قشرة موز

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 1
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

لستُ حكواتياً، ولاتتوقعوا شيئاً من الإثارة التي يتعمدها الرواة، سوف أسرد لكم حكايتي فقط ، أرويها كما هي، بدون زيادة أو نقصان، أرويها بالرغم من كوني ميّتاً، فالموتى يحبون أن يثرثروا أيضاً بخصوص بعض التفاصيل التي عادةً ماتغيب عن صفحات الوقائع التي دُونَت رسمياً، بطريقةٍ يظنون بأنها ملفقة أوغير عادلة تماماً على الأقل. نعم أنا ميتٌ من زمنٍ طويلٍ، بالضبط بعد فترة قصيرةٍ من خريف ذلك العام، حيث كانتْ سماءُ أحد الأيام غائمةً، وحصلتْ حادثةً حزينة أو ساخرة، كان من نتائجها على كل حال أنني ميتٌ الآن.

كان تنظيفُ الحمامات والمراحيض في المطار، هوعملي الذي قضيت فيه عدة سنوات. ذات يوم، وعند العاشرة صباحا، دخلتُ بيدي سطل فوجدتها، القشرة الصفراء المرمية على الأرضية، إذ كان أحدهم قد أكل الموْزة، أكلها ورمى القشرة في المراحيض. ومن المؤكد إنه كان مذعوراً ومتعجلاُ، لهذا لم يتصرف بالطريقة المثلى، كأن يرميها مثلاُ في البالوعة. وأعترف بأني لم أكن وقتها قد أحسنتُ التصرف أيضا. في الحقيقة خفتُ من رميها في المراحيض، فأكون متستراً على الجريمة، فمن المفروض في كلّ الأحوال أن أبلّغ عن هذا الشيء الذي اضطرب المطار كله بشأنه، ولم يكن باستطاعتي كذلك أن أدسها في جيبي قبل انتظارفرصةَ آمنة لرميها بعيداً، نعم لن استطيع لأن الرائحة سوف تنبعث على الأغلب، وسوف يكون الأمرأكثر سوءاً، لأني حينها سأكون المتهم الرئيس في القضية.

السؤالُ الصعب الذي واجهني قبل أن أفتحَ الباب: مَنْ سيصدقني!!، قلت لنفسي وأضفتُ: حتى إثبات البراءةَ يحتاج الى زمنٍ طويلٍ، خلال ذلك سوف أرى نجوم الظهر. رغم ذلك تجاوزت هذه الفكرة رغم جديتها، حملتُ القشرة بيدٍ مرتعشةٍ، وكنتُ قد قررت أن أمضي في طريقي الى مكتب الأمن، يداي ترتجفان، بل جسدي كله استجاب لتأثيرات تلك الورطة، لكني قررت أن أنقل الحقيقةَ ببساطة، فالصدق كما يقولون طريق النجاة.

 

: وجدتُها على الأرضية عندما دخلت بيدي سطل لتنظيف المراحيض، وجدت القشرة وحسب ولا أعرف حقاً من أكل الموزة ورمى القشرة هناك.

وكان الحادثُ قد انتشرَ منذ ساعتين، عناصر الأمن أثناء ذلك كانوا يتحركون باضطرابٍ شديدٍ في كلّ الاتجاهات، كأن انقلابا عسكريا على وشك الوقوع. وفي تلك اللحظة التي فتحتُ فيها بابَ المراحيض، وجدته أمامي، العقيد ضابط الأمن بنفسه، شاهدَ هذا الشيء الأصفر الذي أحمله، ركزَ في عينيّ، وكانت نظراته قد أصابت قلبي حتى كدتُ أن أسقط مثل الخشبة، جفتْ شفتاي والتصقتا على بعضضهما فلم أستطع النطق، ممرات حنجرتي امتلأتْ بسائلٍ حامض اختلطت فيه مرارةٌ غريبةُ، وتكهربتْ أطرافي. وكان واضحاً في ملامح العقيد الفرح لكشف السرقة، ممتزجاً بالغضب الذي يمكن أن يتحول جسدي بسببه الى كيس ملاكمةٍ لقبضته الكبيرة. أثناء ذلك كنت أحدق في العقيد مثل الأبله، بينما القشرة الصفراء في يدي، كانت دليلاً قاطعاً على الجريمة.

