الكثير من قراء الأدب المحبين للكرة سيشعرون أثناء قراءتهم هذه القصص أن عالمين بدا وكأنهما شديدا البعد كل منهما عن الآخر قد التقيا في مزجٍ جماليٍّ عجيب، ولا غرابة في ذلك إذا عرفنا أن كاتبي القصص من أرض الكرة والكلمة: أمريكا الجنوبية، وبالأخص الأرجنتين: أرض بورخس ومارادونا.
رغم أنني عشت سنين من حياتي كانت كرة القدم فيها لعبًا وتشجيعًا ومُتابعة هي محور أنشطتي ثم غابت رويدًا رويدًا ليحل محلها الأدب والكتابة والقراءة، فإنني لم أتخيل يومًا ما يمكن أن يكون وراء هذه المباريات التي نشاهدها من كل تلك الحكايا والحيوات والقصص التي تُبكي أحيانًا وتُهدش أخرى. تحدث محمد الفولي مترجم الكتاب في المقدمة عن ثلاث فئاتٍ قد تهتم بقراءة الكتاب، وهذه في نظري أهم وأكبر ميزات الكتاب، وهي اتساع دائرة من يثيرهم ما فيه، وفي نفس الوقت، بخلاف كتب أخرى تحاول فعل ذلك، فهو ليس كتابًا صحفيًا أو هاويًا كتبه أحد مشجعي الكرة القدامى، وإنما هو أدبٌ أصيلٌ يبلغ في بعض قصصه الغاية في الإتقان والجودة الأدبية. الفئة الأولى هم محبو الكرة من غير قارئي الأدب، وهؤلاء –مدفوعين بحبهم لتلك الساحرة المستديرة- سيدخلون عالمًا طالما كان سؤال كيف يمكن أن يُقدَّم إليهم وإلى غيرهم من غير المحتكّين به سؤالا مؤرِّقًا لكل حاملٍ لهمِّ الأدب والثقافة. أما الفئة الثانية فهي أولئك القراء الذي لا يهتمون بالكرة ولا يرون فيها أكثر من صراعٍ لا معنى فيه بين اثنين وعشرين لاعبًا حول كرة من الجلد. سيدرك هذا النوع من القراء أن الأمر –على الأقل في أماكن وأوقاتٍ معينة- كان ماء الحياة وخبزها كما كان الشعر للعرب والمسرح لليونان. والفئة الثالثة هي أوفر الفئات حظًّا ونصيبًا، وهم أولئك المحبين لكلا العالمين فسوف يعيشون مع الكتاب لحظاتٍ مرّوا بها من خلال رحلتهم بين الكلمات وملاعب الكرة، غير أن هؤلاء لن يُعدموا من الدهشة أثناء رؤيتهم هذا الفنّ الجميل الذي يصوّر أرواحًا خلف الكرة لا مجرد سيقان.
تتنوع القصص الخمسة عشر المختارة على مستويات عدّة، فمنها ما تدور أكثر أحداثه داخل الملعب وبين المردجات، غير أنه دائمًا سيختلف عن مشاهدة نفس الأمرعلى الشاشة بأنه سينفذ إلى النفس الإنسانية وحركتها داخل ذلك المستطيل الأخضر وخارجه، سيتحدث عن أحلامها وآمالها وآلامها وانتقابها من الطيران في أعلى سماء إلى أن تنكسر على صخرة بين دقيقة وأخرى. تأتي ثاني قصص الكتاب بعنوانها الجميل: “الحياة التي نظنّها” لثاني أكثر كتّابي المُفضّلين من الخمسة أصحاب قصص المجموعة. لإدواردو ساتشيري كاتب هذه القصة عبقرية خاصة تتميز بها قصصه وهي النفاذ إلى أعماق أبطاله وقدرته على الحديث عن مشاعرهم بطريقة تخاطب في كل قارئ ذلك الإنسان الذي يُحبّ ويُهزم وينكسر ويحيا ويصر على الحياة. تحكي قصّته الأولى حكاية فتاةٍ وجدِّها العجوز العاشق للكرة، وعن ذهابهما للملعب لوداع المدرجات رغم تحذريات الأطباء له من مضاعفات انفعالاته العصبية، غير أن الوداع لم يكن كما تمنّت الفتاة التي لم تكن تعرف الكثير عن كرة القدم، وبعد أن عادت الفتاة يملؤها الأسى على رحيل جدّها المنتظر بوداع لم يرده، يحدث خلاف ما أعدت له نفسها.
