حاوره زياد محمد مبارك – السودان
الشاعر قيصر عفيف من لبنان شاعر مهجري، مفكر وناقد ومترجم، درس الفلسفة وحصَّل فيها الدكتوراه من جامعة كنجستون/ كاليفورنيا. غادر مراتع طفولته ومرابع صباه في بلدِ الأرزِ إلى المكسيك في عام ١٩٨٢م، وأصدر من مرسى هجرته مجلة «الحركة الشعرية» التي تُعنَى بالشعر الحديث في عام ١٩٩٢م من مدينة مكسيكو مع رفيقه الناقد محمود شريح، وما زالت توالي الصدور حتى يومنا.. صاحب مشروع، ورؤى أدبية وفلسفية بذلها عبر جسور متعددة تتمظهر فيما تبثه رسالة مجلة «الحركة الشعرية» الدوريَّة، وفي دواوينه الخاصة، وترجماته للشعر من اللغات الأجنبية.
سجَّلت الحركة الشعرية الحديثة اسمه بأحرفٍ من نور لإسهامه الذي ظل لامعاً في سمائها لثلاثة عقود، ناذراً لأجل عرض منجزاتها، والتأصيل لها، مجلةً باسمها طار صيتها كل مطارات الأدب والثقافة…. فإلى إلقاءات الحوار..
- في البدءِ.. عن تجربة رصد مجلة «الحركة الشعرية» للإبداع الجديد في الشعر العربي ونشر إبداعات الأصوات الشابة التي لم يتسنَّ لها النشر في صحف بلادها وصفحاتها الثقافية كما ذكرتم في بيان المجلة: «فتحت صدرها لكثيرين من الشعراء الذين بدأوا على صفحاتها رحلتهم في عالم النشر».. ما هو تقييمكم للمشروع – بنظرةٍ إلى الوراءِ – خلال هذه المسيرة الطويلة؟
أشكرك على هذا السؤال.. نعم كان رصد حركة كتابة الشعر همّاً من همومنا. وكنا على دراية بأن كثيراً من الشعراء المقيمين في ديارهم أو المهاجرين كانوا يعجزون عن النشر في صحف بلادهم لأسباب سياسية في معظم الاحيان. وهكذا أردنا أن نقوم برصد الإبداع الشعري المعاصر بين الشعراء مقيمين ومهاجرين. ماذا أقول بعد ما يقرب على عقود من صدور عددنا الاول؟ كل كلمة أقولها تعتبر في مدح الذات. لهذا أترك تقييم الجهد الذي قمنا به للشعراء والنقاد والقراء. قمنا بما رأيناه واجباُ ثقافياً وحاولنا جهدنا.
- بصراحة، هل يمكن القول أن مجلة «الحركة الشعرية» اقتفت آثار مجلة «شعر» التحررية؟ أم أن بينهما شيءٌ من الاشتباك في الرؤيا مما يوحي بذلك؟
بوعي كامل منا لم نعمل على اقتفاء آثار أحد. نعتقد أن لكل عمل فترة زمنية يعمل من خلالها الشعراء. مثلاً لا تستطيع إذا كنت مخلصاً للكتابة أن تعود إلى تأسيس رابطة قلمية تقليداً لما فعله المهجريون في نيويورك. لم نحاول استرجاع مجلة «شعر» بيروت في مدينة مكسيكو.. زمان «شعر» غير زماننا. عندما عاد يوسف الخال – رحمه الله – من أميركا. إلى بيروت أراد أن يؤسس مجلة أشبه ما تكون بمجلة «شعر» الأميركية، كانت بيروت يومها تعج بالصراع بين التراث والحداثة. عندما بدأنا في «الحركة الشعرية» كانت فكرة الحداثة بدأت بالتجذر في الفكر العربي. ما كان علينا إلا أن نأخذها في خطوة جديدة. ثم أن معظم المساهمين في «شعر» البيروتية كانوا أبناء البلاد العربية القاطنين في أوطانهم، أما الذين اشتركوا في حركتنا الشعرية فكانوا من العرب المنتشرين في كل المهاجر بالإضافة إلى الذين لم يتركوا أوطانهم. من هنا إذا أردنا أن نرصد حركة الإبداع لا بد من الرجوع إلى «الحركة الشعرية» ربما نتشارك مع مجلة «شعر» البيروتية في فتح باب الحرية الكاملة أمام الشاعر المعاصر، ولم نقيّده بقواعد مدرسية صارمة.
