوض أسماك و خاطب سمكة قائلاً : ” الآن يمكنني أن أنظر إليك بسلام فلم أعد أكل اللحم بعد الآن . “
كتبت هان كانغ روايتها النباتية بنفس الأسلوب الكافكاوي إذا جاز التعبير . تدور الرواية حول امرأة في الثلاثينيات من عمرها تدعى يونغ – هي التي تستيقظ من حلم مروع لتجد نفسها عاجزة عن تقبل أكل اللحوم . نفورها من اللحم يمثل رغبة في تطهير نفسها من العنف و القسوة التي أجبرت على تحملها طوال حياتها . لكن بالنسبة لمن يحيطون بها تحولها المفاجئ لنباتية جعلها تبدو في أنظارهم كائناً غريب الأطوار و متوحشاً .
أحد أغلفة الطبعة الأنجليزية الفائزة بجائزة المان بوكر الأدبية عام 2016
يرفض الزوج أن يتعامل مع حالة زوجته على أنها مرض في حاجة للعلاج رغم هزالها الشديد و الأرق الذي بدأت تعاني منه . يقول ” لا شيء خطأ فيها . ما تمر به ليس حتى مرضاً حقيقياً . ” يصمم الزوج على استعادة التحكم في زوجته و يستخدم العنف الجسدي و الجنسي كي يجبرها على التصرف ب ” طبيعية ” من جديد في مشاهد قاسية و صادمة و تطرح الكثير من الأسئلة . لكن حين يؤدي سلوك زوجته لإهانته في عشاء عمل يلجأ لوالدها القاسي كي يتدخل . و لابد أن نذكر هنا أن جزء كبير من الأدب الكوري يركز على هذه العلاقة المعقدة جداً بين الأباء و الأبناء فالأب الكوري يعاني في الأغلب من ازدواجية في الشخصية فهو من جهة ضحية لقسوة المجتمع و ما مرت به كوريا من مآسي متعاقبة خلال القرن العشرين من احتلال ياباني و حروب و تقسيم ثم عمل شاق لبناء اقتصاد قوي و من جهة أخرى شخصية عدوانية يصب جام غضبه و ألالامه الشخصية على زوجته و عائلته .
و هنا يأتي أحدى أهم مشاهد الرواية و ربما أشدها قسوة حين يعتدي الأب على ابنته في اجتماع للعائلة . ” ضربها بشدة لدرجة يمكنك معها رؤية الدم من خلال خديها . ” ثم يحشر قطع اللحم بالقوة في فمها . لكن يونغ – هي الشديدة الضعف ترفض بإصرار و قوة رهيبة من المستحيل معرفة مصدرها أن تأكل اللحم . ثم بدافع من اليأس , تلتقط سكيناً و تمزق شرايين معصمها على مرآى من عائلتها .
مشهد من الفيلم المقتبس عن الرواية لاجتماع العائلة
شخصية يونغ – هي و أن كانت على السطح امرأة ترفض أكل اللحوم و ترغب أن تكون نباتية في مجتمع يعشق اللحوم إلا أننا إذا تأملنا شخصيتها بدقة سنجد أن دوافعها أعمق من ذلك بكثير . فامتناعها عن الأكل هو صرخة لا تنتهي في وجه العنف الأبوي و الذكوري و الإنساني بشكل عام . صرخة في وجه الرفض المجتمعي لأي اختلاف . و بذكاء شديد تلقي الكاتبة بين طيات الرواية سؤالاً : هل من المفترض كقراء أن نتعاطف مع يونغ هي أم لا . هل نتمنى نجاتها أم موتها ؟ و تسأل على لسان بطلتها ” لماذا الموت أمر سيء ؟ “
لا تكتفي هانغ كانغ بالتركيز على شخصية البطلة بل تتجاوز ذلك لتظهر أثر هذا التحول على حياة عائلتها فالرواية مقسمة لثلاثة أجزاء يرويها ثلاثة شخصيات مختلفة : زوجها و زوج أختها الكبري و أختها الكبرى نفسها .
في الجزء الأول كما ذكرنا يرفض زوجها هذا التمرد و يعتبره إهانة لذكوريته لذا لا يكف عن الاعتداء عليها و اغتصابها لأكثر من مرة ثم في النهاية يطلقها معتبراً نفسه الضحية لتنتقل يونغ – هي للحياة في بيت أختها الكبرى و زوجها .
الجزء الثاني يرويه زوج الأخت , و هو رسام يبحث عن إلهام ما فيجده في تخيلات جنسية يتصور فيه جسد أخت زوجته عارياً و قد طُبعت عليه رسومات زهور .
