مراجعة د. خالد عزب
كتاب أساطير الأمم للأستاذ قدري قلعجي صدرت طبعته الحديثة عن الدار المصرية اللبنانية ضمن سلسلة كلاسيكيات وهو من تقديم وتحقيق أيمن منصور ومراجعة خالد عزب، وصدرت طبعته الأولى ضمن منشورات دار المكشوف بيروت 1941.
وكتاب أساطير الأمم في نسخته الأصلية كتاب صغير إلا أنه شيق وممتع فهو ملئ بالقصص والحكايات والأساطير ، إلا أن نسخته الحديثة والصادرة عن الدار المصرية اللبنانية قد اكتسبت قيمة إضافية هامة وهى المقدمة التي قام بها الباحث أيمن منصور والذي قدم من خلالها دراسة رائعة عن موضوع ( الأسطورة ) وماهيتها وكيف نفهمها ومداخل دراستها وماهي أنواعها وسماتها وما هو ( علم الأساطير ) وما هم الفرق بين الأساطير والحكايات الشعبية ، كما قدم الباحث كذلك لترجمة للمؤلف الأستاذ قلعجي وعرض لمؤلفاته واسهاماته في العمل الثقافي العربي ، مع عرض نقدي لكتاب ( أساطير الأمم ) ومعه دراسة موجزة وثرية عن المجتمعات والثقافات التي أنتجت تلك الأساطير .
ولعل من أهم ما ورد في هذه المقدمة ما كتبه المحقق عن كيف نشأت هذه المجتمعات؟ وكيف تكون عقلها الجمعي؟ وما هي أفكارها ومعتقداتها وبيئتها؟ والتي كانت سببا في صياغة المكون الثقافي الكامل لكل مجتمع منها، والذي أنتج بدوره تلك الأساطير والحكايات التي تجسد تلك الأفكار والمعتقدات في صياغة أدبية مرنة، الأمر الذي أدى الي سهولة حفظها وتداولها عبر العصور، مع توضيح التركيبة السكانية لكل مجتمع وأثر تزاوج وتداخل الجماعات البشرية المختلفة في تشكيل هذا المجتمع، وذلك حيث ان الأساطير ليست نتاج خيال فردي أو حكمة شخص بعينه، بل هي ظاهرة جمعية تعبر عن أفكار الجماعة وتأملاتها وحكمتها وخلاصة ثقافتها.
وقد بدأ محقق الكتاب بعرض (الأساطير اليونانية) وهي تلك القصص التراثية القديمة التي خلفتها الحضارة اليونانية والتي اهتمت في الأساس بقصص المعبودات وكيف نشأت والأبطال الخارقين وطبيعة العالم وكانت تعد جزء من دين أهل اليونان القدماء، ومنها عرفنا قصص زيوس وأثينا وأبوللو وهرقل البطل الخارق وأورفيوس عازف القيثارة الأسطوري الذي يستطيع بعزفه تهدئة عناصر الطبيعة وهو من يفتن النباتات والحيوانات ويسحر الناس، وهو بطل الأسطورة الشهيرة (أورفيوس ويوريديس) والتي وردت كاملة بالكتاب.
ثم يتناول المحقق (الأساطير الفرنسية) وهي تلك الحكايات والقصص التي أنتجتها مجموعة مختلفة من الشعوب التي تعيش بالمنطقة التي تشملها فرنسا اليوم ويتم تداولها وتناقلها باعتبارها جزءا من تاريخ تلك الشعوب ومنها قبائل الغال والتيوتون والفرنجة ، وقد تنوعت هذه الأساطير وشملت أساطير تخص الأرباب والمعبودات والأبطال الخارقين بالإضافة الى ما يمكن تسميته بالحكايات الشعبية ويرجع تاريخ تلك الأساطير إلى القرنين الثاني والثالث الميلادي واستمرت حتى بدايات الدولة الفرنسية الحالية وذلك مع نهايات القرن الثامن عشر الميلادي.