- هنالك تضمين لشعار يقول أن مجلة «الحركة الشعرية» لا تروِّج لمدرسة أدبية ولا لتيارٍ ثقافيٍ معيَّن، وأنها مُنحازة لتنصيب النص ملكاً.. ماذا يعني وصفكم للنص في بيان المجلة بأنه الملك؟
نعم يا عزيزي منذ البداية أردنا أن يكون الامر واضحاً. نحن لا ننتمي إلى مدرسة أدبية. لسنا سورياليين ولا رومنطيقيين ولا كلاسيكيين ولا تراثيين ولا حتى حداثويين. إذا ما جاءنا نص لا ننظر إليه من زاوية مسبقة وضعت أمام عينيها مواصفات الجمال وعلى أساسها راحت تختار النصوص الصالحة للنشر. نحن ننظر إلى النص ونعيد النظر لنرى بواطن الجمال فيه. لا يهمنا إذا كان النص يرّوج لفكرة سياسية أو دينية، أدبية أو جمالية. نعم النص عندنا له الأولوية، إنه الملك. وإذا لبس هذا النص عباءة التراث أو عباءة الحداثة نرفعه ونفرح به ونقدّمه على غيره.
- تبنَّيتُم رأياً انطباعياً عن المنظور إلى الشعر الحديث في الأوطان العربية إذ يتمُّ اعتباره هامشياً فيها، وسطحياً، وأنه يأتي من باب التسلية لا في رأس سلّم الأولويات، وأنه حُورب بإهماله.. وفي مضامينكم تؤكدون أن الحداثة موقفٌ من الوجود لا يغطِّي العيوب وإنما يكشفها.. فهل يمكن اختصار هذه الرؤية في أن علاقة الشعر ببيئته – في هيئته المعاصرة – قد أضحَت حربية، هجومية وقطعية، لا ثقافية؟
نعم ما زلت أعتقد انه ليس للشعر في أوطاننا العربية أية اولوية في سُــلّم القيم الاجتماعية. فمن تراه في عالمنا يشجع ابنه إذا رأى عنده ميلاً إلى كتابة الشعر على التفرغ والاختصاص به. عندنا، وربما تشاركنا أوطان الأُخرى، يكون الاهتمام بما يضمن لنا الثراء. ثم أن السوق فرض علينا معنى القيمة. إن الناشر، وهو في الأساس تاجر، يرفض المجموعات الشعرية إلا إذا ساهم الشاعر في دفع مصاريف طباعتها وتوزيعها. وربما لهذا السبب انتهت العلاقة بين الشعر ومجتمعاته إلى نوع من الصراع. هذه هي المجتمعات التي لم تعرف أو لا تريد أن تعرف أن الشعر ليس هامشياً في الوجود. إنه صوت الحضارة، صرختها، ضميرها ومرآتها وليس زينة عابرة بل ركناً أساسياً من أركانها.
- في ثنايا تضمينكُم ذكرتم أن وزن الشعر خارجياً لم يعد عامود القصيدة وإنما وزنه داخلياً؛ حيث أن القراءة هي وحدها عامود الشعر.. ألا يُمكن بالتالي أن تُشكِّل هذه الرؤية قراءات متعددة لا يمكن معايرتها؟
أنا لا أعرف ما العيب في أن يكون للنص قراءات متعددة. قلتُ في أكثر من مكان أن الفرق بين النثر والشعر يكمن ببساطة أن للنثر بُعداً واحداً ومعنىً واحداً إذا تعدَّد خسر أهميته. والشعر حمّال أبعادٍ ومعانٍ إذا انحصرت بواحد يخسر جوهره. وربما لهذا السبب ميّز جدودنا بين الشاعر والنظّام.