مشهد من الفيلم المقتبس عن الرواية
في تلك الأثناء تكون يونغ – هي قد استقلت بحياتها في غرفة في فندق صغير و بدأت في التخلي عن انتمائها البشري و السعى بعقلها و ذاتها كلها لأن تحيا كنبات . يصور الزوج نفسه و هو يمارس الجنس مع يونغ هي في الأستديو الخاص به و قد رسم على جسديهما رسومات زهور . لا تهتم يونغ – هي بفعل ممارسة الجنس لكنها تفتن بالرسوم التي تقربها من إحساسها الداخلي بأنها نبات . تصرف ستكتشفه الأخت الكبرى و يكون الشرارة التي ستحرق زواجهما
ليأتي الجزء الثالث الذي تروي فيه الأخت اكتئابها و هي ترى زواجها ينهار و حالة يونغ هي تدهور بسرعة مخيفة . أحدى مشاهد الرواية الأخيرة هي زيارة الأخت ليونغ هي في المستشفى كي تحاول إقناع أختها بتناول أي طعام . نرى يونغ هي و قد تحولت لجلد على عظم حرفياً شديدة النحول و يمتلأ جسمها بالكدمات و ينزف أنفها بسبب رفضها التغذية عبر الأنابيب . تعود الأخت بذكرياتها للوراء و تلوم نفسها لا إرداياً على حالة أختها : ” هل كان بإمكاني أن أمنع هذه الأشياء المرعبة من التغلغل داخل يونغ هي ؟ ” ثم تبدأ في التفكير في حياتها هي . ” انتابها فجأة إحساس أنها لم تعش في هذا العالم حقاً . . كان ذلك حقيقياً . حتى لو عادت بذاكرتها إلى وقت طفولتها , فهي لم تعش أبداً . ” لتصل إلى استنتاج : ” لم تكن سوى طفلة لم تعش من حياتها شيئاً . “
و ربما يأتى السؤال الأهم و الرواية تخطو نحو صفحاتها الأخيرة : ” من المريض عقلياً في هذه العائلة المُدمَرة ؟ من الضحية و من الجلاد ؟ الزوج ؟ الأب ؟ زوج الأخت ؟ الأخت ؟ هل تسببت حالة يونغ هي في دمار الأسرة ؟ أم أن تفتت الأسرة هو من تسبب في تحولها الدرامي هذا ؟ لماذا يقبل المجتمع العنف الأبوي اتجاه الأبناء و العنف ضد المرأة لكنه لا يقبل تصرف يونغ هي المقاوم لهذا العنف و هذه السلطة و يصفه بأنه شاذ و متوحش ؟ ربما تريد هان كانغ أن تبرز كيف أن بعض أنواع العنف قد باتت مألوفة و مقبولة مجتمعياً بينما تحول يونغ – هي غير مقبول لأنه لا يتماشى مع البناء المجتمعي الراسخ خاصة حين يتعلق الأمر بالدورالمنوط للرجل و المرأة أن يلعباه . فمثل قصة التحول لكافكا , تسارع العائلة و المجتمع للاتحاد كي تقمع أي شيء لا يمكنها فهمه و استيعابه .
لا تهتم هان كانغ بعرض الحلول أو وضع نهاية واضحة لأي من الشخصيات . تتركنا في قلب هذه الأسئلة و الصدمة من كل هذا العنف الذي حملته لنا صفحات الرواية لتنتهي بينما تجلس الأخت بجوار يونغ هي في عربة الأسعاف في طريقها للمستشفى بعد أن تقيأت الدم لأن عصارة معدتها لم تجد طعاماً تهضمه لفترة طويلة فبدأت تلتهم جدار المعدة .
” حدقت بقوة في الأشجار كما لو كانت تنتظر منها إجابة . لا , كانت نظرة عينيها داكنة و مفعمة بالإصرار كأنها تحتج على شيء ما . “
النباتية هي احتجاج صامت على العنف البشري , العنف الجسدي و العقلي و النفسي . احتجاج على كل أشكال العنف سواء كان مقبولاً من المجتمع أم لا .
غلاف الطبعة العربية الصادرة عن دار التنوير
- تعريف بالكاتبة : هانغ كانغ كاتبة كورية جنوبية تعد من أنبغ كاتبات جيلها . من مواليد 1970 . تعمل كأستاذة للكتابة الأبداعية . ترعرعت وسط عائلة من الكُتاب . نشرت مجموعات قصصية و روايات و دواوين شعر و تحب الغناء أيضاً و نشرت على اليوتيوب تسجيلات لها و هي تغني أغاني كورية شعبية . النباتية فازت في ترجمتها الأنجليزية بجائزة المان بوكر الدولية عام 2016 .
- كاتب المقال : محمد نجيب طبيب و كاتب و مترجم مصري عن الكورية و الإنجليزية . مهتم بالأدب الآسيوي بوجه الخصوص .