وحينما انطلقت بنا السيارةُ الى مديرية الأمن، كانت القشرة قد تركت أثراً لرائحةٍ بين أصابعي، شممتُ يدي ثم مسحت باطن كفي أيضا على فخذي، علقتْ بعض الالياف الرقيقة في نسيج البنطلون، بينما نظراتي الهائمة تحاول فتخ حوارٍ مع عيون الرجال العشرة، زملائي المتهمين في هذه القضية، والذين غرقوا على الأرحج في مونولوج داخلي، من المؤكد أنه بنسخةٍ واحدةٍ، الكلمات نفسها، و ليس أسهل على أي منا في تلك اللحظات المريرة تخيل ماذا سيحدث!

لن أطيل عليكم لأن الحكايةَ بسيطةً فعلاً، ربما كانت مضحكةً، لها تأثير مشهد نُفذَ بإسلوب الكوميديا السوداء، بسيطة ولاتحتاج للكثير من الشرح. فالطائرة التي هبطت في المطار عند الساعة الثامنة صباحاً، كانت تحمل بالإضافة لأشياء أخرى، وجبة جديدة من الموز الى القصر الرئاسي، و الموز في تلك الأيام لايمكن أن يصل لغير القصر الجمهوري ، ربما لبيوت بعض المسؤلين الكبار، السادة المرتبطين مباشرة بالرئيس نفسه. لم يذق أيّ من البالغين من عامة السكان طعمه من سنوات، أمّا الاطفال إعتباراُ من عام واحدٍ الى عشرة أعوام، لم يعرفوا طعمه أصلاً، لم يلمسوه باصابعهم حتى، ولم يروه بشكل واقعيّ، ربما في الصور، أو في التلفزيون.

وما حدث في ذلك الصباح، إن عبوة ًصغيرةً، كارتون من الموز كان قد سُرق أثناء تحويلِ الوجبة من الطائرة الى الشاحنة. حسناً، كان من الممكن أن يسير الأمر بشكل مغاير لولم يكن السارق قد تورط بحمل الكارتون، ثم شعر بالذعر ولم يجد طريقة ًلتهريبه خارج بناية المطار، هيمن عليه الاضطراب والندم واليأس وقلة الحيلة فرماه في مكان ما، لكنه أخذ لغبائه موزة، اصبع موزٍ واحدٍ فقط، ربما كان يريد أن يحملهه لطفله، لكنه في النهاية أكله، وكما قلت لكم ، رمى القشرة في المراحيض التي دخلتها في يدي سطلٌ عند الساعة العاشرة.

و فيما بعد، أَدرج القاضي عدةَ تُهمٍ ضدي، وأرقام المواد القانونية التي نطق بها كانت مخيفة ًرغم أني لا أعرف ماذا تعني بالضبط. وفي النهاية فهمتُ إن سرقةَ كارتونٍ من الموزبمثابة رسالة سخرية وتحدي الى الرئيس، شيء يتضمن أني استطعتُ أن اضحكَ على الرئيس نفسه، والرئيس شعر بأن شخصاً ضئيلاً يشبه الحشرة استطاع السطو على ممتلكاته ليقول له: لقد سرقتكَ ايها الرئيس ولم أخف منك. وبالطبع لاتبدوهذه الجملة لوحدها كافية للحكم بالإعدام، أُضيفت لقرار الحكم بعض التهم كي تكتمل أركان الجريمة.

لقد شنقوني وأذكر ذلك اليوم، كان صباح أربعاء غائم، عند الساعة العاشرة تماماً، وكانوا قد قالوا لي في مساء اليوم السابق

: حضّر نفسك، اغتسل، صل، اطلب المغفرة من رب العالمين.

ولأني لم أفعل شيئاً يستحق طلب المغفرة، لم أفعل شيئا من كل هذا، كنتُ بحاجة لكي أبكي، وأن أخاطب الله، أن أاسأله هل يرضى بذلك، ولماذا لم يتدخل!، كنت أريد أن أقول له

: هل يعجبكَ مشهد الشنق.

ثم قلت لهم

: أريد أن آكل موزة!!!!

لم يجبني الضابط، ذهب وقد ظهر عليه شيء من الأسى، أو عدم الاهتمام لاأدري. وفي لحظة التنفيذ كانتْ بيدي موزة صغيرة، صغيرة بشكل مأساوي لكنها ناضجة، قشّرها الشرطي ففاحت منها رائحة غريبة لايمكن أن تكون هي نفسها رائحة الموز، وضعها في فمي كلها. حين مضغتها كان طعمها مراّ، لم أذقْ في حياتي شيئا بمثل هذه المرارة، بصقتها، سقطت العجينة الليفية تحت قدميّ، وسالَ لعابٌ مرّ من فمي حتى وصل عنقي قبل أن يضغط الحبل عليه، وتتأرجح قدماي في الفراغ.

 

مقالات من نفس القسم

تراب الحكايات
موقع الكتابة

خلخال