- أطلقتم على الشاعر الحديث مسمَّى الشاعر الساحر، ما هي دلالات هذه التسمية؟
كلنا نعرف ما السحر، إنه القدرة على التحويل. يحوّل الساحر الحال من أمر الى آخر، يقلب الكراهية إلى المحبة والخوف إلى اطمئنان. والشاعر أيضاً ساحر يحوّل الكلمات التي جمّدتها المعاجم ويضخّ فيها الحياة. ثم تراه يحوّل أيضاً ما يجول في فكره وعقله وقلبه من حال إلى حال لتكون القصيدة. ثم هو يحوّل عواطف وأفكار مجتمعه إلى قصائد. أكثير بعد هذا أن نقول إنه ساحر ينفخ في الحروف مواد لم تألفها من قبل ويبثّ فيها الحياة، إنه ساحر وسيّد الكيمياء.
- (قصيدة النثر بين الشعرية والشرعية) ما الذي يمكن قوله تحت هذا العنوان؟
الشرعية التزام صارم وثابت بقواعد متعارف عليها من يحاول أن يلغيها أو يبدلها يخونها، والشعرية تمرد على كل متعارف عليه. الشاعر الحقُّ متمرد لا ينسج على منوال غيره ولا يستعين بخيطان غيره ولا يستعير ألوان غيره، الشعر يعلمنا التمرد حتى على اللغة. لا تقارب بين الشعرية والشرعية إلا بالحروف.
- يعيدُ بيان مجلة «الحركة الشعرية» تعبئة قالب القراءة برؤية جديدة؛ إذ يؤشر على قراءة الشعر الحديث باعتبارها مشاركة في إبداعه.. هل طبَّق قيصر هذه الرؤية في مجموعته «فتوحات صباحية» التي نثر فيها ٥٢ نصّاً بلا عناوين؟ أيمكن لفراغية العناوين أن تدفع القارئ للمشاركة في الفعل الكتابي بابتكار عناوين بديلة للأرقام؟ أم أن المشاركة تتعدى الشكلَّي إلى الحقلِي الذي يضمُّ مختلف الدلالات النصيَّة؟
في المعنى العام نعم أرى أن قراءة الشعر مشاركة في إبداعه. لكني في «الفتوحات الصباحية» ما أردت أن أضع عناوين للقصائد لأنها كانت كلها نصوصاً تتقارب في تجربتها. ما كانت الغاية أبداً أن أترك للقارئ مهمة اختيار العناوين فالعنوان زركشة على خدّ النص.
كتبت هذه النصوص في جلسات تأمل كنت أُمارسها في غابة صنوبر قريبة من منزلي في قريتي بكاسين في الجنوب اللبناني. في تلك الصباحات كانت أسئلة تراودني منها ما يتعلق بالشاعر واللغة ومنها ما يتعلق بقضايا الوجود من حياة وموت، من شهوة الامتلاك إلى شهوة المعرفة. أردت أن أجد شخصاً أخبره عن تجربتي، وعمَّا شعرتُ به وتوصلت إليه ولكني في عزلة القرية لم أجد أحداً فكانت هذه «الفتوحات».
فإذا كان القارئ مهتماً بهذه الأمور عليه وهو يقرأ أن يحاول مشاركتي في التجربة. طبعاً من المستحيل أن يستعيد التجربة نفسها، ولكنه يقف على إشارات تقوده على الطريق. عندي أن الشعر إشارات تقود القارئ وليس علامات وصول.
- مقطع لافت، ومشاكس، في ديوان «فتوحات صباحية» نضعه لفضِّ رسالته المكثفة: (يا عزيزي القارئ، لا تقرأ هذه النصوص كما تقرأ الكتب. حاول أن تجد في النص ما يُبدِّل آفاق الداخل، ما يُحوِّل القلب الحجر إلى قلبٍ حيّ. إذا لم يُحوِّلْكَ النص هنا فَارْمِ الكتابَ وامشِ في نـزهة أخرى).. ما الذي يرمي إليه قيصر بالضبط في اشتباكه مع القارئ؟
لا لا ابداً لم يكن اشتباكاً مع القارئ. هذا كتاب مغامرة في تضاريس الجغرافيا الداخلية للإنسان. قليلون منا حاضرون لخوض هذه المغامرة، كلنا نصبُّ اهتماماتنا على العالم الخارجي حيث المعارف العقلية التي يسهل استيعابها وفهمها وإيصالها للآخر. من هنا نقطف براحة بال وسهولة كل فاكهة تنتجها شجرة المعرفة. هنا العقل دليلنا يفتح أمامنا الطريق، لكننا ننسى شجرة الحياة التي تدعونا لأن نكون واحداً مع الكل. إنها شجرة الحياة التي تدور عليها معظم الفتوحات. فإذا كان القارئ يفضّل البقاء مع العقل على شجرة المعرفة ولا يريد أن يتجذر في الوجود كشجرة الحياة فلماذا يُتعب نفسه. ليقرأ كتاباً يستفيد منه حيث هو.
