“قُمْصَــــانُ الشُّعَــــراء” أو “اليَــدُ الَّتِـي شَــرِبَهــا الـمَاءُ”

"قُمْصَــــانُ الشُّعَــــراء" أو "اليَــدُ الَّتِـي شَــرِبَهــا الـمَاءُ"
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

‫[أ]

«لن يستمِرّ الأدبُ في امْتِلاك وظيفَةٍ، إلاَّ إذا وَضَع الشُّعراءُ والكُتَّابُ لأنْفُسِهِم مُهِمَّاتٍ لا يَجْرُؤُ أحَدٌ على تَخَيُّلِها. وبما أنَّ العٍلْمَ بدأ يفقِدُ الثِّقَةَ بالتَّفْسيراتِ العامَّة والحُلولِ غير المُتَخَصِّصَةِ والقِطاعِيَة، فإنَّ التَّحَدِّيَ الكبيرَ الذي يواجِه الأدبَ هو أنْ يكونَ قادِراً على نَسْج مُختلف أنواعِ المعرفة سَوِيَّةً، ومُختلف الشَّيْفَراتِ، في رُؤيَةٍ للعالَم مِتَشَعِّبَةً ومُتَعَدِّدَةَ الوُجُوهِ» [إ. كالفينو]

‫[ب]

وإذا كان ثَمَّةَ من اعْتَبر النَّحَّاتَ الحَقِيقيَّ هو المالِكَ الشَّرْعِيَ للفَراغِ، فأنا أَقُولُ: إنَّ الشَّاعِرَ هو المالِك الحَقِيقيّ للِلْبَياض.

‫[ج]

ثمَّةَ من يَرَى أنَّ اليَدَ الوَاحِدَةَ عاجِزَةٌ عن الكِتَابَةِ في أكثر من اتِّجاهٍ، خُصُوصاً حين يتعَلَّق الأمرُ بالشَّاعِر. فمادامَ الشِّعرُ هو لُغَة في قَلْبِ اللُّغَةِ، ويحتاجُ لِكلامٍ هو غير ما نَعْرِفُه من كلامٍ، أو ما يخْرُجُ من اللِّسان في العادةِ، فالشَّاعِرُ، بهذا المعنى، مُلْزَمٌ بالبَقاءِ في دَمِه، ولا يَحِقُّ له أن يَخْرَج من يَدِهِ، لِيَسْتَعِيرَ قُمْصاناً لَمْ يأْلَفْها جِسْمُه، أو لم يسْبِق أن كانتْ مِنْ لِباسِ الشُّعراء!

لا يحقُّ للِشَّاعِر أن يخُوض في السِّياسَةِ. الفِكْرُ مُمكِنٌ، وأعني الفلسفةَ، تحديداً، ما دامَت العلاقة بينَهُما جاءتْ من ماضي المعرفة. فالشَّاعر اليُونانيُّ الشَّهير إزيود، كان في قصيدته «الأيام والأعمال» بين أوائل من ذهبوا بالشِّعر نحو التَّأمُل الفلسفي، ونحو الاقتراب من سؤال العلم، والاقتراب من آلِياتِ تَدْبيرِ الحياةِ اليومية. كما كان للفلاسِفَة، أيضاً، دَوْرٌ في تبرير، أو تجْسِيرِ هذه العلاقةِ، بين الشِّعر والفلسفة، دون كبيرِ عَناءٍ. فحتى أفلاطونَ الذي أخْرَج الشُّعراءَ من مدينته الفاضلة التي فَضَّل أنْ يحْكُمَها فيلسوفٌ، فهو نَظَرَ للأمْرِ من زاوية أخلاقيةٍ، أو تربوية، ترتبط بقول الشَّاعِر الذي لا يحترم الأعْرافَ السَّائدَةَ، ويخرج بالكلام، عن السِّياق العام، أي يّحَرِّفُه، ويخرجُ به عن المألوف! فهو لم يُنْكِرِ الشِّعْرَ على الشُّعراء، بل أنْكَر مَجازات الشُّعراء، واللغة التي ابْتَكَرُوها في مُخاطَبَة الناس، فَهُم، بالتَّعْبِير الدِّينيِّ اللاحِق، « في كُلِّ وادٍ يَهِيمونَ، يقُولُون ما لاَ يفْعَلُونَ».