ومن الشعوب التي تناولها الكتاب بالدراسة الشعوب الإنجليزية والتي انتجت ما يعرف ب (الأساطير الإنجليزية) وهى أساطير القبائل التي عاشت على الجزر البريطانية قديما ويرجع تاريخها غلي العصر البرونزي حوالى 1500 قبل الميلاد وكان لهم تأثير واضح على الحكايات الشعبية التي أستمرت حتى العصر المسيحي في بريطانيا ، ومع انتشار الفكر الديني المسيحي تم دمج عناصر من الثقافة القديمة مع الثقافة المسيحية الجديدة ليكونا معا ثقافة محاية جديدة مليئة بالأفكار الأسطورية وبقصص البطال الخارقين ومن أشهر هذه الصص شخصية الملك آرثر الشهير ، وهو من أبرز وأهم الرموز الأسطورية في الثقافة البريطانية على مر العصور .
ثم يعرض الباحث ايمن منصور ل (الأساطير الألمانية) وهي تلك الأساطير التي يرجع أقدمها الى القبائل المعروفة باسم القبائل الجرمانية وذلك في القرن الثاني قبل الميلاد وتذكر المصادر أن القبائل الجرمانية كانت شعوب زراعية يعتمد أهلها على الفلاحة وتربية الحيوانات مما أكسبهم حياة هادئة شبه مستقرة مما أتاح لهم الفرصة للإنتاج الفكري والديني فقد كان لهم قوانينهم وعاداتهم ودينهم وكذلك أساطيرهم.
ومن أقدم المصادر التي حفظت نماذج من هذه الأساطير هو كتاب المؤرخ سنوري ستورلسون Snorri sturluson 1220ميلادي وهو كتاب يحتوي علي قصص أسطورية ونماذج من النثر والشعر تعرض لأساطير عن بداية الخلق وإعادة الحياة للعالم ، كما يعرض كذلك لأساطير الأبطال الخارقين و أساطير لبطلات خارقة للطبيعة وتتضمن كذلك أحداث يبدو أنها أحداثا تاريخية حقيقية إلا أنها كعادة الأساطير في كل زمان ومكان اندمجت مع قصص المعبودات والكائنات الخارقة لتنتج عملاً ادبياً جديداً ذو ملامح تميز عصره وأهله.
ثم يتناول الكتاب (الأساطير الإيطالية) حيث عاش على أرض إيطاليا عدد من الشعوب والجماعات البشرية المختلفة والمتنوعة في أصولها ولغتها وثقافتها، وقد تأثرت تلك الشعوب تأثر واضح باليونان القديمة وعاداتها وتقاليدها وذلك بسبب التقارب الجغرافي بين إيطاليا واليونان.
ويمثل الإتروسكان أهم الشعوب التي استعمرت إيطاليا القديمة وتؤرخ عادة بداية ظهور ثقافة أتروسكانية إلي 900ق.م ، وينسب لهذه الثقافة العديد من المظاهر الحضارية المميزة فقد كان لهم أبجدية خاصة ولهم طرازهم المعماري والفني كما كان لهم دينهم والذي كان له أثر علي الثقافة الرومانية اللاحقة له ، وتقدم المصادر اليونانية صورة واضحة عن معتقدات أهل هذه الحضارة واعتقادهم في المعبودات التي تحكم العالم وأن كل عناصر الكون متكاملة ومتصلة وأن الإنسان ليس سوي عنصر صغير في هذا الكون الشاسع الممتد وأن الحيوانات والطيور مصدر محتمل للمعرفة الإلهية وأنهم اعتقدوا بشدة في الأساطير والتي تؤكد على دور واهمية المعبودات في كل تفاصيل الحياة .
