داليا طه
الآن، تعالَ أيُّها الصَّمت
لن نجِدكَ في قائمةِ أكثر اللغاتِ انتشاراً. ولكن بكَ تتحدَّثُ معظمُ البشرية: الذين قفزوا عن الأسطُح، النساءُ في المَصحّاتِ العقليَّة، شعوبٌ كاملةٌ اقتيدَت من قارّتِها ووُضعَت في قَبْو السُّفن، المراهِقاتُ في مؤسَّساتِ الإصلاح، الركّابُ الواجمونَ في حافلةٍ خرجَت من عراقِ المنشيّةِ نحوَ المجهول. أنتَ كُلُّ ما نملِكهُ لنحاورَ التلالَ مثلاً، أو الغيومَ العابرة. بدونكَ المسرحياتُ رديئة. بدونِكَ لن نقفَ مُطوَّلاً أمامَ اللَّوحاتِ منتظرينَ منها أن تفتحَ لنا أبوابَها، أن تعبُرَ إلينا من جروحنا. بدونكَ لم نكُن لنعرفَ أبداً أنَّهُ من المُمكنِ أن نحكيَ مع أنفُسِنا. أنتَ في الصُّوَرِ الفوتوغرافيةِ لأصدقائِنا، معكَ يبدونَ وأخيراً كما هُم: أغراباً. أنتَ آخِرُ ما يظلُّ من المُظاهرة، تُطْبقُ على المشهدِ للأبَد، خالعاً أنفاسَنا، مُتخفّياً في الأشجار. أنت ما سنسمعُهُ لو أننا في الحقيقةِ نُنصتُ جيِّداً للتاريخ، وأنتَ ما سنجدُهُ في قلبِ المُدنِ المُزدحِمة، على الوُجوهِ المدفونةِ في هواتفِها، في نظراتِها المتردِّدَةِ نحوَ الآخَرين. أيها الصَّمت، نحنُ لا نبني قُبوراً، هذه ألسِنتُكَ الحجَريَّةُ، تُغمغِمُ سنةَ الوِلادةِ والموت، كأنَّهما أغنيتُكَ المُفضَّلَة.
**
والآن، تعالَيْ أيَّتُها القَصيدة
القصيدةُ الأخيرةُ التي قرأتِها على هاتِفِكِ المَحمولِ
-وضَوْؤُهُ يُنيرُ وجهَكِ-
في الباصِ القادمِ من القُدسِ
واقفةً، تستَنِدينَ على البابِ
حقيبتُكِ بينَ قَدَمَيْكِ،
وهاتِفُكِ في يَدِك
القصيدةُ التي تُفكّرينَ بِها الآنَ
وأنتِ تقطَعينَ دُوّارَ المَنارة
يداكِ في جَيبَتَيكِ
ولَفحتُكِ تُغطّي نِصفَ وَجهِكِ
القصيدةُ التي قرأتِها أولَ شَيءٍ في الصباحِ قبلَ أن تستَيقِظي تماماً
قبلَ أن يُهاجِمَكِ العالَم
القصيدةُ التي قرأتِها في سَريرِكِ في الانتفاضَةِ الثانِية
بينَما الدَّبّاباتُ تُحاصِرُ المُقاطَعة
وأنتِ لا تعرفينَ شيئاً عن العالَمِ بَعد
القصيدةُ التي قرأتِها في صَيْفٍ حارٍّ
في مدينةٍ غريبةٍ لم تتعرَّفي فيها على أحد
القصيدةُ التي قرأتِها وأنتِ تقرَئينَ كتاباً آخَر
القصيدةُ التي قرأتِها على بُرشِكِ في الليلِ بعد أن نامَ جميعُ الأسرى
القصيدةُ التي تعرِفُ شيئاً لا تعرفينَهُ بَعدُ عن نفسِك
القصيدةُ التي لا تذكُرينَها تماماً ولكنَّكِ تذكُرينَ كيفَ مَشَيْتِ في نابُلْسَ بَعدَها
وكأنَّ العالَمَ سِرٌّ هائِل
القصيدةُ التي قرأتِها في الحَربِ