كان هنري ميشونيك في كتابه «سياسة الإيقاع، سياسة الذَّات»، الذي ينبغي أن نعود لقراءتِه بانْتِباهٍ، وهو بين كُتُبِه الأساسية في فَهْم مشروعه في «الشِّعْرِية المُعاصِرَة» بطريقةٍ أفْضَل، مَيَّزَ بين السياسة La Politique  والسِّياسِيّ Le Politique، باعتبار السِّياسَة، في معناها المباشِر، هي ممارسَةٌ لها خِطاباتُها وآلِياتُ عَمَلِها، وهي في علاقتِها بالثَّقافَة أو بالإبداع، لا تتنازلُ عن شَرْطِها الأيديولوجي، أو عن حُضورِها كخطابٍ مُهَيْمِنٍ، وتفرض وُجُودَها على كل الخِطابات، بامْتِصاصِها، وجَعْلِها تابِعَةً وخادِمَةً لها، بمعنى أنَّ الثَّقافِيَّ أو الإبداعِيَّ، يتلاشَى في السِّياسَة، أمَّا السِّياسِيّ فهو رَدُّ اعتبارٍ للثَّقافي أو الإبداعي، الذي يصيرُ مالِكاً لِزِمام أمْرِه، يُعْطي خِطابَه، وآليات اشتغاله، دَوْر الدَّالِّ الأكبر أو المُهيْمِن. وبهذا المعنى، يكون الشَّاعِرُ، كما يكون غير الشَّاعِر، موجوداً في قلب السِّياسَة، في ما هو خارجَها.

وإذا كنتُ في الثمانينيات من القرن الماضي، دافَعْتُ عن ضرورة أن ينفصِلَ الشِّعْرِيُّ عن السِّياسِيّ، في الشِّعر تحديداً، رغم أنَّنِي، سياسياً، كنتُ أنتمي لحزبٍ يَسَاريٍّ مُعارِض لم يَكُن يقبل هذا الفرقَ، أو كان يستعمل الشِّعر، مثلما كان يستعمل أجناسَ كتابيةً أخرى، في خدمة السِّياسَة، فأنا كنتُ، ربما، اسْتَشْعَرْتُ في وقتٍ مبكر، ضرورة هذا الفَصْل، بين ما لا يقبل اللِّقَاءَ، أو اسْتَشْعَرْتُ الحاجَةَ لِمزيدٍ من الهواء في رِئَتَيَّ، لأنَّ ما بدا في الأُفُق، كان أوْسَعَ من هذا السُّور العازِل الذي كان، في جوهره، جْدَانُوفِياً، أو هو أحد أسوار السِّياسَة السوفياتية الشمولية، التي كانتْ تَعْتَبِر الذَّاتَ، أو أيَّ كلام عن الذَّات، هو خِيانةٌ للمَباديء، وخروجٌ عن الموقف الفِكريِّ للحزب الواحد.

