أنا “العَبيطُ“
الذي يَعيشُ عُطْلةَ الكَلامِ،
“القَدرِيُّ” المَهزومُ
مَكْسُورُ الظَّهرِ حتَّى آخِرِ قَطرة ٍ
مِن عَرقٍ
صَاحِبُ ديوانِ
“شَخْصٌ جَديرٌ بالكَراهية“
أخَافُ أن يَضَع َ صَاحِبي
“السيدةُ فقدتْ زَوجًا في الحَربِ“
فِي دُرْجِ الكِتَابةِ الانْتقَامِيةِ،
أنا “المَعْرفِيُّ“
الذي لا يَعْرِفُ
سَقطتُ فِي بِئرِ الضَّحَالةِ
ولَم أَصْمُدْ
فِي مَعْركةِ الكَلامِ،
أنَا “كُرةُ الثَّلجِ“
تَقاذَفتْني أقدامُ النِّساءِ
حتَّى ذُبتُ تَمامًا
ولم يَبقَ منِّي سِوى شَجَرةٍ
تَغْلِي الدِّمَاءُ فِي عُروقِها
وتَنظرُ الطُّيورُ إليها شَذَرًا
بَعْدمَا “خَرَّبْتُ حَياتي
في هَذا الرُّكنِ الصَّغيرِ مِنَ العَالمِ“
أنَا “النَّدمُ الأَسْوَدُ“
يَسْعى فِي الأسْوَاقِ
وفِي آخِرِ الليلِ يُؤويهِ الرَّصِيفُ،
نِمْتُ معَ امْرأةِ المُحَاربِ الرِّعديدِ
وفِي رَأْسِي حِكايةٌ
عَنْ تِكرارِ اللعبةِ الهَزليَّةِ
في مملكةِ النحلِ،
أنَا الذي يَأسَى الآنَ
لمُكالمةٍ بَذيئةٍ مَعَ الزَّوجِ السريِّ
لامْرأةِ السَّرطانِ
كانَ مِسكينًا هُو الآخَرُ!
أنَا الذي رأى (الغَريبةَ) عن البِلادِ
شَبحًا فِي سَريرٍ
تَبِعتُ رِيقَها فِي فَمِ (الضَّحيةِ)
وفِي ذاكِرةِ الصِّغارِ
ولم أَعْثُرْ عَلى أثرٍ
كَانتْ وَهْمًا إذن!
أنا “الوُجُودِيُّ “
الذي لم يَكنْ فِي مَكانٍ،
“الشُّيوعِيُّ” الذي تَنبَّأَ بالثَّورةِ
فِي “حَارسِ الفَنارِ العَجُوزِ“
ولم يُشَاركْ فِي “جُمعةِ الغَضَبِ“
“الحُلُولِيُّ“
حَللتُ فِي جَسدٍ ليسَ لِي
فَحقَّت عَليَّ اللعنةُ
وَطوَّقتْ رُوحِيَ رِيحٌ مَسْمُومَةٌ،
أنَا الذي رَأى البَحرَ
يَقذِفُ جُثَّتي
تَحْتَ قَدميْ سَيِّدةٍ سَوداءَ،
والسَّيدةُ تَنتظِرُ جُثةَّ جَديدةً
سَاعَةَ غُروبِ الرُّوحِ،
تَصْنعُ مِنْ عِظَامِها بِرْوَازا
مُلائما لطُقوسِ الوَحْشةِ،
ثم تَعودُ إلى مُتْحَفِ الشَّمعِ
فِي الشُّقةِ القَديمةِ،
تُضِيفُ إليها تَذكَارًا جَديدًا!
أنَا “الغِنائيُّ” “الخَاسِرُ” “الضَّائعُ” “المَهزومُ” “المُتردِّدُ” “الكَسولُ” “الشَّكَاكُ” “الصَّامتُ” “الوَحيدُ” “الحَزينُ” “الخَائفُ” “الرَّمَاديُّ“
ولا خَجَلٌ
أنَا كُلُّ هذهِ “اللَّخبطة“
أو كَما قَالتْ صَديقتِي يَوْمًا:
“أنتَ… وَلا حَاجَة“!
