محمد فيض خالد
نسمة هوا
ارتعشت الابتسامةُ خَجلة على شَفتيهِ السُّمر، اَمسكَ ” المدراة” في يدهِ يُقلِّبها في خُيلاءٍ، بَدت كَالعَروسِ المَجلوة ساعة زفافها، في زفرةٍ موجعة نَفَثَ الدُّخان كثيفا، حَكّ أنفه في عنفٍ، كمن ينتشل نفسه من أحضانِ الذِّكرى، ألقى ببصره يمرح قليلا في سكونِ الفضاء الملتهب بحرقةِ الشّمس، هزّ رأسه مُتَعجِّبا،قَطَبَ حَاجبيهِ وزَامَ قائلا: “رحمك الله يا أبي!”، عَرِفت أقدام ” عليوة” طريقها للحقولِ تَابِعا صَغيرا لوالدهِ الرَّيس ” عزازي” أشهر ” مقرقر” أجران قي الزِّمامِ، مُبكِّرا افترشَ أديمَ الأرض والتحَفَ السَّماء، تشبّعت روحهُ بندى الصَّباح الفتَّان، يعلو سهمه زمن حصاد القمح، بقُدرَةِ قَادرٍ تَدبّ الأُلفَة بَينهُ وبَينَ طوب الأرض؛ إذّ لابُدّ لصاحبنا أن يَضع خاتمه فوقَ الأجرانِ؛ إِيذانا بفصلِ الغَلّة عن التبنِ، تتلاعب مدراته الزّان برشاقةٍ في تلالِ الهشيم، فتزيحها عن مكانها، ريثما تصفيها تصفية خبير، تندلِق على وجههِ ضحكة ساذجة، يُحكِم طاقيته فوقَ رأسهِ، مُردِّدا في ثقةٍ: “صنعتنا هذه صنعة العُمد، ورثناها عن أسلافنا، كاَنَ جدّي المرحوم مرزوق بطل، أصلنا من ديروط، جئنا للعملِ في دائرةِ خشبة ثم استوطنا العزبة “، عَلّمتهُ مهنته كَيْفَ يكونُ جلدا صَبورا، يحمل نفسه على ما تَكره، حتّى تتَخلى الحُقولُ عن آخرِ حَبَّة من التَّبن.
يعودُ سيرته الأولى فَوقَ المَصطبةِ؛ مُصبِحَا مُمسيا يَجدلُ حبال اللّيف، تلقي عليه الأيام ظلالا ثقيلة من النّسيانِ، فلا ينال بعد حظوةٍ إلّا سلاما باهتا، يتوارى ريثما يعَودُ مُنتَفضا مع انبساطِ عيدانِ القمح، وسنابلها التي مُدّت شواربها الشُّهب مُتَحدّية، تنتظرُ أن تلثمَ المَناجل خدودها النَّاضجة، يَعتَرِف ” عليوة ” مُتّكئا على طرفِ ” المدراة”، يُطالِعُ أمامه الجُرن في زهوٍ؛ بأنّه لم يذق لذّة الحياة إلّا في ليالي الصَّيفِ المُقمرة، ينتظر لفحة هواء بحرية تُداعِب حبات التّبن، من بعدهِ اسندَ إليهِ والده المهمة بعدما داهمت العلّة بصره، لا ينكر سعادته؛ فيجد في نفسهِ دهشا لذيذا، وراحة تلفه وهو يتسَمّع كلمات التَّودّد تُسَايره، يقول ” مخيمر ” السَّمكري :” أيام الجرن يصبح عليوة أبو صفارة زعيما ينتظر الهتاف، إنّه أشهر من أحمد أفندي العمدة، سبحان العاطي !”، تعرِفه ” الملقة” عاشقا للسّهرِ، مُتيّما يهوى أصوات اللّيل، يفكّ سلاسلَ الظّلام، وكأنّه يطلِقُ الأشباحَ من مكمنها، يقيضُ حفنةً من ” التبنِ” يضربُ بها وجه الهواء في أناةٍ وتدبّر، ثم يعودُ فيتربّعُ أمام براد الشّاي مأخوذًا، سريعا يعودُ مُنتَفضا؛ فيأخُذَ في هدِّ الرُّكام أمامه هَدَّا لا يعرف الهوادة، يمسح طرف شاربه المَسنون في ابتهاجٍ هاتفا :” ساعة منهُ ترضي، الهوا الليلة للصبح”، يَظلّ على حالهِ، يَشقُّ نَغم صوته المشروخ ثيابَ الليل، حتّى يسفر الصَّباح وقد تبدّدت بنات اللّيل مُتوارية بين حشايا الظّلام المنهزم، لحظتها يلقي جانبا ” المدراة “، وقد بَلَغَ منه الجهد مبلغه، يَضع يدهُ قوقَ حاجبيهِ، يُطالِعُ قرص الشّّمس الوليد في ارتياح، يحدج صاحب الجرن في اطمئنانٍ، قائلا :” باقي رفه ونخلص، أنا في البيت اعود سريعا مع هواء العصاري “، يعودُ منزله، تتلقاه زوجته لقاء مودّة، يزيح عن جَسدهِ أثقال السّهر وغبار الجُرن، في أحيانٍ كثيرة يجد نفسه منقادة نحوَ تمردها، يرفعُ راية عصيانه مؤدِّبا بعض أولئكَ الذين بالغوا في تجاهلهِ، يلتمع الخُيلاء في عينيهِ، تكسو وجهه النّحاسي جهامة غليظة، يغيبُ مُفتَعلا بينَ سُحبِ دخانهِ الكثيف مُجيِبا في حَنقٍ :” دورك لسه بدري عليه، أنا لحم ودم الصّبر جميل “، لا تخمد حزازات نفسه المُلتَهبة غيرَ زوجته؛ بلطفٍ تُعيِدهُ إلى صَوابهِ حينَ يملأها القلق، فصغارها بحاجةٍ لكُلّ حبة قمح، تراه وسط الحقولِ وقد أغمضَ عينيه، فاتحا ذراعيه، يَجذبُ ياقة جلبابه يتَلقّى تيار الهواء في رحابةٍ غريبة، يبدو مَرِحا كما الزّهرة التي تفتّحت لنُضرة النَّدى، تستقبلُ إشراقة الصُّبح المُنعش، يتحسّس بيده الفضاء وكأنّما يُدَاعبُ خيوط الهواء المنسابة من حولهِ، يطلق صيحة مدوية :” الحمد لله “..
ها هي الحياة وقد ائتمرت بهِ، كما ائتمرت بغيرهِ من أهلِ الصّنعة، بعدما غزت ” آلات الدريس” الحقول، تطحن في سَاعاتٍ جِبالَ القشّ، استيقظَ صاحبنا ليجدَ نفسه وقد أُزيحَ ومدراتهِ عن السَّاحةِ، صفرت يديه من كُلّ شيء، أخَذَ نفسه بالصَّمتِ، تضطرِمُ في جَوفهِ غلّة الحقد ونار الكُره، مرّت الأيامُ عليهِ ثقيلة نائما فَوقَ المَصطبةِ، رويدا تلاشى ذكره، فلم يعد لسيرتهِ مَن باقية، نفضَ يده من النّاسِ، اللهم إلّا نسمات الهواء يرتجف لها قلبه طَرَبا، تعزفُ في روَعهِ نشيدَ الحَياة..
**
السَّريح
يُغَازل البيوت بَصيصٌ من الضّوءِ الأحمر الجرئ، يُعانِق جَريد النّخيل، تُسبِّحُ الطبيعة في خُشوعٍ مألوف؛ ريثما تتفلّت من رَقدَتها، تلك صورة ترتسم مطلع كُلّ نهارٍ مُنذ أذِنَ البارئ لهذا المكان أن يعمُرَ بأهلهِ، قرية مطمئنة ياتيها رِزقها رغدا على ضفافِ بحرِ يوسف، أهلها لا يدرون عن دُنياهم إلّا الكَدّ والنّصَب، وحَياة لا يفرق فيها بين َالمَرءِ وفأسه، ورغم فقرهم، فنفوسهم راسخة قانعة؛ بأنّ كُلّ دابةٍ على الله رزقها.
