كأنها بقعة

موقع الكتابة الثقافي art 11
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

البهاء حسين

  يمكن أن ننظر إلى الماضى كرغيف عطن
سوف يتحول بعد قليل
إلى غبار
يمكن للأوجاع المُرحّلة أن تسقط
حين نجلس فى كرسىّ هزاز
جربتُ ذلك
نقيتُ ذاكرتى ولم أعد أتألم
هكذا أخبرتُ “إيمان”
قلت لها :
ستحلفين بالدخان الذى تخلّفه الآلام فى حلقك
بالدمع، حين تتسرب قطرة منه إلى الفم، كأنك تذوقين نفسك
بالوحدة التى جعلتك تصادقين ظلك فى الطفولة
وتعتبرينه فتى أحلامك، مع أنه لم يتلق عنك الأذى
أن الماضى ورم خبيث يتفشى
كلما تذكرناه
،،
الخطوة مسقط رأس
لذلك تذهب ” إيمان” حافية إلى طفولتها
لتحذف خطواتها المرعوبة
وربما انتحلت لنفسها طفولة جديدة
ضفة أخرى بلا أمّ تكويها بالنار
أو تجعلها خادمة فى البيوت
:
” إيمان” لم تفطر اليوم، وقد جلبت معها طفولتها
لتغسل سجاد السيدة التى تضع لها الطعام
فى طبق الكلب
سوف تتكور على نفسها مثل فقاعة
وتنجز مهمتها ببطء، لتلعب مع رسوم السجادة أطول وقت ممكن
تتعب الرسوم، لكن ” إيمان” لا تملّ
وحين تأتى صورة السفينة تحملق فى الركاب
كمن يبحث عن نفسه فى العائدين من الغربة
:
” إيمان” تسقى ورد السجادة بالدموع
كلما تذكرتْ كفّ أمها تهوى على وجهها بلا سبب
ولا تنسى أن تغمز بعينيها العسليتين
للولد الممسك بسياج السفينة
تحاول أن تقطف وردة وتلقيها باتجاهه
لتلفت نظره
ثم تنشر السجادة الملسوعة بالسجائر، كأنها تكشف له جلدها
كأنها تترك عنوانها فى الشرفة
ربما تعرّف عليها حين يمرّ ذات يوم
ربما تحول حبل الغسيل فى انتظاره
إلى سلك ينقل النبض
بين زمنين
:
يا للمسكينة
كانت ترى العالم من السجادة
حتى لم تعد سنواتها العشرة قادرة على نفضها
لأنها غصّت بالدموع
،،
ولما كبرت ” إيمان”
لما صارت أمًا
كانت تردد أن المستقبل طريق تسلكه القلوب
قبل أن يأتى
لذلك لم تُخلص لحاضرها
ظلت تعامله على أنه مجرد فاصل بين صفحتين
ظلت تخرج من اليوم
محطمة تماماً
كأنها خارجة للتو من أنقاض زلزال مدمر
من بيت مليىء بالثعابين
كأن أمها ما زالت تضرب أباها
أو أن ذلك الشاب المراهق
ما زال يتحرش بها ويسدّ عليها المطبخ برغباته
:
لطالما سألتنى.. إن كنت، أنا الآخر، ضحية لذاكرتى
لطالما أوصتنى ألا أدفن ذكرياتها معها
لم تعد تريد سوى أن تُترك على انفراد
مع قلبها
مع الولد الذى تنتظره
لا بدّ أنه كبر الآن
لا بد أنه يحنّ ليدها الصغيرة التى كانت تلوّح له
لرغوة الصابون التى كانت تغسل بها صورته، كأنها تحمّمه
أو تبحث عن ممر سرى
إلى روحه
لتعرف أن طفولتيهما تتبادلان نفس المشاعر
:
يا للسجادة حين تجمع طفلاً من خيوط بطفلة من دمع
نعم
” إيمان” كانت دمعة فى الأصل
تحولت إلى بقعة
وحين نسلتْ خيوط حبيبها
حين لم تصبح عظاماً، حين لم يكسُها الانتظار لحمًا
صارت أشبه بتأنيب الضمير .

مقالات من نفس القسم

علي مجيد البديري
يتبعهم الغاوون
موقع الكتابة

الآثم