ولم تُواسِكِ ولكنَّها شتَّتَت انتباهَكِ للَحْظات
القصيدةُ التي وجدتِها وأنتِ تتَصَفَّحينَ بِمَللٍ كتاباً في بيتِ أصدقائِكِ
لأنكِ لا تجِدينَ ما ستقولينَه
القصيدةُ التي ظَلَّ جَدُّكِ يُردِّدُها حتى بعدَ أن فقَدَ عقلَه
القصيدةُ التي قرأتِها آلافَ المرّات
القصيدةُ التي أردتِ أن تُشارِكيها معَ كُلِّ شَخصٍ تعرفينَهُ
القصيدةُ التي تُفكِّرينَ بها الآنَ
وأنتِ تقطعينَ دُوّارَ المَنارَةِ
يداكِ في جيبتَيْكِ
ولفحتُكِ تُغطّي نِصْفَ وَجْهِكِ
تستَوْقِفُكِ الأشجارُ
ولا تعرفينَ أينَ ستَذْهَبينَ
تُشْبِهينَ الصَّقيعَ
هائِمةً ووحيدةً
تَمشينَ وتَشرَبين الضَّباب
*
والآن، تعالَيْ أيَّتُها الشَّمس
إذا أردتَ أن تَرى الشَّمس
عليكَ أن تتفرَّجَ على الجبالِ والوُجوهِ
هناكَ على أكثَرِ الأشْياءِ قُسْوةً في هَذا العَالمِ
بين الحَشَائشِ والصخُور
بين الرُّموشِ والأسنَانِ
تصيرُ كُرَةُ اللَّهَبِ نوراً وظلالاً
قِصَّةً مِن حقيقَتيَن.
عليكَ أن تتفرَّجَ على العُشبِ المُبلَّلِ بالمَطَر
هناكَ على الأجسامِ الهشة
تُغنّي الشَّمسُ الهائلة أرقَ أُغنياتِها
وتتمزقُ إلى آلافِ الشُّموسِ الصَّغيرة.
تلمعُ في كُلِّ قطرةٍ
تُغنّي على كُلِّ عُشبةٍ.
مَهما كانتِ الكَآبَةُ تَرفضُ أَنْ تُغَادرَك
سَتَنسلُ الشَّمْسُ منَ النَّافذَةِ وَتُدَاعِبُ خَدَّكَ
وَستُضِيءُ لكَ الغُرفةَ بِأَكْملِهَا.
لا يهمُّها أنَّنا نقتلُ بَعضُنا البعض
كُلَّ صباحٍ تأخذُ بأيدينا نحوَ الحقيقةِ والجَمال.
حنونةٌ مع الأكثرِ عَمىً بينَنا
تقبِضُ بِقُوَّةٍ على يدَيْهِ.
لا يملِكُ أدنى فِكرةٍ كَم هي بعيدةٌ
بالنسبةِ له
هي على وجهِهِ
وعلى أصابعِهِ.
لم يرَ أبداً كيفَ تظهرُ فجأةً بينَ الغيوم
وتأخذُ كُلَّ الكائناتِ في حُضنِها
في عقله، هي له وَحدَه.
على الحاجز: تتوهَّجُ على خُوَذِ الجُنود
وتسطَعُ على زُجاجِ السَّياراتِ الواقِفة.
أينما كُنتَ واقفاً تستطيعُ أن تراها دائِماً
على الجِهَةِ الأُخرى
تُضيءُ تلالَ أعدائِك.
*
والآن، تعالَيْ أيَّتُها الكِتابَةُ في الهامِش
كَتَبَ الأسرى في كُلِّ مَكان
على حيطانِ السِّجْنِ، ووَرَقِ الزُّبْدةِ، وأغطِيَةِ عُلَبِ اللَّبَن.
ولكنْ لا يوجَدُ مكانٌ كَتَبوا فيهِ
أجمَلَ مِن هوامِشِ الكُتُب.
هناكَ، في الفَراغِ
تجِدُ كلِماتِهم مضغوطَةً
كأنَّها أيضاً مَحشورةٌ في زِنْزانَة.
الكلماتُ في النَّصِّ مُستَقيمَة
مِثلَ غُرَفِ المُعتقَل
تَتلُو بَعضَها البَعض،
أمّا خُطوطهم فَمائِلَةٌ ومُتَعَرِّجَة،
تستطيعُ أن تَرى فيها اللَّحظَةَ حين تَفاجَأ العَقل.