بعد ذلك تأتي أولى قصص العبقري “روبرتو فونتاناروسا” والذي شارك “ساتشيري” مكانته عندي، ولم يرفع كعبه إلا قصته العبقرية “حكاية عامل غرف”، لكننا إن وضعنا في مقابلها “عجوز ينهض واقفًا” هذه الملحمة الإنسانية، التي عشنا أقسى منها ولكنّنا لم نجد من ينطق عن أولئك العجائز حتى الآن، وسأعود للحديث عن كلا القصتين لاحقًا، لكنني أردت القول إن لكل واحد من الكاتبين قصة تجعلني غير قادر على رفع أحدهما عن الآخر، غير أن لكل واحد ملحمه الذي يتميّز فيه، ف”ساتشيري” واقعيٌّ وبارع في الحديث الإنساني، و”فونتاناروسا” خبير بالكرة وأسرارها على ولعه بعوالمه السحرية فكانت أغلب قصصه فيها رائحة الواقعية السحرية اللاتينية. فأول قصة له “مذكرات جناح أيمن” تحكي عن مذكرات لاعب في لُعبة كرة القدم الخشبية التي لعبناها جميعًا في صغرنا حين يُمسك كل لاعب بمقابض خشبية كل مقبض حين يلفُّه بيده ينقلب كل اللاعبين المُعلّقين بهذا القضيب الخشبي فيحرز هدفًا أو يصدُّ هجمة. تسلّل “فونتاناروسا” إلى عقل ذلك الجناح الأيمن وقصَّ علينا فيما يفكّر وكيف يرى نفسه.
ثم يصوّر “أوسبالدو ساريانو” أحدث الثلاثة أصحاب القدر الأكبر من القصص شوارع الأرجنتين أثناء المباراة التي أحرز فيها مارادونا هدفيه الأشهر: الهدف الذي أحرزه “بيد الله”، والآخر الذي غزا فيه إنجلترا كلها، تنمزج في القصة أحداث المباراة مع وقائع تاريخية تتعلق باحتلال إنجلترا لجزر في الأرجنتين حيث أقيمت المباراة في ذكرى حرب الفوكلاند بين الأرجنتين والأسطول الإنجليزي والتي انتهت بانتصار الإنجليز وسيطرتهم على الجزر، ليعود الأرجنتيون إلى المطالبة برد تلك الجزر يهتفوا باسم “مارادونا” بدلًا من “غالتييري” –القائد الذي أضاع الجزر من قبل- كي يعيدها لهم كما انتصر لهم على الإنجليز في نصف نهائي كأس العالم 1968 بالمكسيك، قبل أن يفوزوا بالبطولة.
بعد ذلك تأتي جوهرة الكتاب قصة “حكاية عامل غرف” التي يحكي فيها “فونتاناروسا” على لسان عامل غرف قضى خمسةً وعشرين عامًا في مهنته بأحد أندية الأرجنتين. يحكي هذا العامل من موقعه بين غرف الملابس وتحت مدرجّات المشجعين حكاية لاعب مغمور أتى من المجهول وصعد كشهابٍ إلى أعلى نقطةٍ للمجد يمكن أن يصل إليها لاعب في ظروفه، ثم في مباراة الحُلم يحدث ما لم ينتظره أحد فيتهاوى كل شيء ويعود ذلك اللاعب إلى طيّ النسيان، تقطر القصّة ألمًا وفجيعة، وتحكي عن الفشل وعمّن ابتلعهم النسيان، وتمزج في نهايتها الواقع بالفانتازيا والأسطورة كبقية قصص “فونتاناروسا“.