ومن أهم ما تناوله المحقق في المقدمة موضوع (الأساطير اليابانية) فقد شكلت الظروف الطبيعية والجغرافية لليابان منذ القدم بيئة مثالية للإبداع فشواطئها المتعددة ونباتاتها المتنوعة وجبالها الرائعة جعل كل ذلك منها بلداً غنياً في المواقع التي ليس لها مثيل، ومما لا شك فيه أن الحساسية المرهفة والأصالة الفنية اللتين نجدهما في كل مرحلة من مراحل تاريخ اليابان إنما غزاهما جمال هذا الإرث الطبيعي النادر المثال ، وينتسب اليابانيون إلي العنصر المنغولي والذي يضم كذلك الصينيين والكوريين ويذكر البعض أن من الشعوب الأولي التي سكنت اليابان شعب الأينو وهم مجموعة بشرية من العنصر القوقازي المبكر قد اختلطوا بالسكان اليابانيين وذابوا فيهم ولكن بعد أن تركوا لأحفادهم بعض الملامح الجسدية المميزة والخاصة بالجنس القوقازي ، وقد بقيت بعض الأساطير والعادات الاجتماعية التي تؤيد ذلك ، إلا أن التحركات البشرية الواسعة القادمة من الصين والتي وصلت اليابان على دفعات متتالية قد أكدتها الأدلة الأثرية وتؤرخ الألف الثاني قبل الميلاد.
ومن أهم ما وصل إلينا من هذه الفترة كتابان عن تاريخ اليابان كتبا على طريقة الحوليات أولهما هو النيهونجي والثاني هو كوجيكي وهو أكثر تواضعاً من الأول وكتب بخليط من اللغة الصينية واللغة اليابانية، هذان الكتابان اللذان كانا تجميعاً للمعلومات التاريخية في عصرهما وشهادة علي الحقبة التالية للعام 400 الميلادي ونجد فيهما كذلك كتابات ميثولوجيه عديدة مصدرها الروايات الشفوية التي وصلت إليهم من الزمن القديم ، و كتاب الكوجيكي لم يفقد أبداً بريقه عند الشعب الياباني والذي استخلص منه حكايات شعبية وقصص للأطفال وأساطير تروى حتي عصرنا الحالي ، كل حكاية من هذه الحكايات خلاصة تجربة فردية أو جماعية داخل المجتمع الياباني ومرتبطة بشكل جوهري بالتراث الروحي الياباني الثري جدا بالأساطير والحكايات الشعبية.
ثم يعرض الكتاب بعد ذلك لـ (الأساطير العربية) فقد كان للعرب مثلهم مثل باقي المجتمعات البشرية عبر التاريخ أساطيرهم الخاصة والتي عبروا بها عن أفكارهم وخيالاتهم تجاه الحياة الطبيعية وعناصرها ، وينسب العرب وهم القوم الذين عاشوا في منطقة الجزيرة العربية بشكل عام إلي الجنس السامي وينسب إلي هذه السلالة كذلك الأشوريين واليابانيين وغيرهم من ساكني مناطق شمال وغرب الجزيرة العربية وهم أقوام كان لهم تراث حضاري ضخم ، العرب القدماء كان لهم حياة فكرية ودينية خاصة بهم فقد عرفوا تعدد المعبودات فكان لكل قبيلة منهم معبود قومي خاص بهم يعتبرونه حاميا لهم ورابطة تربط بين وحداتهم ، وكان لهم كذلك معبودات ثانوية أخرى وكانوا يصنعون لهم التماثيل ليؤدوا عندها طقوسهم ويقربوا قرابينهم، كما أنهم قد عبدوا مظاهر الطبيعة كالشمس والقمر والنجوم بل وبعض الحيوانات التي رءوا فيها قوي خارقة مثل الأسد والكلب وغيرهم حتى أنهم تسموا باسم الحيوان مثل بنو أسد وبنو كلب وبنو عنز ومثلت عقائدهم وأفكارهم وتصوراتهم عن الحياة وعلاقاتهم بالكائنات من حولهم بداية للفكر الأسطوري ، ومع انتشار الإسلام في الجزيرة العربية والذي قضى بدوره على الكثير من تلك الأفكار واستبدلها بعقيدة الإسلام والتي قوامها الايمان بالله الواحد الأحد ، إلا أن بعضا من هذا التراث استمر في العقلية العربية وأعيدت صياغته بصياغة إسلامية ولعل أهم مثال على ذلك هو كتاب ألف لية ولية ورغم ان كثير من الباحثين يرون ان هذا الكتاب هو مزيج من التراث العربي والتراث الفارسي والتراث الهندي ، إلا أنه وبلا شك ان كاتب هذا الكتاب هو كاتب عربي قديم غير معروف ولكن أثر ثقافته ومعتقداته وافكاره ظاهر وواضح في أساطير ألف ليلة ولية وحكاياتها .