لم أكُنْ إبَّانَها أُقيمُ الفرقَ بين السِّياسَة والسِّياسِيّ، ولكنَّ نَفْسِيَ، بما يأْكُلُها من حُدُوسٍ، أشارتْ عَلَيَّ بهذا الفَرْقِ، حتى وأنا لا عِلْمَ لي به، نظرياً. فكان ذهابي للتَّصَوُّفِ، لِما وَجَدْتُه فيه من سَعَةٍ في التَّعْبِير، بمعنى توليد العبارات وتَفْتِيقِها، واخْتِلاقِ الصُّوَر والمَجازَات، طَوْقَ نَجاةٍ، أو الحَبْل الذي صَعَد بي من هذا الماءِ الآسِنِ والثَّقِيلِ، قبل أفْرادِ جيلي من الشُّعراء، ممن بَقَوْا غارِقِين في السِّياسَة على حِساب الشِّعر، ومن الجِيلَيْن السَّابِقَيْن علينا، ممن أكَلَتْهُمُ السياسة، حتى وهُم دون انْتِماءٍ فِعْليّ، في ما كَتبُوه ونشروه، رغم ما يقدِّمُونَه اليوم من مُبَرِّراتٍ. ولعلَّ سنوات وُجودي في بغداد، في أواخر السبعينيات وبداية الثمانينيات، كانت سانِحَةً لي لألْتَقِيَ بأعلام التَّصَوُّف، ولِأَتَعرَّف عليهم في مصادرهم الأساسية، التي إمَّا قرأْتُها في ما اقْتَنَيْتُه من المكتبات الخاصَّة، في شارع المتنبي، وببعض مكتبات بغداد التي كانت كثيرةً، مثل مكتبة المثنَّى العريقة، أو اسْتَعَرْتُها من مكتبة كلية الآداب التي كنتُ أدْرُس بها التاريخ القديم.

في هذه المسافة، بالذَّات، شعرتُ، خصوصاً مع انْحِراف الشِّعر العراقي عن مساره ليُصْبِح جَبْهَةً في قلب جَبْهَة الحرب التي كانت اشتعلَتْ بين العراق وإيران، أو نوعاً من الدِّعايَة للزَّعِيم ولانتصاراته، بضرورة أن أنْغَمِسَ في ذاتي، وأنْ أقرأ الشِّعر القديم، وأنْكَبَّ على تَذَوُّقِه ومعرفته، خصوصاً أنَّ بعض أساتذتي من العراقيين، كانوا فَتَحُوا لي بعض طُرُق هذا الشِّعر، وأتاحُوا لي أن أُعْمِلَ أُذُنِي في الإنْصاتِ لأوْزَانِه وإيقاعاتِه، وكان بيْنهُما الدكتور صفاء خلوصي المُخْتَص في عِلْمَيْ العروض والبلاغة، الذي نبَّهَنِي، دون تعالٍ، أنَّ الحُرِّيَةَ لا تُسْتَطْعَم إلاَّ بالإكراهِ، وخَرْقَ القاعِدة، لا يكون إلاَّ بمعرفتِها.

الوظيفةُ الجمالية للشِّعر، أو الشَّرْط الجمالي كما سَمَّاه هربرت ماركوز، بَدَا لي في مُواظَبَة اللُّغَة، في مُجابَهَة هذه السَّماء المُشْرَعَة على اللاَّنِهائي، وعلى ما لا يَنْحَدُّ أو يَنْحَسِر. ففي اللُّغَةِ يَكْمُن السِّرّ، تكمُن الدَّهْشَةُ، ويَكمُن التَّبْعيد  La distanciation . بما يُمَثِّلُه من اشتقاقاتٍ وتوليداتٍ، وبما يخْتَلِقُه من تراكيب وصور. فأصبح إنْصاتِي للجُمْلَة والصُّورةِ، أهمّ من إنصاتي للكلمة المُفْرَدَة، لأنَّها، كما نَبَّهَتْنِي سُعاد الحكيم، في ما بعد، في دراستِها لِلُغَة ابن عربي، ليستْ هي جوهَر الشِّعر الصُّوفي، ولا جوهَر ما في نثرِ الصُّوفِيِّين، أو ما كان يصدر عنهم من شطحاتٍ، سَتُفْهَم باعتبارها مُرُوقاً وشِرْكاً، عند العامة، أو عند فقهاء الظاهر، وإباحَةً للسِّر، خصوصاً في وضع الحلاَّج، كما اتَّهَمَه الصُّوفيةُ نفسُهُم، بل إنَّها أداةٌ، أو حَلَقَة في مجموع السلسلة. وهذا ما جعلني أقرأُ الشِّعر، وإلى اليوم، بالإنصات لِلُّغَة في النص، باعتبارها «نِكَاحاً»، أو شَهْوَةً، أي كيف تعمل، وكيف تتَوآلَجُ  وتتواشَجُ وتتجاسَر؟ ما الذي يُبْقِيه النص، وما الذي يَرْمِيه، أو يَتْرُكُه خَلْفَه؟ لِماذا الصورة، بهذا التركيب، وبهذه المفردات، وليس بما يُرادِفُها ويُقابِلُها من خياراتٍ، خصوصاً في العربيةِ التي للمفردة الواحدة فيها أكثر من مرادِفٍ؟ بل إنَّنِي، وهذا درسُ ابن عربي لي، وفي ما بعد سأتَعَلَّمُه من القرآن، أعني في أسْلُوبِه، أصبحتُ أُصيخُ السَّمْعَ، وبإرْهاف شديدٍ، لِمَواقِع الحُروف، وما يحْدُثُ بينَها من تعالُقاتٍ. الحُروف لها شأْنٌ خطيرٌ عند الصُّوفييِّين، وهي بمثابة الرُّوح التي نَسْتَشْعِرُ دَبيبَها بين أضْلُعِنا، إذا كُنَّا نُدْرِكُ أنَّ الأضْلُعَ تنطوي على روحِها، وهذا ما يسْري على اللِّسان وهو يَسْتَلِذُّ طَعْمَ الحُروف بين شُقُوق اللِّسانِ.