هناكَ تَعيشُ الفِكرةُ على الوَرَق
كَما تعيشُ في الذِّهن
سَريعةً وخاطِفَةً
على وَشَكِ أن تَهرُبَ دائماً..
ما إنْ تَظهَرْ حتّى تشعُرَ بيَدِها
تتَفَلَّتُ مِن يَدِك.
كَم يَبدو النَّصُّ ثَقيلاً مِثلَ دَبّابَة
مِثلَ سِجْن.
كَمْ تَبدو الفكرَةُ حُرَّةً
مِثلَ سَهْم.
*
والآن، تَعالَيْ أيَّتُها الكَلِماتُ في الحَرب
لا يوجَدُ شخصٌ لا يكذِبُ في الحَرب
فَلنبدأْ من هُنا:
كُلُّنا كاذِبونَ الآن، ما نقولُهُ ليسَ ما نُحِسُّ به.
ما نفعلُهُ ليسَ ما نرغبُ بأن نَقومَ به.
في الطَّريقِ شاحناتٌ تَنقُلُ الأكفان.
تحتَ العَجَلاتِ،
ماتَ رجلٌ وهو يُحاولُ أن يسرِقَ كيسَ طَحين.
في ساحَةِ المَأوى يركُضُ طِفلٌ
يُغَطّي الشّاشُ يَدَهُ اليُسرى
ورأسَ أُمِّهِ.
وعلى الأرضِ،
ينزِفُ الشّابُّ الضَّحوكُ مقتولاً قُربَ دَرّاجَتِه.
وهناكَ في غُرفةِ الصَّفِّ:
يفتحُ رجلٌ هاتِفَهُ ليُري الصِّحافِيَّ صورةِ
الوُرودِ التي زرَعَها حولَ بَيتِهِ المَقصوفِ
ثم يبحثُ عن واحِدَةٍ أفضلَ.
في الحربِ
على الكلِماتِ والأشجارِ فاكِهةٌ ودَم.
*
والآن، تعالَوْا يا سُكّانَ المَدينَة
كُلُّ قصائِدي هيَ مُحاولةٌ لأنْ أنقُلَ على الوَرَقِ القصائِدَ الحقيقِيَّةَ مِن حَوْلي. سُكانُ مَدينَتي، ألتَقيهِمْ في النَّهار، وأكتُبُ عنهُم في الليل. في النَّهارِ أرى أعيُنَهُم والهالاتِ السَّوداءِ أسفَلَها يتزاحَمانِ عَلى الوَجهِ كَما تتَزاحَمُ القَصيدَةُ والفَراغُ على الورَقَة. وفي الليل أتساءَلُ ما الذي سَجَلَتْهُ أعيُنُهُم التي تُشبِهُ عدَسَةَ الكاميرا. ماذا يَظهَرُ في أحْلامِهِم التي تجعَلُ كُلاًّ مِنهُم في الصَّباحِ شارِداً، يُفكِّرُ بِها؟ ما الأفكارُ التي تدورُ داخِلَ رأسِ كُلٍّ مِنهُم، خلفَ وَجهِهِ الذي يبدو مِثلَ ورَقَةٍ خرَجَت للتَّوِّ مِن الطّابِعَة. أنا لا أعرِفُهُم. أنا لا أعرِفُ مِنهُم سِوى أعيُنِهم، مائِلةً وحَزينةً. ووُجوهُهُم التي تَبدو مِثلَ جُزُرٍ استِوائِيَّةٍ مِن الرَّملِ تقطعُها الظِّلال. وهالاتُهُمُ السَّوداءُ التي تتَحوَّلُ هي والأشجارُ إلى أشكالٍ مُتَوَحِّشَةٍ في المَساء، وأنَّهُم يَهيمونَ في شَوارعِ المدينةِ تحتَ الأشجارِ مِثلَ أغلِفَةِ كُتُبٍ مُستَعمَلَة. بينَ التِّلالِ التي تَبدو أنَّها تُحَدِّقُ بهِمْ أكثرَ مِمّا يُحَدِّقونَ بها، والمُستوطَناتُ على قِمَمِها، وبينَ الجُمَلِ المَكتوبَةِ على جُدرانِ مدينَتِهِم، كما لو أنَّهُم جُمَلٌ أيضاً، أو عَلاماتُ سُؤال. وأحياناً يَصيرونَ هُم هذهِ الجُمَلَ ويَموتونَ واقِفينَ كالأشْجار.