ومن الأساطير العربية ينتقل المحقق ليعرض للقارئ (الأساطير الإسبانية) حيث كان للموقع الجغرافي لإسبانيا أثرا ً كبيراً في شخصيتها وتراثها وثقافتها على امتداد العصور، فوقوع اسبانيا جنوب القارة الأوروبية مع ساحل ممتد على البحر المتوسط واطلالة أخرى على المحيط الأطلسي مع قرب من ساحل شمال افريقيا، كل ذلك جعل منها مركزا استراتيجيا لتلاقي الأعراق والجماعات والشعوب المختلفة مما جعلها كذلك محورا للتبادل والتلاقح الثقافي بين ثقافات وحضارات متعددة ، فقد تنوعت الشعوب والجماعات البشرية التي استقرت لفترة طالت أو قصرت على أرض إسبانيا منذ أقدم العصور، وكانت سببا في تشكيل تراثها من الحكايات الشعبية والأساطير المليئة بتصوير الجن والأرواح الطيبة منها والشريرة .
وختاماً لرحلة استكشاف المجتمعات والحضارات التي أنتجت هذا الكم العظيم من القصص والأساطير يختم الباحث ومحقق الكتاب بعرض لـ الأساطير الفرعونية (أساطير مصر القديمة) تتميز مصر بموقعها الجغرافي الفريد، حيث تقع شمال شرق قارة افريقيا وبها جزء متصل بقارة آسيا وهو شبه جزيرة سيناء وتطل على بحرين (الأحمر والأبيض) ويشقها من الجنوب للشمال نهر النيل، وهي بذلك تعتبر مركزا نموذجيا لتلاقي شعوب آسيا مع أفريقيا والعكس، ولذلك كانت مصر دائما وابدا ذات مكون ثقافي متميز وفريد ويعكس بشدة خصائصها المادية ولثقافتها الفريدة، ويزخر تراث مصر بالعديد من المصادر التي حفظت لنا الفكر الديني عند المصري القديم ولعل من أهمها وأقدمها تلك النصوص المعروفة باسم متون الأهرام، ويعتقد كثير من علماء المصريات أن زمن كتابة هذه النصوص أو بعضها على الأقل يرجع الي عصور سحيقة فهي تتحدث عن طقوس تبدو مرتبطة بعصور بدائية تعود الي ما قبل التاريخ ، ويرى الباحثون أن ما يسمى بالنصوص السحرية وهى جزء من متون الأهرام قد يكون وريث تراث شفاهي عتيق ، وتعد هذه النصوص بما تضمنته من حكايات وقصص هي المصدر الأساسي لمعرفتنا بالأساطير المصرية القديمة بشكل عام، فهي مليئة بقصص المعبودات و حكايات الكائنات السماوية ولكل معبود أسطورته الخاصة ، ومن أشهر هذه الأساطير أسطورة ايزيس وأوزيريس والتي تصور الصراع الأزلي بين الخير والشر وكيف ينتصر الخير على الشر حتى وان علا الشر لفترة من الزمن.
………………………..
*صدر عن إصدارات الدار المصرية اللبنانية – سلسلة كلاسيكيات