بهذا المعنى، شَرَعْتُ في وضع النَّصّ فوق الشَّخْص. لم يَعُد يَهُمُّنِي من كَتبَ، بل ما كَتَبَ وكيْفَ كَتَبَ، وخَلَّصْتُ نفسي من كثير من المزالِق النقدية، الذي تكون فيها المُحاباة وهالةُ الأشخاص، أو انتماءاتُهُم ومواقعهم في بعض المنابر الحزبية أو المُؤسَّسات الإعلامية والثقافية، أو لِما لَهُم من سُلطة بحكم المواقع التي احْتَلُّوها، رغم ما جَرَّه عَلَيَّ هذا من متاعِبَ لا حَصْرَ لها. لكِنَّنِي، في آخِرِ المَطَبِّ، رَبِحْتُ نَفْسي، وربحتُ معرفةً بالشِّعر، هي نفس المعرفة التي انتصرتْ فيها زوجة امريء القيس لشاعِرٍ آخَر، ضِدَّ زَوْجِها، في صورة الفَرَس، فهي انْتَصَرتْ للشِّعر على حِسَاب القَرابَة والنَّسَب.

هذه المعرفةُ، هي الشَّرط الجَمالِيّ، وهي السِّياسِيُّ في الإبداع، الذي يَسْتَبْطِنُ السِّياسةَ ويمتصُّها، فبدل أن تَسْتَعْمِلَه، هو من يستعملُها، وتصير بين دوالِّه التي يُضاعِفُ بها رؤيتَه، ويخرج بها من «لُغَة الشِّعر»، كما ادَّعَى بعض الشَّاعرِيِّين القدماء، التي كانت محصورةً في ألفاظ وتعابير «لا تنبُو عن اللِّسان»، وهذا لعمري تَضْيِيقٌ على الشِّعر وخَنْقٌ له، وهو ما لم يَقْبَلْه بعض الشُّعراء المعاصرين، وقَبْلَهم الصُّوفِيَة الذين وَسَّعُوا دوالَّهُم، وأحْدَثُوا فتْقاً في علاقة الدَّال بالمدلول، مثل هذا الفَتْق الذي يَفْصِل السَّماءَ عن الأرض.