في هدأةِ الصَّباح المُنعِش، وبينما الجو يمتلئ بأصواتِ العَصافيرِ ضاحكة، تَنفض عن الوجودِ كآبته: يهبطُ الشّيخ ” أحمد الكردي ” حَامِلا غرَارته فوقَ ظهرهِ، والشّيخ لمن يجهله، صانعُ البهجة للجنسِ اللّطيف، يؤمّ القرية السّبت من كُلِّ أسبوع، يعرض بضاعته تحتَ النَّبقةِ العتيقة، اساورَ من زجاجٍ ملون، أقراط العاج، خلاخيل النّحاس، مراود الكحل، وغيرها من حاجاتِ النّساء، في وقارٍ يُداعبُ زبائنه بصوتٍ دافئ:” لبس البوصة تبقى عروسة!”، يقضي جُلّ نهارهِ يسترضي هذه، ويتودّد لتلك، ويلاطف متردِّدة بخيلة، يعترِف الأهالي بشطارتهِ اللّاذعة، تدفعُ إليهِ ” نبوية ” بائعة الجَاز ثمَن طرحة، تمدّ يدها إلى صدرها تُخرِج ” البُّك” قائلة في حَسدٍ:” دا يبيع التراب لو عايز !”، حلوة لكنته، وشهيّ حديثه المعسول، ينبئ عن أنّه من أبناءِ بحري، كان قد اتخذَ لنفسهِ مسكنا فيّ عزبة ” الصعايدة ” مُذ حطّ رِحاله في القريةِ، لم يغب عن عينِ ” وزة” اللعوب، فهي عاكفةٌ على ترصّد خطاه، تحسب عليهِ أنفاسه، من نافذتها تكمن كما الحِرباء، يَتوهّج بريق الطّمع يكسو وجهها، ساعة تهالكه على كيسهِ يعدّ غَلّة يومه، يدقّ قلبها وهي تحدجهُ في تشهي، يغلف المكان صمتٌ قاتل، إلّا عن فمها الذي فَاضَ بطرقعتهِ، امتلأ باللّادِن تلوكه في تغنّجٍ سخيف، تتفشى أخبار خلاعتها تزكم الأنوف، منذ جاءت برفقةِ زوجها ” مصيلحي ” سائق “الكراكة”، اكترى بيتا في القريةِ لها وابنتها، عملَ زمنا في تطَهيرِ المصارف، وبعد أمدٍ قضى نحبهُ إثر مشاجرة مفتعلة مع المقاولِ، لم تعهد القريةِ امرأة في تبجحها ولا حسنها الصّارخ، علاوة عن بديهتها الحاضرة، ونكتتها السَّاخنة التي تسحر العقول، مع الأيامِ جَنحَ بها الطيش؛ فاتخذت شرفها تجارةً لمن يدفع، تُلقي في مشيتها من فتنةِ جسدها الفائر، سِحرا لا يُردّ، وتَصبُّ في المسامعِ من لهيبِ غرامها عطشا لا يرتوي، تلاوعُ كُلّ محروم يزحفُ وراء ما يطفئ سورة قلبه، معبودها القرش، تستنزف الجيوبَ فتذرها قاعا صَفصفا، تحايلت ما وسعها كي تستذل الرجلَ فنصبت له أُحبولة من عاطفتها السّاقطة المبتذلة فهي تُغريه، بيد أنّه تماسكَ عازما دفع ألاعيبها، تعترض سبيله دون حاجةٍ، خرجت بزينتها تتلمّظ كحيةٍ رقطاء تجرّه إلى جحرها جرّا؛ كوب من الشاي لا يضرّ، والأمر لا يسلم من ابتسامةٍ مُتصابيةٍ وغمزة عين ملتهبة، حتّى جَفّ قلبه الموجوع فرضَخَ ذليلا لمخططها، ها هو وقد اندفعَ على عِمَايةٍ عسى أن يجني من ثمارِ حُبه الياَنع قطفا جنيّا، مرّت الأيام ثِقالا عليهِ، يتكّلف الوقارَ ما وسعه، لكّن نظراته المحمومة المُثقلة بالغرامِ تفضحه، حاول اقتلاعَ هذا الشيء من رأسهِ دونما فائدة، بعدما أمسى مضغة الأفواه، نصحه ” سباعي ” القفاص مِرارا؛ أن يبتعد عن هذه المهانة، لكنّه كانَ يهزُّ منكبيه مُستهينا، رويدا دَبّ الاهتمام في روحهِ الخامدة، فتلألأ رأسه المُشّتَعِل شيبا بأصباغِ الشّباب، واستبدلَ ثياب الشّيوخ، بأخرى أخرجته عن طورِ وقاره.