———-
من ديوان شخص جدير بالكراهية
أربعون عاما من الحروب الصغيرة
وهو يفعل الأشياء ذاتها
يقطع الشوارع
بروح شاحبة
وكأنه علي شفا موت مجاني,
يلتقي ذات الوجوه
العائدة من معارك خاسرة,
إنه بائس
لا جديد لديه
يصحو يوميا في الظهيرة
يمسح عن وجهه
ست ساعات من النوم المتقطع
بالماء الفاتر,
ثم يبقي علي طرف السرير
مغمض العينين,
يخطو نحو المرآة
لا يري أحدا علي سطحها المصقول
ولا يثير ذلك لديه أدني اهتمام
فالمرآة لا تري
يزيل عن شعره غبار الكوابيس
محدثا نفسه:
(كأنني أنام في الشارع
رائحة الشواء, والدخان, والضوضاء
في الخارج
تتسلل عبر النافذة,
وفي الداخل
يقاوم الصغار النعاس
بجلبة البحث عن كتاب ضائع
في مكان لن يصلوا إليه)
كأنه ينام في الشارع
منذ أربعين عاما,
شروده لا يغري بالاقتراب
يبدو مكتفيا بذاته
متصالحا مع نفسه,
وأن رأسه صارت عبئا علي كتفيه
لذا يتحرك بسأم نحو نهاية
يزعجه التفكير فيها
وهو في طريقه إلي المترو,
يذهب إلي عمله بشكل آلي
لا يفكر في شيء محدد,
يجلس إلي المكتب
يريح رأسه بين راحتيه للحظة
كما يليق بمحبط
يطالع أوراقا تحتفي بالرطانة
لا معني لما يفعله
ولا طموح لديه في الوظيفة,
اشتكي لصديقته إحساسه باللاجدوي
فصرخت: إنها القصيدة.. اكتبها واسترح,
لنفترض أنه استجاب لا إراديا
لتلك الصرخة المفاجئة
طيب.. ماذا بعد ؟!
إنه يصحو وينام, يتكلم ويصمت,
يلتقي وجوها ويودع أخري,
يتذكر وينسي,
يأكل ويشرب كواجب وظيفي
سأم.. سأم.. سأم
يدفعه إلي حافة الغثيان
تلازمه مقاطع من’ صلاح عبد الصبور’:
كنا علي ظهر الطريق عصابة من أشقياء
متعذبين كآلهة
بالكتب والأفكار والدخان والزمن المقيت’
و:
’ يا صاحبي إني حزين
طلع الصباح فما ابتسمت ولم ينر وجهي الصباح’
أو:
‘ كم أنت قاس موحش يا أيها الإله’
أحد أصدقائه لفت انتباهه
إلي أنه كثيرا ما يستخدم أدوات النفي
حاول البحث عن تفسير
وبالرطانة التي يمجها
تقمص هيئة شخص آخر
وقال: يا عزيزي, ربما يعود الأمر
إلي الرغبة في حذف الآخرين
أو الصراخ في فضاء مزدحم: إنني وحيد
إنه يكذب
معتقدا أن الكذب يمنحه حيوية سرية
يفتقدها,
مع أن الموضوع بسيط للغاية
فهو إنسان سلبي
اعتاد حياة مملة علي مدار أربعين عاما,
لا يحب المفاجآت حتي لو كانت سارة
صديقته قالت له:
( حارس الفنار العجوز, أرهقه الترحال,
فارحمه, وكافئه بامرأة ترتدي الأسود,
لكنها تري الوجود مزدحما بالألوان)
هي لا تدري أن أزمته الحقيقية في الإقامة
لا الترحال,
إيقاع حياته الرتيب
حرمه من شجاعة أن يمد إليها يديه, حين وقعت كالذبيحة
بين أنياب الأبوة الزائفة للعم الجليل, والأخ غير الشقيق,
وابن العم, وصاحب البناية المتهالك, ومدير المدرسة
المتصابي.
لابد أنها ألغت من برنامجها اليومي التفكير فيمن دعته
حارس الفنار العجوز, فهو لا يختلف كثيرا عن هؤلاء,
فقط يستطيع أن يتحدث عن آليات الكتابة, وحرية المحب
في أن يقبل محبوبته في ميدان عام, حتي لو ثقب الرصاص
ظهره, ثم يتحدث بصورة جارحة عن ثقافة آبائه, التي
لا تنتصر لفكرة تعدد الزوجات.
إنه يستمرئ حالة الواحدية
التي عاشها عمره كله
كأنه قطار
إذا حاد عن مساره
وقعت كارثة
لقد نجت صديقته
رغم أن البدائل المتاحة أمامها
غير مقنعة
كانت ستدخل جحيمه الروتيني,
وكان سينصرف معذبا بقدرته علي ظلم نفسه
والله!
أحيانا
يراه الواحد شخصا جديرا بالرثاء
وضعوا حياته بين يديه,
وقالوا له: كن كما تشاء
لكنه لم يكن,
واكتفي بالبكاء علي أربعين عاما تولت,
أمامه فرصة أخيرة
لو أنه يجرؤ علي إتيانها
حقيقة أنه هو نفسه يفكر فيها
من آن لآخر
فماذا يضيره لو أنه تخلص من أسماله, ومشي عاريا,
ينام علي شاطئ بحر أو رصيف, يمشي في صحراء,
أو يمكث تحت شجرة في حديقة عامة, وبمرور الوقت,
يصير جزعا لها.
لكنه جبان
لا يجيد التصرف في حياته
ولذا
سيظل يبكي أربعين عاما من الحروب الصغيرة
وحبيبة ضيعها تحت ذرائع تافهة
مثل تناقضاته الخفية,
وثقافة آبائه
الذين لم يعيشوا الحياة أصلا!