حين تَصِير العلاقةُ بهذا المعنى، ويصبح لشَّاعر مُتَحَرِّراً من إكراهات السِّياسَة، بوضعها في قلب السِّياسِيّ، لا يعود الشَّاعِر، وأنا هنا أتكلَّمُ عن نفسي، مُلْزَماً بأنْ تبقى يدُه أسيرَةَ القول الواحد، بل إنَّها تنتقل من بياضٍ إلى آخر، دون عَناءٍ كبير، لكن، دون أن تتنازل عن شرطها الجماليِّ أو الشِّعريِّ، حتى وهي تَكتبُ في غير الشِّعر. فاليَدُ التي تَغْتَسِل كُلَّ صباح برذَاذِ الشِّعر، لن يخرجَ من تُرَبِها غير الشِّعر، حتى ولو بدا في شَكْل نَرْجِسَةٍ هي محض انعكاسٍ لهذه اليد التي حين اكْتَشَفَتْ نفسَها في الماء، فاضَتْ عنه، أو بَقِيَتْ غارقَةً فيه إلى الأبد. فَيَدُ الشَّاعِر بهذا المعنى، هي اليَدُ التي شَرِبَها المَاءُ.

أن يَكْتُب الشَّاعِر في نقد الدِّين، أو بعض الظواهر الدِّينِيَّة، بما فيها من حَجْرٍ وتَطَرُّفٍ، أو شَطَطٍ في التأويل، فهو لم يفعلْ سوى أن ردَّ التحِيَّةَ لِمَن سبقوه، ممن اعْتَبَرُوا الشِّعرَ نقيضاً للدين، لأنَّه من صُنْع الإنسان، ولا دَخْل فيه للغيبِ، رغم ما ادَّعاه ابن شُهَيْد من أنَّ وراء كل شاعر شيطان. لا أعرف لماذا لم يَقُل مَلاكاً، وهو في الحقيقة خيراً فعلَ. وأنْ٫ يَكْتُبَ الشَّاعِر في الفكر، أو في مشكلاتنا الثقافية، وفي أقْنِعَة المثقفين، وينتقد الحزب والدولة، أو ينتقد سياسةَ التعليم، وأعطاب الجامعة، والسياسة الثقافية، وغيرها مما بدا لبعض المُغْرِضينَ أنَّه انْحِرافٌ للشَّاعِر عن مَسَاره الشِّعريّ، فهُم لم يُدْرِكوا أنَّ الشَّاعرَ مُنْحَرِف بِطَبْعِه، ومُتَقَلِّبُ الأحوال، ويَدُهُ دائِبَةٌ في مائِها، والريح لا تُفارِقُ فُرُوجَ أصَابِعِه، ليستْ كأنَّها تَحْتَه، كما قال المتنبي، بل لأنَّها تحتَه فعلاً، تَعْصِفُ به، وتجعلُه لا يحتمل البقاءَ في نفس المكان، وفي نفس اللغة، وفي نفس الصُّورة. فالنَّهْر الذي لا يمكن أن نسبح فيه مرَّتَيْن، هو لغةُ وصُوَرُ، وإيقاعاتُ الشَّاعر، وما يقترحه من أشْكَالَ شِعْريةٍ. لكن الشَّاعر بقدر ما يُغَيِّر مَجْرى الرِّيح، فهو يُحْدِثُ في الرِّيح شُروخاً وتَصَدُّعاتٍ، هي ما يُعَمِّمُ به هذا الانقلابَ الذي في نفسه، على كل ما يراه من تَزْوِيرٍ واسْتِهْتارٍ بحق الإنسانِ في أن يَحْيَا ويعيشَ حُرّاً كريماً، لا أن يكونَ مجرَّد قطعة غيَّار ضمن آلةِ نظامٍ، مهما كان هذا النِّظام، وما قد نُضْفيه عليه من طَهارَةٍ عِفَّةٍ، فهو نظام وكفَى. والشَّاعر قالِبُ أنْظِمَةٍ.

