أحمد شافعي
منذ ما يزيد على عقدين، يصدر حسن عبد الموجود في دأب مجموعاته القصصية، مقدما في كل منها مغامرة جمالية خاصة، لا يكاد يعاود الرجوع إليها مرة أخرى. جرَّب يده في القصة القصيرة المؤلفة من مئات الكلمات، والقصة القصيرة المطولة التي قد تمتد لعشرات الصفحات، كتب قصصا ذات أجواء كابوسية، وأخرى استلهم فيها الحكايات أو عارض فيها حواديت من ألف ليلة وليلة. بل وجرَّب ـ على استحياء ـ الإمكانات القصصية لقالب المقال في مجموعة صدرت قبل سنوات قليلة عنوانها “البشر والسحالي” جعل البطولة فيها قسمة بين البشر ومن حولهم من كائنات، أو لنقل إنه رصد عالما يتعايش فيه البشر والحيوانات فتحشر كل من المجموعتين أنفها في شؤون المجموعة الأخرى وحياتها.
ومغامرته الأحدث كتاب قصصي صدر عن الدار المصرية اللبنانية في أكثر قليلا من مئة صفحة عنوانه “تاجر الحكايات” كان لي شرف تقريظه بكلمات على غلافه الخلفي أكدت فيها قناعتي بأن الحضارة الإنسانية تنتخب من آدابها نصوصا بالغة الطول مثل الإلياذة مثلما تنتخب نصوصا بالغة القصر مثل الهايكو، غير منحازة إلا إلى الجمال.
صنَّف عبد الموجود نصوص كتابه السبعين تقريبا بالأقاصيص. وتتراوح نصوص الكتاب بين القصير وبالغ القصر، فمنها ما لا يزيد عدد كلماته عن عشرين ومنها ما يمتد إلى بضع عشرات الكلمات.
لا أعرف إن كان في النقد العربي اتفاق على حدود مهما تكن للجنس الأدبي الموسوم بـ”الأقصوصة”. لا أعرف مثلا بوجود معيار عددي للكلمات على غرار المتبع مع القوالب السردية القصيرة في الغرب. فقد هداني بحث أولي على الإنترنت عن محددات لهذا النوع، إلى موقع لتعليم الكتابة في القوالب السردية القصيرة ووجدت فيه جدولا يحدد قصة الومضة [إن جازت هذه ترجمةً لـ flash fiction] بأنها النص السردي الذي تقل كلماته عن ألف وخمسمئة، والمايكروفيكشن [أو القص الصغير] بأنه النص الذي يقل عدد كلماته عن مئة، وأن ما يعرف بالمينيساجا [وهي تسمية هازلة بالطبع إذ تعني “الملحمة الصغيرة”] نص يتألف من أقل من خمسين كلمة، فضلا عما يعرف بـ”قصة الكلمات الست” التي ربما كان همنجواي أول من اخترعها. في حين نفتقر نحن في نقدنا العربي إلى محددات، سواء سطحية كالعددية أو غيرها.
ثم، ماذا عن شروط القص الأخرى؟ ما الذي ينبغي أن نتوقعه من فنون السرد عموما في قالب القصة القصيرة جدا [وهذا هو المصطلح الذي أوثره شخصيا على مصطلح “الأقصوصة” باشتقاقه الذي أجد له في أذني رنين استهانة من شأن قالب هو كأي قالب غيره عظيم القدرات]؟ وأهم من ذلك، ما الذي ينفرد به هذا القالب وتعجز عن منحه بقية القوالب؟ وأين تقع بالضبط الحدود الفاصلة ـ أو الواصلة ـ بين هذا القالب وقوالب شعرية أخرى مثل قصيدة النثر في قالبها الكتلي؟
ولا يكتفي عبد الموجود بـ”الأقاصيص” تصنيفا لنصوصه، لكن لعله بعنوان كتابه نفسه يضيف تصنيفا آخر هو “الحكايات”. ولا أحسب هذا التصنيف الأخير ينطبق على نصوص الكتاب، إذ لا نصادف بينها مطلقا ما نعرفه في الحكايات أو الحواديت ونعرفها به من صيغ ثابتة من قبيل “يحكى أن” أو “كان يا ما كان” وما شابههما، فضلا عن أن نصوص “تاجر الحكايات” كما سنرى لا ترمي إلى التسلية ـ وإن وجدناها فيها ـ بقدر ما ترمي إلى التحريض على التفكير والتأمل، وذلك ما لا تفعله الحكايات إلا لماما.
