قصيدة النثر في أفواه المتقولين باسم محمود درويش

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمود قرني *

أظن أن أخطر ما تركه الشاعر محمود درويش خلفه - ولم يكن جزءا من تركته - هذا الحشد من المتحدثين باسمه. فقد قرأت - منذ رحيل هذا الشاعر العظيم ـ عددا من التقولات التي يفترض أنه توجه بها إلى قصيدة النثر، وهي في مجملها تقولات غير منشورة لم نلحظ مثيلاً لها في معظم حوارا ته أو آرائه المنشورة. وقد يكون بعض ما صدر عمن كانوا في معيته صحيحا في جانب منه، لكنني أجزم أنه لم يكن دقيقا. فدرويش الذكي الحصيف والمثقف الرفيع لا يتورط بدخول معتركات بهذه الفجاجة، التي تنتهي بوصفه لشعراء قصيدة النثر- بإطلاق الصفة - بأنهم مجرد صحافيين يبرطلون على الشعر و

 

 

 

يستغلون مواقعهم الصحافية في الترويج لأنفسهم، وهم في الحقيقة لا علاقة لهم بالشعر من قريب أو بعيد. ومن جانب آخر لا يستطيع المتابع أن ينسب رأيا لمحمود درويش يخفف من وطأة موقفه الرافض لقصيد ة النثر، فهذا الموقف يمثل جزءا أساسيا في انحيازا ته الشعرية ومن ثم الجمالية بدليل بقائه مخلصا للنص التفعيلي حتى رحيله عن دنيانا.

 

وخلاصة ما أريد قوله هنا أن موقف درويش من قصيدة النثر أكثر تعقيدا من هذا التبسيط المخل الذي يعكس الكثير من الاستخفاف بالقضية وبشعرائها، ويعكس في الوقت نفسه غياب الإلمام بالخلفية المعرفية التي تحكم الموقف الدرويشي في مثل هذه القضية الخلافية التي ظلت موضع اهتمام ومتابعة درويش باعتباره مؤثرا وكبيرا وفاعلا، فلم يسوغ لنفسه أبدا إصدار أحكام غير سائغة ليست موضع إلمامه لذلك لم يكن مستغربا أن يظل في حال متابعة جادة لكبار الشعراء وصغارهم حتى آخر لحظات حياته.

 

وأكثر الآراء اكتمالا لمحمود درويش حول هذه القضية ؛ ذلك الرأي الذي نشره في مقالة له في النصف الأول من التسعينيات في جريدة ‘الحياة’ اللندنية وهو المقال الذي أعادت نشره مجلة ‘الكتابة الاخرى’ في عددها الثامن الصادر عام 1994 تحت عنوان ‘ أنقذونا من هذا الشعر’. وسوف أترك رشاقة لغة درويش جانبا وأتوقف أمام ما أراه جوهريا، حيث يؤكد أن موقفه ينبع من أن الدفاع عن قيم الشعر العربي وفاعليته ووضوح رسالته هو شكل من أشكال الدفاع عن روح الامة ووجودها الثقافي. ثم ينتقل برأيه إلى نقطة أخرى تستكمل فكرته عندما يقول : إن ما يرهقنا في هذه الفوضى هو أن التجديد والحداثة يراد لهما أن يتحولا إلى مرادفين للعدمية، وللثورة المضادة أحيانا حيث لا يصبح هنالك معنى للأشياء واللغة والتضحية والعمل ولا معنى للمعنى في الشعر، معنى الشعر هو اللامعنى’.

 

ولا شك أن هذا الرأي ليس مستغربا على درويش الذي يعتبر نصه نموذجا لمفهوم الالتزام باعتباره صاحب قضية خاصة وباعتباره جزءا من التحولات التي طرأت على المجتمعات العربية ابان الخمسينيات من القرن الماضي ودفعتها سياسيا الى تبني موقف قومي كان وما زال يدافع عن تلك الصورة الملتزمة للإبداع ومن ثم فهو يؤمن بوظيفته الاجتماعية، ورغم ما يقف خلف هذا النظر في المناهج النقدية الحديثة من اتهامات تعتبر مفهوم الالتزام مفهوما باليا إلا أن هذا النظر يفتقر كثيرا إلى الدقة ويعتمد مقولات نظرية أكثر من اعتماده نماذج إبداعية يمكنها أن تعبر بدقة عن التطور الجوهري الذي طرأ على القصيدة العربية في حقبة الريادة، وكانت أهمية هذا التطور في أنه يواكب حقبة الحداثة التي ارتبطت بالدولة القومية الطالعة ذات المد الثوري، بغض النظر عما ا نتهت إليه هذه الحقبة سياسيا واجتماعيا.