- صدر لقيصر ديوان معنوّن ب/ «ثلاثية المنفى»، هل يمكن القول أن المهاجِرَ منفِيٌّ؟ وكيف نعبِّرُ عن فلسفة المنفى في أشياء الروح والجغرافيا؟
حاولتُ في ثلاثية «المنفى» أن أعبِّر عن حالات النفي المختلفة في الوجود البشري. أن تعيش بعيداً عن المطلَق منفى، أن تعيش في وطن مسلوب منفى، أن تعيش في عزلة كيانية منفى، أن تعيش في هجرة جغرافية منفى. صرختي وقتها ضرب من البحث عن الوطن، عن التجذر في الوجود.
- صدر لقيصر أيضاً ديوان في ١9٩٧م حمل عنواناً لافتاً «للشعراء فقط» ما محمولات الرسالة للشعراء؟ ومن الذين يخاطبهم الشاعر قيصر؛ القراء أم الشعراء؟
حاولت في هذه المجموعة أن أتناول معاناة الشاعر في كتابة القصيدة. تناولت تجربتي مع اللغة والمعنى، مع الشكل والمحتوى، مع القارئ والسامع ومع كل ما يمتّ للشعر بصلة. لا الشاعر خاطبتُ ولا القارئ وإنما حاولت أن اخاطب نفسي وأخبرها عن تجربة الكتابة الشعرية بكل ما تحملها من معاناة وفرح، من محبة للغة وصراع معها.
- المُقدِمَات الفكرية التي يزجِي بها قيصر في دواوينه تدفع إلى السؤال عن تقاطعات الشعر والفكر والفلسفة. من يعتبرُ قيصر نفسه، شاعر أم فيلسوف؟
لا الشعر يا عزيزي يستهلكني ولا الفكر، ليس من كلمات تستطيع أن تأسر كل ما هو أنا في عالمي الجواني. الكلمات أدركتها المعاجم وحددتها وعالمي الداخلي وجود يسيل في الأشياء يلتف مع التيارات وعكسها في حركة لا تعرف السكون. فكيف يستطيع المحدود أن يلتقط الذي لا حدود له؟ أنا هذا اللا شيء، هذا الفراغ الذي عنه يصدر كل ما هو أنا.
- يُقال أن جملة ما ترجمه العرب منذ جامعة بيت الحكمة في عصر المأمون بن هارون الرشيد العباسِيّ وحتى يومنا يساوي ما تترجمه إسبانيا في سنة واحدة! كونك مترجماً من اللغة الإسبانية إلى اللغة العربية، ماذا تقولُ في هذه المقارنة؟
أنا أرفض هذا النوع من المقارنات، الترجمة اليوم عمل سهل بوجود الكومبيوتر الذي يساعدك على الإضافة والزيادة وتخزين المعلومات. زمن المأمون كان الخط بالحبر هو الأداة، زمن المأمون ساعدت الترجمة العرب على الدخول في تيار الحضارة. أخذوا من اليونان وأضافوا وطوروا المأخوذ، ترجموا ما كانوا بحاجة اليه للانطلاق.
أما ما يترجمه الإسبان اليوم فلا أعرف ما هو ولماذا يقومون به. لا أعرف الغاية من هذه المقارنات وما الإفادة منها في نهاية الامر على الأُمة أن تترجم ما يثري شعبها. وكمية الترجمة ليست دليلاً على التقدم أو النمو إنما المهم هو نوعية ما يُترجم. نحن أحوج ما نكون إلى من يفتح وعينا على حقائق تساعدنا على تبديل وعينا، أمام البشرية تحد كبير.