أنا لا أعرِفُك، ولكنَّني أعرِفُ أنَّهُ يَفعلُ شَيئا في الوَجهِ
أن تَعِيشِ حَياتكَ وأنْتَ تَتَفرَّجُ على سُورِ المُستَوطَنَةِ وكاميرَاتِ المراقَّبةِ والجُنُودِ والأسْلِحَة
يَتَمدَّدانِ على وُجُوهِ جِبَالكَ
*
والآن، تَعالَيْ يا خَسارات الحرب اللامرئية
تخسَرين البَحرَ الذي ترَيْنَهُ بَعدَ أن ترفَعي رأسَكِ عَن كِتاب.
تخسَرين السُّحُبَ التي تَمشي فوقَ المَدينةِ
وأنتِ تَمشينَ أسفَلَها عائِدةً مِن مَتجَرِ الكُتُب.
تَخسَرينَ العَتمَةَ الخاصَّةَ التي تَلُفُّ البيتَ
بعدَ أن تُطفِئي كُلَّ المَصابيح،
حيثُ لا شيءَ مُضاءٌ سِوى الصَّفحةِ التي وَصَلْتِها في الكِتاب.
تخسَرينَ الشّارعَ الذي اقتلَعوهُ.
وتخسَرينَ صَوتَ الأشجارِ والأطفالِ على الدَّرّاجاتِ الهوائيَّة
تدخلُ مِن كُلِّ نافذَةٍ في البَيت.
تخسَرينَ الأبراجَ التي فَجَّروها،
وتخسَرينَ النُّجومَ المَرسومَةَ بقَلَمِ الرَّصاصِ قُرْبَ الجُمَلِ الآسِرَةِ في صَفْحاتِ الكُتُب.
تخسَرينَ آلافَ وآلافَ الصَّفْحات،
ملايينَ الأحْرُفِ.
تخسَرينَ الطّاولاتِ والرُّفوفَ وحِفَفَ النَّوافِذِ المُغطّاةِ بالنَّباتاتِ،
والكُتَبَ التي تتراكُمُ فوقَها بإهْمال.
تَخسَرينَ مكتبةَ الصَّديقةِ التي تشعُرين بأنَّها مَكتبتُكِ أيضاً
لأنَّ فيها الكثيرَ مِمّا قرأتُماهُ سَوِيّاً عَبْرَ السِّنين،
ولكِنْ فيها دائماً عناوينُ كُتُبٍ قرأَتْها لِوَحدِها،
وتلكَ التي ستقرأُها دونَكِ.
تخسَرينَ العناوينَ والرُّفوفَ وأسماءَ المُؤلِّفين،
كُلَّ هؤلاءِ الأغرابِ الذينَ كانوا يَعيشونَ في بيتِك.
تخسَرينَ وُجوهَ أحِبَّتِك نائمةً قُربَكِ ومَدفونَةً في العَتمَة،
ولا شيءَ في البيتِ مُضاءٌ سِوى الصَّفحةِ التي وَصَلْتِ عندَها.
لَستِ مُستعدّة بَعدُ لأنْ تضَعي الكِتابَ على جَنْب،
لَستِ مًستعدَّةً لأنْ تُطفِئي آخِرَ مِصباح،
لأنْ تُطبِقَ العَتمةُ على البيتِ بأكْمَلِه.