يعود “إدواردو ساتشيري” مع أعظم قصصه والدرّة الثانية من درر الكتاب: “عجوز ينهض واقفًا”. في هذه القصة نحن بصدد أديب عظيم وكاتب يملك أدوات الكتابة امتلاكًا يجعله يكتب قصّة يظل متردّدًا في أولها في اختيار راويها، يفعل ذلك بحرفية شديدة. هذه القصة ليست فقط من أفضل قصص هذا الكتاب، بل هي من أفضل القصص التي قرأت على الإطلاق. قصّة عن الفقد، والهروب، والعودة، والراحلين الذين لا يغادروننا أبدًا. قصّة عن عجوزٍ ينهض واقفًا، فلماذا فعل؟ يقول في واحدة من أجمل أجزاء القصّة:
“لم يعرف الفتى شيئًا عن الأمر في هذا المساء. لقد عاشه ولكنّه لا يعرفه. أن تعيش شيئًا أمرٌ وأن تعرفه أمرٌ آخر. قد تبدو المسألة واحدةً لكنّها ليست كذلك. هناك فرق بين أن تحدث أشياء لك وأن تُدرك أنها تحدث لك“.
بعدها يحكي “أوسبالدو سوريانو” عن عالمٍ مُتوحِّشٍ من مشجعي كرة القدم حيث يُمكن أن تُكسر عظام اللاغبين مع الحكم لأنّ هدفًا أحرزه الفريق الضيف قبل نهاية المباراة، بعد قراءة هذه القصة وتفاصيلها سيعرف القارئ أن جمهور الكرة هذه الأيام مع كل ما يحدث هو جمهور مهذّبٌ و”وديعٌ” جدًّا. ثم تتوالى القصص في مزيج جميل بين إنسانيّات “ساتشيري” في قصصه: “مقصيّة مزدوجة” عن أخوين لعبا معًا الكرة في صغرها وكان أحدهما حارس مرمى والآخر لاعب وسط عاشا لحظةً ملحميّةً في شبابهما ثم عادا ليعيشا ذكراها حين بلغا من الكبر مبلغًا لم يمنع تلك الملحمة من أن تفارقهما، و”مونتس في باحة منزله” حين نعيش اللحظات الأخيرة لرجل أقدم على الانتحار ولم يؤخره عن ذلك إلا مباراة “كلاسيكو” بين الفريق الذي ظل طوال عمره يشجعه وغريمه، فكيف سنتنتهي حياته؟ أما “فونتاناروسا” فيكمل بخياله قصصه التي تبدأ في الملعب قبل أن تبرز لها نافذة تنقلها إلى عالم آخر يكسو قصصه بطابعه الخاص. إلى جانب أولئك الثلاثة الكبار، نقرأ قصّة جميلة ل”خورخي فالدانو” جميلة الحكي والنهاية عن فتىً حلم حُلمًا في ليلة أهم مباراة له في البطولة، ثم استيقظ ليتحقق الحلم الذي حلم به، غير أنه يفسده، ليقول أبوه طريح الفراش في المشفى القريب من ملعب الكرة لأمه: “أعتقد يا عزيزتي أن ابنك أفسد الأمر”. وفي آخر القصص يسشترف “غوستابو لوباردي” العالم بعد أربعة قرون حين تكون كرة القدم لعبة اندثرت مع ساكني الأرض الذين غادروها هم ولعبتهم التي لم تعد سوى مجال للدراسات عن شيء ملك على الإنسانية لُبّها طوال قرون.
بقي أن أشيد بالترجمة شديدة الجمال التي لم أشعر في أي سطر من سطورها أنني أقرأ قصصًا مُترجمةً، لا في التراكيب ولا في الألفاظ. سلاسة الترجمة وكثرة الألفاظ والتعبيرات بنت اللغة العربية جعلت منها نصًّا شديد الألفة على القارئ العربي، وأخرجته عملًا أدبيًّا جميلًا حافظ على جمال ذلك النوع الفريد من الأدب. فشُكرًا للصديق العزيز مُحمد الفولي على مجهوده لإثراء المكتبة العربية بهذه المختارات الجميلة في كتابٍ يسدُّ مساحاتٍ كثيرةً ناقصة، أهمها تلك الكتب التي تصلح كبوّابة لمن يريد أن يبدأ علاقة مع الكتب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كاتب مصري