استيقظت فيهِ حاسة الافتراس، يتوسّل سحابة نهاره ضحكة منها، تلفه الفرحة كطفلٍ غرير، حينَ تذوب خلاعة وميوعة أمامه، تسيلُ الغِبطة من نظراتهِ كمن يصحو بعدَ غفوةٍ، أخيرا عرفت أقدامه طريقا إلى مخدعها، أقبلَ على الإثمِ مِستَخِفا بهِ، قد برحهُ الحُبّ؛ فجرّه لطريقهِ المظلم، والمرأة تتناوبُ عليه؛ تسقيه من كؤوسه الحرام.
ذَاتَ صبيحةٍ، قَصَدَ القرية ” سريح” جديد، شابٌ في رونقِ السَّبابِ، يسوقُ عربة ” كارو” مُحَمّلة بالبضائعَ من كُلّ صنفٍ، أمّا ” الكردي” فمع الوقت؛ اسلمه هذا المنحدر لأن يهمل تجارته، وما تبقى في يده لم يسلم من سطو ” وزة”، التي لم تتوانى في استبدالهِ بصيدها الجديد، يوما بعد يومٍ يتقلّص ظِلّ حبها عنه، بدى أسيفا، تنعقد على وجههِ كآبة مُدلهمة تُعكِر طباعه، وتُفسِد مزاجه.
كانت خيوط الصَّباح الجديد تنتَشر في أحشاء الأفقِ الرّمادي، عندما تعالى صياح ابنتها، يشقّ جسد الفضاء، بعدما وجدتها قتيلة تسبح في بركةٍ من دمها، وبينَ عشيةٍ وضُحاها توارى الرّجلان فلم يعد لهما أثر، مرّت الأيام في جهدٍ والقرية تحاول غسل شرفها المدنّس، حتى استطاعت بعد لأيٍ؛ طيّ صفحة “وزة” إلى الأبد..
*******
الكَييّف
تَراخت شَفتَاهُ امتعاضا وقَد احَكَمَ طرف ( البوصة) في فَمهِ الواسع، هَزّ رأسه القَانِعُ، يُطلِق دفقات دُخَانه الكَثيف، بَذلَ جَهدا يُخفي انفعالا مكبوتا، هَيّجه كلام أمه، تثرثرُ دونَ انقطاع :” خَلصت باكو المعسل، ابوك هيقطع رقبتك”، أشَاحَ بوجههِ غَيرَ مُكتَرِثٍ بتوبيخَها، ليَغيبَ ثاَنيةً في زَهوِ الكَيف، قَالَ ثملا باستهتارٍ:” يعدلها ربنا “، انصرفت عنه وهي تُبرطِم مُتَوجّعَة، إذ كَيْفَ لصَبيٍّ مثله أن يحَذو حَذو الكِبار، تعَالى صِياحها في الخَارجِ تَنهر عَنزة، هَجَمت في جرأةٍ تخطفُ رَغيفا يابسا، غَابَ عنه خيالها الباهت، أمّا صوتها المزعج فيتأتّى مُقتَحِما على نَوباتٍ، فيُخِرجهُ عن طَورهِ، قد ورم أنفه، وحقد الدّم في خدّيهِ.
اعتَدلَ في جلستهِ، يُدنّدن بلحنٍ ركيك،يواصلُ شرب “التّعميرة”، اعتقدَ الجميع وأولهم والده؛ أنّ فَتا لم يبرح العَاشرةَ مثله، لن يؤول مآله فيتعاطى الدُّخان بهذا الشّره آناء الليلِ وأطرافَ النهار كالعتاة،ظَنّوا أنّمَا هي ملهاة صغير تعلّقَ بلِعبةٍ، سُرعَان ما يَملّها كغيرها من التَّسالي، لَكنّه خيّبَ ظنونهم، وأضحى ” كسبان” أسيرا، يتخذ ” الجوزة” صَنما لنفسهِ، يخلص لها الحُبّ، يُسَبِّحُ بحمدهِا بُكرةً وأصيلا، سِرا تصَبّ والدته لعَناتها فَوقَ رأسِ والده، ذَاكَ العَجوز الطائش الذي جَرّ طفلا؛ لهذا المأثم الوبيل، كَانَ الريس ” شلقامي” تاجر البصل خامد الذّهن، ضعيفَ التّفكير، حين حَسِبَ يوما أنّ هزئه البرئ؛ سيسلم نجله الوحيد لهذا المسلك الوَعر، يطلق ضحكته المجلجلة، مُمتلأ بالسَّعادةِ وهو يَغرس طرف ” البوصة ” في فمِ الطفلَ الغرير، يشرق وجهه عن رضا واستقرار، قائلا لمن حوله:” إنّه الحيلة، لابد أن يشبّ رجلا “، لم يردعه تلاوم من حوله، الذين ضاقوا ذَرعا باستهتارهِ، فاكتفوا مع الزّمنِ، بنظرةٍ ساخرة يُغرِقونه بها، قائلين :” وليَعلمُنٍّ نبأهُ بعدَ حين!”