*
والآن، تعالي يا شجرة الزيتون
خضراءُ، طَوالَ العام: في الثَّلجِ وفي العاصِفَةِ وفي آخِرِ الصَّيف. فقَط مِن أجلِ الليلِ تُغَيِّرُ نفسَها وتصيرُ فِضَّيَّةً. فقَط من أجلِ الحُبّ. في فلسطين هناكَ ثلاثَةَ عَشَرَ مليونَ زيتونَة. ثلاثةَ عَشَرَ مليونَ حِكايَةِ حُبٍّ تنَتشِرُ على التِّلال. ثلاثَةَ عَشَرَ مليونَ قِصَّةٍ شائِكَة. كأنَّ لِكُلِّ فِلسطينِيٍّ في العالَمِ زَيتونَة، في الأرضِ تَمُدُّ جُذورَها وأمامَ المُستَوطنَةِ ترفَعُ عُنُقَها. إذا أردتَ أن ترى قَسوَةَ البَشَرِ تعالَ إلى بِلادِنا. إذا أردتَ أن تَرى أحلَكَ جُزءٍ في الليلِ اذهَبْ إلى الزَّيتوناتِ وحَدِّقْ بينَ أذرُعِها- ستَشعُرُ أنَّكَ تَتَجَسَّسُ على الليلِ في غُرفَتِه. هي لا تخافُ مِن روحِه المُظْلِمَة وهو لا يخافُ مِن أغصانِها الشّائِكَة. هناكَ يملِكُ كُلُّ فلسطينِيِّ حِصَّتَهُ مِن الزَّيتِ ومِنَ الحَّلكة. هناكَ يملِكُ كُلُّ فِلسطينِيِّ حصته مِن الذَّهَبِ ومِن الدَّم. وفي موسِمِ قَطفِ الزَّيتونِ تجرَحُ الأيدي والسَّواعد، وعلى التِّلالِ يخرُجُ المُستَوطِنونَ لِصَيدِنا وتتَحوَّلُ الوِديانُ البَرِّيئَةُ إلى ساحَةِ حَرب، إلى مِعصَرَة. مِن حَنَفِيَّةٍ يخرُجُ السائِلُ الذَّهَبِيُّ، ومِن أُختِها الدِّماء.
ونَعودُ بِتَنَكاتِ الزَّيت، والأكْفان.
وحينَ تَشعَطُ المَرارَةُ حُلوقَنا
نَشعُرُ أنَّنا ذُقنا طَعْمَ الوطَن.
*
والآن، تعالَ أيُّها الصَّباح
أُحاوِلُ أن أفهَمَ ماذا يَعني الصَّباحُ للنّاس
حيثُ ما زالوا يُفكِّرونَ حتّى وهُم يَنحَنونَ أمامَ صناديقِ الخُضار
أو ينفُثونَ السَّجائِرَ بِشُرودٍ أمامَ أبوابِ مَحالِّهِم،
بِمَن ظهَروا في أحلامِهِم.
حيثُ لازالت الأحلامُ عالِقَةً بأرْواحِهِم
ولايزالُ الضَّبابُ يَسبَح فَوقَ التِّلالِ
حيثُ لم ينتَهِ بعدُ ذلكَ الحِوارُ الصّامِتُ معَ أنفُسِهِم
وحيثُ أسئلةٌ غريبةٌ تندَفِعُ في أذْهانِهِم
وهُم مُستغرِقونَ في مَهمَّاتِ الصَّباحِ الأولى:
هَل أُحبُّ ذلكَ الشَّخصَ الذي ظهَرَ في الحُلْم؟ لماذا حَلُمتُ بمَنْ لَم أُحدِّثْهُ مِن سِنين؟
لماذا ضاعَ ابني مِنّي في الحُلْم؟ وزارَتْني الصَّديقةُ التي استُشهِدَت؟
وحيثُ مازالت النَّظَراتُ تلمَحُ الطُّيورَ الجاثِمَةَ على الأسْوارِ،
والحَشيشِ الذي نَما في أماكِنَ ليسَتْ له،
وقطَراتُ النّدى على الأوراقِ.
وحيثُ لا يَبدو غريباً بعدُ
أنَّ للأشجارِ لُغةً لا نعرِفُها
وأنَّنا، مثلَها، نستطيعُ أن نتحدَّثَ معَ أنفُسِنا للأبَد.
الصَّباحاتُ للندى والأفكارِ والحوارِ الصَّامتِ مع النَّفسِ،
ثمَّ يَختفونَ بسرعةٍ.
ومثلَ الشّعرِ
لا يَتَبَقَّى أيُّ بُرهانٍ على ما فَعَلوهُ
بالعالمِ والأرواحِ
………………….
*مختارات من ديوان “والآن، تعال أيها العالم”