تبقى على الغلاف كلمة “التاجر”، وهي أيضا لا تبدو لي أفضل الاختيارات. فعهدي بالتجار في الكتابة، وما أكثرهم، أنهم يعيدون إنتاج سلعهم التي يطمئنون إلى قدرتهم على إنتاجها، ويضمنون رواجها في السوق التي يوجهون إليها كتاباتهم السوقية. وحسن عبد الموجود لا يكتفي بتخصصه تقريبا في القصة القصيرة شبه البائرة عربيا وعالميا الآن، بل إنه يغامر بالتجريب في الأكثر بوارا من القصص القصيرة وأعني القصير جدا منها، وهذا التجريب في ذاته ينأى به عن التجارة.
في ظني أن “التاجر” في حدود فنون السرد هو من يصر على كتابة الرواية وإن عزَّ عليه أن يقيم عالما روائيا راسخا، أو يصر على حشو رواية بدينة راميا من بدانتها إلى أن يغري لجان تحكيم الجوائز، أو يقحم على روايته أسبابا للإثارة يستميل بها زبائن تلوثت ذائقتهم من فرط قراءة “روايات” الرعب والإثارة والجريمة وما إلى ذلك.
وحتى لو كان عبد الموجود قد أراد بعنوانه هذا استعارة ما، فلا أحسبها استعارة تليق بالتعبير عن فنان، لأن ما يفعله حقا في كتابه هذا هو مغامرة مفهومة من فنان ومستبعدة تماما على تاجر.
غير أن العناوين بعامة مشكلة في هذا الكتاب، فأكثر عناوين النصوص قوامها كلمة أو اثنتان. وغالبا ما يكون عنوان النص هو العنوان البديهي له، فالنص الذي يحوي مطاردة عنوانه “مطاردة”، والنص الذي يدور حول حذاء مخروم عنوانه “حذاء مخروم”. وما من عنوان تقريبا في هذا الكتاب يرغم القارئ على مسار معين لقراءة النص أو فهمه، ولعل هذه فضيلة، وما من عنوان يبرز في نص معنى خفيا، أو يضيف إليه نغمة مصاحبة، أو يناقضه أو يبدله. إنما العناوين ببساطة علامة للقارئ على أن نصا يبدأ. ولا أحسب هذه مشكلة عبد الموجود، البارع في كتبه السابقة في نحت العناوين. لكنها في تقديري مشكلة هذا الجنس الأدبي نفسه والأجناس القريبة منه. فديوان “العالم لا ينتهي” للشاعر الأمريكي الراحل تشارلز سيميك يضم قصائد نثر بلا عناوين بالمرة، وكتاب “جبل التجربة” الجميل لزكريا محمد ـ القابع على مكتبي الآن ومنذ بضعة أشهر ـ فيه مئات من قصائد النثر عديمة العناوين، وكاتب هذه السطور نفسه مدان بكتابين فيهما قرابة مئتي نص تحمل جميعا أرقاما بدلا من العناوين. ولا شك أن “مطاردة” أو “حذاء مخروم” أقرب إلى العناوين من واحد واثنان وثلاثة…
غير أن عبد الموجود لا يتقشف في العناوين وحدها، فاللغة الغالبة على الكتاب توشك أن تكون شفافة، حريصة قدر استطاعتها ألا تشير إلى نفسها. يقول في قصة “القفل”:
“أمُّه لم تقبل توسّلاته. ضبطته يراقب أخته من فرجة باب الحمام وهي تستحم. خبطت يدها على صدرها وهي تصرخ: ’حتى الشيطان لا يفعلها’. قبَّلها في منتصف جبهتها، انطبع وشم ’القفل الأخضر’ من رأسها على شفتيه. حاول أن ينطق ليستسمحها، أو يصرخ ليخرجها من سكونها، أو يبكي ليستدر مشاعرها، لكن صوته انحبس في فمه إلى الأبد”.
هكذا هي اللغة في “تاجر الحكايات”، توشك أن تختفي تماما، حريصة ألا تعطل فعل القراءة، واعية بأن انسحابها هو الضامن الأكبر لسرعة تلقِّي القارئ الاستعارة الكبيرة النهائية التي تجعل المسافة الضئيلة الواقعة في ما بين عنوان النص ونقطة النهاية مسرحا للعنة لا نصادف مثلها إلا في الأساطير أو في أقدم كتب الرعب في التاريخ، أعني “التحولات” لأوفيد، وهو بالمناسبة أيضا، قريب في شكل نصوصه من قصيدة النثر ومن القصة القصيرة جدا، ومن شتى هذه الأجناس والقوالب الأدبية التي تظهر لنا قليلة الشأن على الصفحة حتى إذا انطلت علينا خدعتها هذه ومضينا في قراءتها إذا بنا نتعرض لتجارب شعورية مشحونة إلى أقصى قدر ممكن، وإذا بنا نتعرض في هذا الحيز البسيط لزحام لا يوحي به الشكل على الإطلاق، وانظروا في نص من نصوص تاجر الحكايات عنوانه “الجمال”:
“…اقتربتُ منه، متخيلا أن علاقتي به قد تسهِّل لي التعرف على أختيه أو إحداهما، لكنه انقطع فجأة عنا. وجدته بالصدفة يجلس أمام المسجد العتيق يوم جمعة. تأملته. كان جميلا كأختيه. راق لي التملِّي في ملامحه. لم يكترث لإطالة نظري، ونبهني إلى قرب إقامة الصلاة. وقفنا في الصف. كنت حريصا أن يلمس مشطُ قدمي مشطَ قدمه”.
لا تحوي هذه السطور قصة فقط، بمثل ما تحوي النادرةُ التراثيةُ قصةً، إنما لدينا هنا شخصية حية نوشك أن نمسها. راوي هذه السطور يعري نفسه بين أيدينا معترفا لنا بمنظومته الأخلاقية، بل اللاأخلاقية إن شئتم، يرينا بأعيننا أنه مستعد لدخول مسجد يوم جمعة ليصلي، لا لله، ولكن للجمال. أم تراه لا يرى من فارق؟
ثمة شخصية مماثلة لبطل هذه القصة عند نجيب محفوظ، تجدونها في خان الخليلي، حيث يرصد محفوظ مشاعر يمكن وصفها بالمثلية أو البيدوفيلية، أو بكليهما، لدى بطله أحمد عاكف، إذ يجد في نفسها ميلا حسيا إلى صبي صغير لما بينه وبين أخته الكبيرة من شبه. لا يسلط محفوظ إلا ضوءا رهيفا على هذا الجانب في شخصية بطله، لكن عبد الموجود يمنح البطولة لهذا الجانب وحده، ويفعل ذلك ببساطة، فما من أبواق نسمع نفيرها منبئة بلعنة تحل على من يتلصص على عري أخته، وما من تمهيد كبير لإقدام صبي على لمس قدم صبي في الصلاة زلفى لأختيه. ويبدو أن هذه البساطة في العرض كلما ازدادت، ازداد تأثير النصوص في القارئ.
من أكبر إغراءات هذه النصوص، التي كثيرا ما تشير إلى قصة بدلا من أن تبذلها لنا، أن القارئ يجد نفسه مدفوعا إلى بناء قصصه الخاصة حول قصص الكتاب. ففي كثير من النصوص بذور يسهل على من يتعهدها بالتأمل أن يقيم لشخصيات القصص ماضيا، أو يتخيل تفاصيل إضافية في حاضرها، أو مسارات إلى مآلات محتملة. ولعل من أخصب الخامات المتاحة لهذه اللعبة راوي القصص نفسه.
يروي عبد الموجود الغالبية الكاسحة من النصوص بضمير المتكلم، فيكون الأبطال “أبي” وأمي” و”جدي” و”جارنا” و”ابنة عمتي”، ثم “ناظر مدرستنا”، ثم “زميلي في العمل” ثم “مديرنا”، فضلا عن عبارة في قصة نصها “ها أنا أضعت نصف القصة”. هكذا يسهل علينا أن نستخلص من نثار موزع على مدار النصوص ملامح حياة كاملة لشخص، منذ طفولته في مجتمع ريفي ما، وحتى احترافه كتابة القصص أو تجارة الحكايات، مرورا بمخاوفه وألعابه وإحباطاته وفواحشه، وحتى مزاجه الجنسي.