، لم يَذُق ” كسبان” من مرحِ الطّفولة كغيره، ولم يُرى في حلقات اللعب إلّا لِماما،فهو دائم التّلهف للدخان، يشعل نيران ” الكوالح” يعرك حبات المعسّل اللّدنة عَركا متأنيا في الحَجرِ، ثم يفرش فوقها حبّات الجَمر، يغَيبُ قليلا في سحباتٍ ضعيفة مُتَقطّعة، تكتمل نشوته، حينَ تتنامى إلى سَمعهِ طشطشة ناعمة من قلب النّار؛ تنبئ عن أنّ طبخته قد نضجت، وما عليهِ إلّا أن يَلقي حصيره البالي أمام العتبةِ، ويجلس في خُشوعٍ يتعاطى كؤوس اللّذة، بمرورِ الوقت وبموتِ والده؛ أصبحَ لصاحبنا ” شلة” أُنس يُجَالِسونه، ما إن يمتلئ الزُّقاق بنفثاتِ دخانه الشّهي، حَتّى يتَقاطرَ رفاقه من كُلّ حَدبٍ ينَسلون، فُضلة من عَجائز لفظتهم الحقول، وبقية من العاطلين جَحَدوا الفأس فجحدتهم، لا شغل لهم سوى التّسكع خَلف أكوابِ الشَّاي، وتَعقّب أحجار المعسّل، تتمشّى ابتسامة على شَفتيهِ مُرحِبا بهم:” ألف أهلا بالرجاله”، بينَ تلافيف الظّلام يَنسلّ مرات في خِفيةِ اللّص مُعتليا سَطح الدّار، يملأ حِجره بكيزانِ الذّرة؛ يسدُّ عن نفسهِ غائلة رأسه، يَقولُ لأمهِ التي طفقت تلَطمُ وجهها في ولَولةٍ:” يعني اسرق علشان اشتري باكو المعسل؟!”، لا تمسك المسكينة دموعها إلّا ريثما تُرسِلها، قد اسلمت أمرها للهِ، هنالكَ يستعيد وجهه بعضَ نضارته، وتبتلعه ابتسامة المنتصر.
يُقسّمُ ” سيد بُرعي ” تاجر الحمير؛ أن أنف صاحبه يلتقط الدّخان من مسيرة يومٍ، تطربه كلمات الإعجاب من جلسائهِ الذين داروا ولائهم خلف ابتساماتهم المصطنعة :” والله أنت أنزه شاب في بلدنا، مرجلة وايدك فرطة”، في تيهٍ يمسك بطرف ( البوصة)، يتململ في جلستهِ، ترتسم على تقاسيمِ وجهه مخايل الكبرياء، مُتراخيا يطلقُ دخانه، وقد اغمضَ عينه وتركَ خياله يمرح.
كان الضّباب يذوب مُتثاقلا تحت ضربات الشّمس الحارقة، عندما طرقَ الباب ” مختار” شيخ الخفر، اختنق صوته يُوشك أن ينفَجر، باغت المرأة في عبوسٍ بغيرِ روية :” ابنك ممسوك في المركز، هجم على غيط العمدة”، كان صاحبنا قد عدل عن شرب المعسل، بعدما تركَ نفسه نهبا لسُلطانِ الغواية، باتَ مجلسه لا يكتمل بغيرِ سُطل الحَشيش، وفمه لا يتلمّظ إلا على عدس الأفيون، اخبرني من أثق في روايتهِ :” إن صاحبنا لا يفيق من شهوتهِ الآثمة، بعدما ضيّعَ الكيف حياؤه، وافقده إنسانيته”.
