قصائد للشاعر يوسف القدرة

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

يوسف القدرة

(1) 

أنا يوسف القدرة،

أمضيت حتى الآن ٤١٢ يومًا في الحرب.

أحسبها شمسًا تسقط،

ثم شمسًا تعود،

لكنها لا تحمل معي الضوء. 

تسألني الريح: أين أيامك؟

فأقول:

دفنتها مع حجر الطاحونة،

حين هربتُ من النار

إلى كهف زيتونة جريحة. 

كان البيت يئنُّ حين مشيت،

وبابه يبكي إذ لمسته.

حتى البحر، الذي كان يغني،

صار يشبهني:

ساكتًا،

لكن في داخله زئير الجراح. 

أنا يوسف القدرة،

حملتُ التراب على ظهري

وكأنه خيطُ حياة.

قطعت المسافات

بين وردة برية

وبين شوكة.

كلتاهما تحكي القصة ذاتها. 

يا يعقوب الحقول،

أرضك ما زالت عطشى،

والمطر الذي وعدونا به

صار حجارة.

حتى قمحك الذي خبأته في الأغنيات،

احترق مع السنابل

قبل أن تلمسه فم الطيور. 

أنا يوسف القدرة،

أحببت الشقائق،

لكنها لم تُزهر إلا في قبور أحبتي.

كنت أحلم أن أكون راعيًا،

لكن الغنم ماتت،

وبقيت أنا

أقود عربة تحمل الرماد. 

٤١٢ يومًا،

وكل شيء يشبهني:

الشجر بلا أوراق،

السماء بلا طير،

وأنا، بلا وجه. 

ولكنّي، يا ريح البلاد،

ما زلت أزرع حبّة

في قلب التراب.

لعلّها تنبتُ شيئًا،

لعلّها تكتب يومًا

“هنا مرّ يوسف القدرة،

وهنا وقف،

وهنا كتب،

وهنا عاش.” 

….. 

(2) 

أن تكون في الأربعينيات

أن تتكئ على شرفة الوقت، تراقب أيامك وهي تلوح لك من بعيد،

تحصي ما تبقى من مدنك الداخلية بعد قصف الأحلام وسقوط الأمنيات.

أن تضحك لمرآتك التي تجيد سرد الحكايات، خطوطها ليست خرائط للعمر فقط،

بل خنادق عبرت منها بسلام، وندوب لم تُمح. 

أن تُحسن جمع الخيبات، تعيد ترتيبها لتصنع منها سُلّمًا نحو حلم جديد،

رغم الركام الذي يحاصر طريقك.

أن تصحو على صوت القلب وهو يقرأ نبضه ببطء،

لتتذكر أن الركض خلف الحياة كان سباقًا تحت سماء ملبدة بالطائرات. 

أن تجالس وحدتك كما تجالس صديقًا قديمًا،

تحكي لها عن ليالٍ أُطفئت فيها الأغنيات،

عن أحلام خبأتها تحت الوسائد خوفًا عليها من شظايا الحرب. 

أن تدرك أن الوقت لم يعد خصمًا، بل حليفًا يسير معك بخطى واثقة،

تحتسي معه قهوة الصباح على نوافذ مهشمة،

تبتسم لحكمته وتبكي أحيانًا لصمته المدوي. 

أن تجمع شتات الأحلام التي خذلتك،

وتكتشف أن بعضها كان يحتاج فقط إلى صمود أطول لينضج،

وأن قلبك الذي تذوق الفقد قد صار قلعة. 

أن تكون في الأربعينيات،

يعني أن تقف على منتصف الجسر، تنظر إلى الماضي بود،

تحمل في يدك فانوس الأمل،

وتضيء به طريقًا لم يزل يعبر بين الأنقاض. 

…….

(3) 

يقف الذئبُ على حافة المعنى،

يرتدي ظلّه الوحيد،

ويراقب الغابة وهي تُشيح بوجهها عنه.

لا أشجار تُؤنس غربته،

ولا قطيع يسأل عن جوعه. 

يأتي العدوُّ بثقله،

كما تأتي الجبالُ إلى السهول،

ينثر صوته فوق التراب،

ويترك خطاه شِراكًا للريح.

لكنه لا يرى الذئب،

الذئب الذي لا يحتاج إلى أكثر من عينيه،

ولا سلاح له سوى الصبر

وحكاية طويلةٍ عن النهايات. 

في الليل،

حين تنام البنادق

وترتب النجوم أماكنها في السماء،

ينسلُّ من العتمة كقصيدة بلا وزن،

يهجم على المعنى كما يهجم الوقت على الصور.

هو لا يحارب،

بل يعلن حضوره على جبهة الأرض:

“أنا البداية،

وأنا الذاكرة التي لا تنسى”. 

وحيدًا،

يعيش الذئب بين الموت والخلود،

يترك أثره في التراب

ويختفي،

كأن الأرض نفسها

كانت تخشى أن تبتلع الحرية. 

…..

(4)

على باب القيامة،

ينام المتعبون.

كلبهم باسط ذراعيه

على الحلم الذي لم ينبت،

وعلى الصمت الذي طال. 

الطريق حجرٌ يتفلت،

والمآذنُ،

حنجرةٌ مثقوبة

تصلي لأجراسٍ فقدت صوتها.

الظل لا يرافق الجدران،

والأجساد تجتاز أجسادها

كما يعبر الماءُ في الماء. 

يا ويل الخرافة،

تلك التي حرسناها بأهدابنا،

زرعنا في أفنيتها السراب،

وربَّيناها كما تربينا

على لطم السياط

في أزقةٍ تركها الضوء. 

الصخور تشبه الماء،

لكنها لا تتفتت.

مثلنا تمامًا،

نحمل شظايا الحقيقة في صدورنا،

ولا نصل. 

كل الجهات صارت ضريحًا،

كل الطرقات تنحني

كعصا تترك ظلالها للريح.

وكل المسافات،

جفاف في فم الشمس،

يُصعِدُ الكلام،

ثم يتركه يسقط،

مثل نجمٍ أخطأ موته. 

سيثور الضحايا يومًا،

لكنهم الآن صامتون.

ينتظرون ولادةً لا تأتي،

حلمًا لم يُكتب،

وسرابًا يرث الأرض. 

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم