كأن يتجول إنسان إلى زوجة

كأن يتجول إنسان إلى زوجة
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

للشاعر الأمريكي روبرت بلاي جملة من القصائد ـ لا سيما قصائد النثر ـ التي تندرج ضمن ما يسميه بـ "قصيدة الشيء"، ويمكن أن نقول مؤقتا عن قصيدة الشيء ـ إلى أن نستفيض قريبا في الكلام عنها ـ إنها قصيدة مخصصة لشيء ما كملعقة أو شوكة أو قطعة فحم أو غير ذلك مما يتعامل معه الشاعر، لا بعينيه وحواسه فقط، بل بخياله أيضا، وإن كان روبرت بلاي ينكر هذا، ويدعو عند كتابة قصيدة الشيء إلى تحييد اللغة الشعرية تماما، لكي لا يطغى الخيال على التأمل، والتقرب إلى الشيء.

القصيدة التي نقدمها هنا تنتمي ربما إلى هذا النوع من القصائد، أو لنقل إننا نعتزم قراءتها في ضوء هذا الاتجاه في الكتابة. هي قصيدة للشاعر البولندي زبجنيو هربرت المولود في لُوَاو عام 1924 والمتوفى في عام 1998. درس الاقتصاد والقانون ولكنهما لم يشفعا له في بولندا الخمسينيات إلا في أن  يعمل في بعض المهن المتواضعة. يعتبره الأمريكي تشارلز سيميك واحدا من أعظم الشعراء في زماننا. ويعتبر أنه وإن كان اقل شهرة من مواطنيه الحاصلين على نوبل في الأدب ـ تشيسلاف ميلوش وفسوافا شمبورسكا ـ إلا أنه من المؤكد أنه ينتمي وإياهما إلى فئة واحدة. بل إن هربرت هو الأكثر أصالة بين الثلاثة والأكثر طرافة أيضا حسب ما يرى سيميك. فلم يكن إلا لمزيج من الجدية والكوميديا أن يستوعب تجربته التي تتابعت عليها أهوال الحرب، والشمولية، والنفي.

***

الحصاةُ

الحصاة

كائن مثاليٌّ

 

مساوٍ لنفسه فقط

مدرك لحدوده

 

مليء فقط

بالمعنى الحصوي

 

فيه عبق لا يذكّر المرء بشيء

لا يخيف ولا يثير

 

عبقُها، وبرودتها،

وامتلاؤها بالاعتزاز،

آه كم يعذبني ضميري

حين أمسكها في يدي

فإذا جسدها النبيل

يخترقه دفء زائف.

 

ولا يمكن ترويض حصاة

ففي النهاية

هي ناظرة إلينا

بعين يجتمع بها

البرودة والصفاء.

***

يضع هربرت في الحصاة سمات بشرية، أو حيوية بالأحرى، حينما يتكلم عن عبقها وبرودتها وصفاء عينيها واعتزازها، وإدراكها، ويخبرنا أيضا أن هنالك ما تفتقر إليه، حين يكلمنا عن دفء اليد إذ يخترق جسد الحصاة النبيل. ولعل مغزى هذه القصيدة هو أن الحصاة تبقى نفسها.

في كتابها “تسع بوابات إلى الشعر”، تقول الشاعرة الأمريكية جين هيرشفيلد إن من الممكن اعتبار هذه الحصاة ـ على حد تعبيرها ـ “أمثولة للمقاومة السياسية” وتعلل ذلك بأن الحصاة تبقى نفسها “بمنأى عن الفساد، منيعة على أي معنى قد ننسبه إليها أو نسقطه عليها”. وتلك في ظننا قراءة لا تخلو من تعسف، وإن لم تكن مفتقرة تماما إلى ما يبررها؛ ففي حياة الشاعر في ظل الشمولية البولندية ما يسوغ الكلام عن فكرة المقاومة السياسية. ولكن مثل هذه المبررات غير النصية يجعلنا ـ إن أخذنا بها ـ أشبه بقدامى النقاد الذين كانوا يؤلفون كتبا ثابتة العنوان: “فلان الفلاني .. حياته وشعره”. فيستهلونها بالحديث عن اللحظة التاريخية التي ظهر فيها الشاعر: ففي ظل أي ملك عاش، وفي ظل أي وزير للمالية نشر قصائده، وأي حرب نشبت بين بلدين لم يكن يعيش في أيهما وهو يترنم بأغانيه، إلى آخر ذلك مما تجاوزه النقد، وربما الوعي البشري نفسه.

لعل كتابة الشعر في حصاة أو شوكة أو قطعة فحم ليس إلا نتيجة للرحلة الطويلة التي قطعتها البشرية منذ أعلن أحد أبنائها الشجعان أن الأرض ليست مركز الكون، وأن الإنسان ليس مركز العالم. فقبل ألف عام ما كان شاعر ليكتب عن حصاة. الحصاة تحتل من هذه القصيدة موقعا مثل موقع الحبيبة في قصائد السلف الراحل، فقد كانت الحبيبة تتصدر القصيدة، والحبيبة إنسان، أو هي كذلك إلى أن تصبح زوجة.

لم يتخذ زبجنيو هربرت الحصاة رمزا لشيء في ظننا، ربما يكون أنسنها، ولكنه في النهاية كان يخشى عليها من مجرد إمساكها بيده، من مجرد انتقال حرارة يده إليها. كان يشعر أنه بطريقة ما لوثها، فهل تناول الحصاة باليد، هذا التناول الملوِّث، معادل لتناول الحصاة بقصيدة؟ هل يعتبر هربرت أنه بمجرد كتابته عن الحصاة، قد لوثها؟ القصيدة على أية حال تطمئننا بأن الحصاة سرعان ما تفقد حرارة اليد التي أمسكتها: فهي في النهاية، تنظر إلينا، بعينين ملؤهما، البرودة، والصفاء.

مقالات من نفس القسم