 

وامتياز محمود درويش على الكثيرين من أبناء جيله وقضيته انه لم يصدر عن ثيمة الشعار السياسي الذي أفقد الشعر العربي كثيرا من قيمته كما لم يصدر عن شعار الفردوس المفقود لكنه تعامل مع الشعر كعمل تقني ينتمي إلى نوع من الصنعة كما قال بول فاليري عندما ألقى في سلة المهملات كثيرا من الشعر الصادر تحت معان وظيفتها هدهدة المشاعر معتمدة على إلهاب المنطقة بين الأشياء وتقابلاتنا معها، كان فاليري يتحدث عن الشاعر الصانع، أي الشاعر الذي يمارس الشعر باعتباره وظيفة جمالية كبديل عاقل عن وظيفته التحريضية.

 

من هنا يمكننا فهم تخوفات محمود درويش من فوضى الحداثة والرغبة في تحويلها إلى عمل ضد المعنى وهو دور ربما وجد ضالته في المدارس الإبداعية التي اشتغلت على مذاهب فنية محضة، أسقطت الدور الوظيفي من حسابها. من هنا ربما يمكننا تفسير القبول العام الذي يداني الإجماع على التجربة الدرويشية الذي أتصور أن مصدره الوحيد هو قناعة النص الدرويشي بالتعدد والتنوع والتجاور على عديد من المستويات التي يأتي على رأسها قبول أكثر من معيار جمالي على مستوى الموضوع ثم إطلاق الطاقات القصوى للتناص التاريخي مع تراثات فكرية وفلسفية وإبداعية. وقد رصد النقد الكثير من التحولات التي طرأت على الدواوين الأخيرة لمحمود درويش وكيف استفاد الشاعر من الطاقات الجمالية لقصيدة النثر من داخل تلك القناعة أيضا، لا سيما في استخدامات السرد الشعري ولا يمكننا رد أسباب خفوت الغنائية الدرويشية لأسباب أخرى فقد كان الشاعر في حاجة ماسة إلى مغادرة غنائيته وحصرها في الحدود التي تمكنه من طرح معادلات جمالية تخص مراحل التطور التي اعترت تجربته الشعرية وقد كان لافتا بحق قدرة درويش على القفز داخل أتون هذه التحولات، فالسرد قادر على خلق هذه الحيدة بما له من قوة موضوعية، وقد تبلورت هذه القناعات التي استفادت كثيرا من تقنيات قصيدة النثر في دور اللغة لدى محمود درويش حيث أخذت شكلها الصافي من مصدرين أساسيين اولهما العناية الفائقة التي يبذلها الشاعر في تحديد مصير متلقيه بالمعنى الإنساني وليس بالمعنى اللغوي وهي قناعة تؤكد أهمية الموضوعي في مقابل الشكلي. وثانيهما تتعلق باليقين الدرويشي بالطاقات التعبيرية الكامنة في العناصر الشعرية مجتمعة وليس في العنصر اللغوي وحده وان كان هذا النظر يتبدى جليا في شعرية درويش جملة الا أنه يتبدى أكثر جلاء في أعماله الاخيرة. يضاف الى ذلك وبشكل اساسي الهاجس الوجودي الذي يفسر لنا جانبا مهما من مقولات درويش وانحيازاته. فتخوفات الشاعر من فوضى الحداثة وفقدان المعنى تعكس هلعا كبيرا من الصيغة المعولمة للحداثة الغربية التي لم تكن صادقة في أية لحظة في اقامة منظومة القيم الرفيعة التي تشيعها وظل الشرق مسرحا لاستعراض قوة الغرب، وهاجس محمود درويش ليس بعيدا عن تلك الاسئلة التي تبدأ بحتمية النظر في الهويات والمرجعيات والجيتوهات المهمشة وازالة أسباب الفرقة بين جيوبها، وهو ما يأذن شيئا فشيئا لخطابات العولمة المزدوجة أن تحل محل الهويات والاديان والخصوصيات التاريخية بكل مرجياتها، ليتحول وطن محمود درويش الى خطاب بلاغي يمكن العثور عليه في القواميس وليس تحت أقدام الشهداء أي يصبح باختصار وطنا من مجاز. ولا أتصور هواجس محمود درويش عن الحداثة المشوشة وقصيدة النثر بعيدا عن تلك القناعات التي لا تعني في أي من وجوهها نكوصا جماليا أو ردة في التاريخ الشعري لشاعر في حجم محمود درويش. فقط، على من يتحدثون باسم الرجل في مثل هذه القضايا الملتبسة أن يتأكدوا أنهم لا يسيئون له رغم التـأكد من أنهم يصدرون عن نية مخلصة.

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

* شاعر مصري

 

مقالات من نفس القسم