أليس حين يسعى الشَّاعِر لتغيير القِيَم والمفاهيم، وقلب المعاني، وإعادة صياغة الوُجود، باللُّغَة، طبعاً، باعتبارها «أخْطَرَ النِّعَم»، كما قال هايدغر، فهو يسعى لِخَلْقِ الإنسانِ من جديد، وبالصُّورة التي يكون فيها مالِكاً لنفسه، لا تابِعاً لِغَيْبٍ هو من ما يُدير شأنَه ويقودُه، وكأنَّه مسكونٌ في نفسه بغيره، وما يكتُبُه أو يفعلُه، لا دَوْرَ له فيه، ولا إرادَةَ له عليه. أليس هذا استهتاراً باللَّه نفسِه الذي خلق لإنسانَ على صورتِه، وسَوَّاه ليكون بفعله وإرادتِه وبمسؤوليته كامِلةً، أي بما يكتبُه ويقوله، باعتباره خالقاً تَسْتَكِين في رُوحِه نفسُ الخالقِ؟

ما أكْتُبُه، أو ما تَعْتَبِرونَه «تجربةً شعريةً» في ما أكتبُه، هو هذا الذي أعْتَبِرُه اخْتلاقاً وبحثاً عن الشَّاذِّ البعيدِ المُفارِق، الذي يخرج عن القِياس. لكن بمعنى الإضافة، أو مثلما كان مُوسِلْ يَحْلُم برياضياتٍ ذات حلولٍ فرديةٍ، لا بتلك الحُلُول التي تكونُ هي نفسُها عند الجميع.

أنْ نُضيفَ، فهذا يفرض علينا أن نَتَحلَّى بروح المُجازفَة وخَوْض المَهالك. التَّّهْلُكَة في الشِّعر، ليست هي ما في الدِّين، لأنَّها بحثٌ دائِبٌ عن المجهول، وفي الماوراء، وهذا يفرض قَلْبَ التَّرَبِ، وقلب المفاهيم، ووادِّعاءَ الابتكار، في مقابل الاحتكار الذي ظَلَّت «القصيدة» مثالَه، ولا زالتْ إلى اليوم، حتى عند من دَعَوْا للحداثة والتجديد، وكتبُوا بياناتٍ في هذا الشَّأْن، وهو ما كنتُ انْتَقَدْتُه في كتابي «حداثة الكتابة في الشِّعر العربي المعاصر».

مَنْ يَتَشبَّت بالمُكْتَسَبِ، ويُقيمُ فيه، ينْسَى أنَّ الماءَ هو الماء، لكن حين يتدفَّقُ ويجري، لا يكون هو الماء نفسُه، وهذا هو ما يَسْري على الشِّعر نفسِه، فالشِّعر هو الشِّعر، لَكِنَّه ليس هو «القصيدة»، لأنَّ القصيدةَ هي ماءٌ آسِنٌ، السِّباحَةُ فيه هي سباحَة في نفس الماء، بعكس النَّهْر الذي لا يقبل المجرى الواحِدَ، لأنَّه مُتَحَرِّك، ويعْمَل على اخْتِلاق مَجاريَ أخْرَى، كُلَّما اعْتَرَضَ طريقَه حَجَرٌ، أو صُخُورٌ صَمَّاءٌ عاتِيَةٌ.

هذا ما يَحْكُم رُؤْيتِي لِلشِّعر وللمعرفة بالشِّعر، وما يَحْكُم رُؤْيتي للوجودِ ولِنَفْسِيَ السَّائِلَةِ المُضْطَرِبَة المُشَوَّشَةِ القَلقَةِ التي لا تَسْتَقِرُّ على حالٍ، لكنَّها لم تَخُن قَطُّ، لكنهَا في الشِّعر، لا تضمن لنفسِها هذا الشَّرْطَ. فالخِيانَةُ في الشِّعر هي الصَّيْرُورَةُ ذاتُها، وهي النَّهْر الذي يخْلُقُ مَجْراهُ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

نص الكلمة التي كنتُ كتبتُها بمناسبة اللقاء الذي كان معي بالمكتبة الوسائطية ـ العرفان بالرباط، بمناسبة الاحتفاء بتجربتي في الكتابة، يوم السبت 26 أبريل 2014. 

مقالات من نفس القسم