***
العقد الفريد
بَاتَ اخشى ما أخشاه؛ وطأة أصَابعها القَاسية، تَغرزها في جِلدي، تُمرِّرها بغلظةٍ حَول رقبتي المُلتهبة، اشعر بانسحابِ روحي لحظتئذ،تَهرس اللَّوزتين هَرسا مُؤلِما تَحتَ شَلالِ الزّيت الغامق، تُغرِقُ في هَوجٍ كُلّ شيءٍ حتّى ملابسي، يَتسرَّبُ فوقَ جلدي خيط بارد، يَتَشبّعُ بهِ جسدي الذي انتَفضَ تَحتَ نيّر الحُمى يَصطلي لهيبها، لم تُفلِح تَوسلاتي ولم تشفع أنّاتي، تُمرّر “الجدّة” يدها في سكونٍ ولذة، وكأنّها تَعزِفُ لحنا موسيقيّا، ومن حَولها تَراصّ الصّغارُ في فُرجةٍ مُفزِعة، مع الوقتِ تَتصاعد رائحة الزَّيت العَطنة، تملأ أنفي تسدّ عليّ مجرور الهواء الذي يوشك أن ينقطع، أخيرا انهت مهمتها، صَرَخت بنبرةٍ قلقة:” ناوليني عقد الفره يا بت”، نزلت هذه الجملة بردا وسلاما على صدري لتنزع عنها شكوكها، لحظات قليلة سيطرتُ فيها على لهاثي المكروب، أُلقي بطَرفِ عيني عليه محمولا بين الأيادي كوليدٍ مُدلّل، تتأرجحُ حبات ( الزلط) الملوّن في زَهوٍ، يُحدّثُ نَغما مُريحَا، يُخيّمُ مزيج الألوان المُتآلِف ليَنفضَ عَنّي بقَايا الذَّاكرة السَّيئة، يقولُ الشَّيخ ” فاعود ” :” عقد الفره تركة يتوارثها آل الشيخ، هي أحجارٌ كريمة، هبطت من السّماءِ”، يتناقل أهل القرية مُؤمّنين، رؤيا الخالة ” زكية ” حين زارتها الشَّيخة ” أم الخير ” ابنة الشِّيخ ” عطا القليوبي” في المنامِ فوصفت لها العقد، بعدما عَجَزت جميع الوصفات أن تشفي رقبتها، جَلّ خطره، واكتسب آل الشيخ مكانة فوقَ مكانتهم، يَطرقهم المريضُ في توسلٍ إطراقَ الذّاهل، وقد تفتّحَ لقلبهِ اليائسُ فُرجَة مِن أمل، أقسَمَ ” سيد الحرامي ” بتربةِ أمّه؛ إنّ العقد فيهِ سرّ عظيم، قَالَ في صَوتٍ مِلؤه الجَدّ:” حَاولت سرقته وبيعه لمشترٍ في البنّدرِ، وعند القنطرةِ حَرَنت الحمارة، فرمتني فاقد الوعي “، تَحت شمس الضُّحى الوليدة، استجمَعَ بقايا عافيتي، اتلمّس حَبّاته الغلاظ مُنتشيا، تنبسطُ الارض أمامي كمن آوى إلى رُكنٍ شديد، تتزاحم الكلمات في حزمٍ تُوصيني بالعقدِ، تمتلئ العيونُ تلقاني في شهوةٍ غريبة، وهمسات النّسوة تتغنّى بالعقد وفعله، حَاولت مرارا أن اصنَع شبيها، التَقط حَبّات ( الزلط ) بألوانها الفتّانة، اجاهِد في إحداثِ فجوة فيها بمسمارٍ محمي، باءت محاولاتي بالفشلِ، نصحني الأهل أن اعدِلَ عن هذا السّلوك، فهذه الأحجار ليست من صخورِ الأرض، بعد أسبوعٍ بالتمام جاءنا من يطلبُ العقد، اقتربت عجوز مني، نَزعت عن رقبتي المنديل، وفي خشوعٍ أزالت ” العقد “، بابتسامةٍ نحيلة يملأها الزّهو، برَقت بعينين، قائلة:” أحسن الوقت ؟!”، استجمعت شجاعتي المُوزّعة، هَززتُ رأسي مُجيبا:” الحمد لله “.
ها أنا ذا اقضي جُلّ نهاري في عِيادةِ الطّبيب انتظر لابني موعدا، بعد مُعاناةٍ؛ أوصى بحتميةِ استئصال اللَّوزتين، تتسلّل شمس ما قبلَ حلولِ المساء فاترة على غيرِ وهجها المعتاد، تقف مُودّعةٌ، اجدني انتزع نفسي من براثنِ الذِّكرى، اتحسّس رقبتي، مُتمنّيا للجميعِ السّلامة..