أما من يعزفون عن بذل هذا الجهد فلهم في النصوص بما هي عليه كثير من العطايا. ولعل من أهم هذه العطابا خلخلة كثير من الثوابت، بل البديهيات. فلدى حسن عبد الموجود ولع بالشخصيات منحرفة الطبع، أو فاسدة الطبيعة. ولا يقتصر هذا فقط على صبي يستغل صلاة الجمعة ليتخذ ولدا مطية إلى “أختيه”، ولكن لدينا أمًّا تفضل لو أن ابنها هو الذي مات وليس الدجاجات في نص جدير بأن يحمل قارئه على مراجعة مسلماته عن الأمومة. وثمة نصوص أخرى تزعزع صورة الأبوة والبنوة والأخوة والجيرة، وغير ذلك من العلاقات التي يقوم كل مجتمع على رسوخها وما يرتبط بها من أوهام أو مبالغات.
فضلا عن أن في الكتاب نصا بطله يجلس بادي البراءة في سيارة أجرة، منتظرا بفارغ الصبر أن تتحرك به السيارة، لتطرب أذناه بسماع جمجمة رضيع تتهشم تحت إطارها. لو أن نصا كهذا كفيل بأن يفقدنا أي ثقة في الفرد الذي نجاوره في حافلة أو طائرة أو صلاة عيد، فثمة ما يفقدنا الثقة في المجتمع الذي نعيشه فيه بالفعل لا الذي نقرأ عنه في نصوص يفترض أنها خيالية. وفي نص بالكتاب بلد أهله كلهم فاسدون، رضي نصفهم بالتجسس لحساب الحكومة على النصف الآخر، حتى اختل أداء أولئك المخبرين أو قويت شوكتهم، فرضي نصف الشعب الآخر بالقيام بمثل دورهم.
أغلب ظني أن دافع حسن عبد الموجود إلى مغامرة “تاجر الحكايات” هي إحساس ـ كان طبيعيا في تقديري أن يعتريه بعد سنين من كتابة القصة القصيرة وقراءتها ـ بأن في كل شيء قصة. في “تاجر الحكايات” مثلا قصة عنوانها “البوكس” ـ وذلك هو الاسم الشائع لسيارة الاعتقال الشرطية في مصر ـ هي عبارة عن نكتة، فبنيتها شائعة في النكات، وهي بلغتها الفصيحة نكتة مضحكة، ولكني أضمن لمن يترجمها من القراء إلى العامية ويلقيها على غيره أنها لن تخذله.
وتبلغ قناعة عبد الموجود بأن في كل شيء تقع عليه العين قصة حدَّ أنه يترجم بتصرف مشهدا سينمائيا ذائع الشهرة جاعلا من ترجمته قصة جديدة (هي “حنان”)، وأعني مشهد تفتيش الجماعة الحقوقية للمعتقل سيء السمعة في فيلم “البريء” للراحلين وحيد حامد وعاطف الطيب، لكن عبد الموجود يحول المعتقلين إلى مجندين لا يلقون الحد الأدنى من المعاملة الإنسانية إلا في لحظات الحضور العابر لعدسات الإعلام، ولعل هذا التغيير العميق هو الفارق بين زمن إنتاج (البريء) في ثمانينيات القرن الماضي وزمن كتابة (تاجر الحكايات). ومثل هذه القناعة هي التي تجعل عبد الموجود يقدم على استلهام قصة (هي قصة “أطلس”) من نص للشاعر والكاتب محمد خير. وهذه القناعة أيضا هي التي تجعلنا نصادف في “تاجر الحكايات” نصا تاريخيا، وأتصور أن هذه سابقة، إذ لا أعرف (قصة قصيرة جدا) تاريخية، شأن الرواية التاريخية أو المسرحية التاريخية. وفي الكتاب قصة رعب، وقصة إثارة، وقصة فنتازيا. وفي تاجر الحكايات قصة كلها دعاء، وأخرى ليست سوى مناجاة. وكأن حسن عبد الموجود اكتشف الطاقة القصصية في أي شيء، وفي أي شكل، وفي كل لغة. ولعل هذه رسالة إضافية يبعثها “تاجر الحكايات” إلى قارئه: في كل شيء تقع عليه العين قصة، لا ينقصها لكي تتحول إلى فن غير فنان، نعم، فنان لا تاجر.
………………
*نقلاً عن مجلة إبداع، عدد ديسمبر 2024